الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من رسالة الصوم

من رسالة الصوم

 من رسالة الصوم

لذاتِ الإنسان أفقٌ مشرقٌ يبددُ عنه ظلماتِ الحياة الدنيا، يأوي إليه كلما اشتدت تلك الظلمات بالأكدار والمنغصات، ويشعر بأن شيئا يدفعه للخلاص من قيود الشهوات المحرمة وإغراءاتها، والنجاة من غم الزمان ورزاياه، والفوز بالقبول من الله تبارك وتعالى، فيغسل روحه بأنوار الهداية، ويعود بعد أن أسرف في الخطايا إلى جادة الصواب، إلى أفضل النجدين وأسمى الطريقين : [إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا] ، وفي هذا الشهر المبارك تتجلى رحمة الله بعباده، حيث تُفتح أبواب السماء آناء الليل وأطراف النهار تستقبل التائبين المستغفرين العائدين من أسواق الدنيا البائرة إلى جادة الحق والصواب.

والصالحون تلقوا هذه النسمات الغيبية بما تستحق من إصغاء لصوتها، ومن حركة جليلة لسيرة حميدة تترجمها أقوال الناس وأفعالهم، قال لقمان لابنه : عوِّد لسانَك : "اللهم اغفر لي " فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلا ، ولقد ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت : "طوبى لمَن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا" وهنا يحور الإنسان الواعي إلى نفسه وفطرته، ويمتلكه الحنين إلى عالَم آخر يتحرَّاه المؤمن خلف آفاق الغيب، فتشرئب روحه التوَّاقة إلى وعد الله بالسعادة الأبدية التي ينالها العباد الصالحون بإيمانهم المطلق بربهم، وبكفرهم بكل أنواع الأوثان التي يعبدها الناس من دون الله : [إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ].

إن الشرك بالله سقوط بقيمة الإنسان الذي فضله الله وأكرمه، وهو باب الغضب الإلهي على هذا المشرك المسرف، الذي أغفل ما لله من عفو ومغفرة، فلو قام العبد يريد الله بصدق لمشى الله إليه برحمته وعفوه، ولو مشى العبد إلى الله بهمة وصدق لهرول إليه ربُّ العزة والجلال، فلطف الله ورحمته لا حدود لهما، فالإقبال على الله بتوبة صادقة هي بادرة التغيير في النفس، وعلى عتباتها يمحو الله ما كان من عبده و (الإسلام يهدم ما قبله) كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبالتوبة والاستغفار يشعر المسلم بالقوة، ويأمن من العذا، ويحظى بجنة الله ورضوانه وبالعز والسعادة التي ينشدها الناس في دنياهم : يقول سبحانه : [ ويزدكم قوة] ، ويقول عزَّ وجلَّ : [وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون] ، ويقول تعالى : [يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات، ويجعل لكم أنهارا] فهل بعد هذا من خير ؟ إذن : [أفلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ] .

إنها رسالة الرحمة الإلهية للخلق أجمعين، فإن الله أراد لهم سعادة الدارين، فسخر لهم ما في الأرض، وهيأ لهم أسباب تلك السعادة على أبهى وأجلى صورها، ومهد لهم بعفوه سبل النجاة، وأوقد لهم معالم الفوز على طريق الحياة، ولم يدع من خير إلا وأمر للأخذ به، ولم يدع من شر إلا وحذَّرهم منه، وأشرع لهم بسابق رحمته أبواب الرضوان الأكبر، يقول الله تعالى في الحديث القدسي (أنا عند ظن عبدي بي؛ وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلى شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
وإنها دعوة من الله لعباده إلى صدق الإنابة وسمو التقوى التي تترجم تلك الإنابة بالعمل الصالح [منيبين إليه واتقوه].

وفي شهر الصوم تزدان أسواق الرضوان وتزدهر بالاعتكاف، حيث يتخلى المرء عن شهواته وملذاته وزياراته وبهرج دنياه، ويقبل بكليته على مولاه، والاعتكاف نوع من التربية الربانية الروحية، وهو السُّمُو الأعلى للنفس البشرية التي تناجي ربها وتقنت له، وتدخل بكليتها في ديوان رضاه، لتصوغ توجهها صياغة ربانية تقوم على توحيد الله والالتجاء إليه، ومن ثم تسعى في فعل الخير المتمثل في إعمار الأرض بالأمن، الأمن الذي يجد فيه الإنسان ذاته، فيسعد في رحاب هَدْيِ الله تبارك وتعالى، بعد أن نجح في حيازة وثيقة الإيمان.

فالإسلام بهذا يدعو إلى الزهد المتميز بالنقاء الروحي، أي بالظمأ إلى ما يرقى بالنفس الإنسانية، مع محافظته على حاجات الجسد للبقاء في خدمة ذلك الرقي، وهنا تتجلى ما للروح من تأثير سامٍ على الجسد، فإذا ما تغلبت شهوات الجسد على تأثير الروح، سقط الإنسان في يد الشيطان، فيأخذه إلى البوار في الدنيا، والخسران المبين في الآخرة .
إن العناية بسمو الروح تعني البدء بالسير على هدى وبصيرة من الله، وأما العناية بمتطلبات الجسد الحيواني فإنها ارتكاس وتدنٍّ إلى أسفل، حيث الشيطان ومساراته الهابطة .

وهنا يكون الصوم علاجا لهذا الارتكاس، ومنقذا من طغيان حاجات الجسد إذا لم تقيدْها شريعةُ الله، وتوجهها تعاليمُه القويمة .
ويكون الصوم سلاحا ذا أثر فاعل للانتصار على العدو البغيض للإنسان ألا وهو الشهوة المحرمة التي تكون حجابا بين العبد وربه سبحانه وتعالى . ويكون الصوم موسما للاستعداد بقبول مكارم الأخلاق للنفس، فبها يكون الإعمار للمجتمع الإنساني الذي يريده الإسلام على وجه الأرض .

فالجسد يصوم عن الطعام والشراب والشهوة، واللسان يصوم عن الغيبة والنميمة وشهادة الزور، والعين تصوم عن النظر إلى المحرمات ... وهكذا فإن جميع أعضاء الجسد تصوم عمَّا لا يحق لها أن تستبيحه في ليل أو نهار.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

ثقافة و فكر

من وظائف الأدب

كان ولا يزال للأدب دور محوري في حياة الشعوب، فالأدب أحد أعمدة البناء في المجتمعات كلها، فقد عرف الإنسان الحداء،...المزيد