الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دَخَل الجَنَّة وما صَلَّى للهِ صلاة

دَخَل الجَنَّة وما صَلَّى للهِ صلاة

دَخَل الجَنَّة وما صَلَّى للهِ صلاة

كتب الله تعالى على الناس أن يُبعثوا على ما ماتوا عليه، فمَنْ مات على عملٍ سييء بُعِث عليه، ومَنْ مات على عملٍ صالح بُعِث عليه، وكان علامة على حُسْنِ خاتمته. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُبعَثُ كُلّ عبدٍ على ما مات عليه) رواه مسلم. قال المناوي: "وكل إنسان يُحْشَر على ما كان عليه في الدنيا، ولهذا ورد أن كل إنسان يحشر على ما مات عليه".

الأعمال بالخواتيم درس علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه والمسلمين من بعدهم، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يدركه ما سبق له في الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يدركه ما سبق له في الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) رواه البخاري. وهذا ما ظهر بصورة واقعية في غزوة أحد من عمرو بن ثابت بن أقيش الأنصاري الذي قُتِل شهيداً ولم يسجد لله سجدة.
قال ابن الأثير: "عمرو بن ثابت بن وَقْش بن زُغْبة بن زعوراء بن عبد الأشْهَل الأنصاري الأوسي الأشهلي وهو أخو سلمة بن ثابت، وابن عم عَبَّاد بن بِشْر، ويعرف عمرو بأُصَيْرم بني عبد الأشهل، وهو ابن أخت حذيفة بن اليمان، استشهد يوم أحد، وهو الذي قيل: إنه دخل الجنة ولم يُصلِّ صلاة".
في معركة أحد، والمسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم مُتّجهون إلى المعركة، فتح الله قلب عمرو بن ثابت بن وقش للإسلام، فأسلم، وعلم أن المسلمين ذهبوا للجهاد، فحمل سيفه ولحق بهم مجاهداً في سبيل الله، فقاتل حتى أثخنته الجراح، وبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، وهو في الرّمق الأخير، فدُهِشوا حين رأوه لِمَا يعرفون من كفره، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم، ما جاء به؟! فسألوه فأخبرهم الخبر، فذكروا أمره للنبي صلى الله عليه وسلّم فقال: (إنه لمن أهل الجنة)، فكان هو الذي دخل الجنة، ولم يركع لله ركعة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: "حدثوني (أخبروني) عن رجل دخل الجنة لم يُصل قَطْ، فإذا لم يعرفه الناس، سألوه: مَنْ هو؟ فيقول: أصيرم بني عبد الأشهل، عمرو بن ثابت بن وقش، قال الحصين: فقلتُ لمحمود بن لبيد: كيف كان شأن الأصيرم؟ قال: كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، بدا له الإسلام، فأسلم، فأخذ سيفه، فغدا حتى أتى القوم، فدخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، قال: فبينما رجال بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة، إذا هم به، فقالوا: والله، إن هذا للأصيرم، وما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث، فسألوه: ما جاء به؟ قالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أحَرْباً على قومك، أو رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، آمنتُ بالله ورسوله، وأسلمتُ، ثم أخذتُ سيفي، فغدوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلتُ حتى أصابني ما أصابني، قال: ثم لم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه لمن أهل الجنة) رواه أحمد.
وفي رواية لأبي داود وحسنها الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن عمرو بن أُقَيْشٍ كان له رِبَاً (مالُ رِبَا عند بعض الكافرين) في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يومُ أحد فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحُد (غزوة ومعركة أحد)، قال: أين فلان؟ قالوا: بأحُد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد، فلبس لأمتَهُ وركب فرسه ثم توجه قِبَلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو، قال: أني آمنتُ، فقاتل حتى جُرِح، فحُمِل إلى أهله جريحاً، فجاءه سعد بن معاذ فقال لأخته: سليه حمية لقومك، أو غضباً لهم، أمْ غضباً لله؟ فقال: بل غضباً لله ورسوله، فمات فدخل الجنة وما صلى لله صلاة).
قال الشيخ ابن عثيمين: "واذكروا قصة الأصيرم من بني عبد الأشهل من الأنصار، كان منابذا للدعوة الإسلامية عدوا لها، ولما خرج الناس إلى غزوة أُحُد ألقى الله تعالى في قلبه الإيمان فآمن وخرج في الجهاد وقتل شهيداً، فجاء الناس بعد المعركة يتفقدون قتلاهم وإذا الرجل، فقالوا: ما الذي جاء بك يا فلان، أجئت حدباً (حُباً وعاطفة) على قومك، أم رغبة في الإسلام، قال: بل رغبة في الإسلام، ثم طلب منهم أن يقرؤوا على النبي صلى الله عليه وسلم السلام، فصار هذا ختامه أن قُتِل شهيداً مع أنه كان مُنابذاً للدعوة".
وقد ذكر البخاري في صحيحه حديثاً آخر يؤكد هذا المعنى عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: (أتى النبيَّ صلى اللَّه عليه وسلّم رجل مُقنّع (مغطى الوجه) بالحديد، فقال: يا رسول الله، أقاتل أوْ أُسْلِم؟ قال: أسْلِم، ثمّ قاتِل، فأسلم، ثم قاتل فقُتِل، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: عمل قليلا وأُجِرَ كثيراً).
قال ابن حجر: "قوله: "أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجل" لم أقف على اسمه، ووقع عند مسلم من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق أنه من الأنصار ثم من بني النبيت بفتح النون وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة فوق، ولولا ذلك لأمكن تفسيره بعمرو بن ثابت بن وقش بفتح الواو والقاف بعدها معجمة وهو المعروف بأصرم بن عبد الأشهل، فإن بني عبد الأشهل بطن من الأنصار من الأوس وهم غير بني النبيت".
وقال ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري: "قال المهلب: في هذا الحديث دليل أن الله يعطى الثواب الجزيل على العمل اليسير تفضلاً منه على عباده، فاستحق هذا نعيم الأبد في الجنة بإسلامه، وإن كان عمله قليلا".

مِنْ دروس السيرة النبوية الهامة التي تعلمها الصحابة رضوان الله عليهم والمسلمون مِن بعدهم: أن الناس في خواتيم حياتهم بين عبْدٍ يُخْتم له بخير، وآخر يُختم له بشر، فعلى المسلم أن يدعو الله دائماً بحُسْن الخاتمة، ويعمل بالأسباب التي توصل إليها، وأن يستعيذ بالله دائما من سوء الخاتمة، ويبتعد عن جميع الأسباب التي تؤدي لها.. واللهَ تعالى نسأل ان يرزقنا حُسن الخاتمة..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة