الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دارِِها.. تسعَدْ بها

دارِِها.. تسعَدْ بها

دارِِها.. تسعَدْ بها

بوب الإمام البخاري في صحيحه بابا بعنوان: "بابُ المداراة مع الناس".. ثم أورد حديث أمنا عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً استأذن على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: بئسَ أخو العشيرة، وبئسَ ابن العشيرة، فلما جلس تطلَّقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسطَ إليه، فلما انطلق الرجلُ، قالت عائشة: يا رسول الله، حين رأيتَ الرجلَ قلتَ له كذا وكذا، ثم تطلَّقْتَ في وجهِه وانبسطْتَ إليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، متى عَهِدتني فحَّاشاً، إن شرَّ الناس عند اللهِ منزلةً يومَ القيامة من تركَه الناسُ اتقاءَ شرِّه)(رواه البخاري).
قال الإمام ابن حجر في شرحه في فتح الباري: "وهذا الحديث أصلٌ في المداراة".اهـ.

و"المداراة: هي الملاينة والملاطفة" كما قال المناوي. فهي ملاينة الناس، وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ينفروا عنك، ولذلك فهي مرغب فيها شرعا عند الحاجة إليها، قال ابن بطال: "المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة".

ومن أبواب المداراة الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك".

والمداراة دفع للشر والأذى وسوء الخلق بالتي هي أحسن ـ قولا أو فعلا، دون التنازل عن شيء من الدين، أو المداهنة بالرضا عن منكرـ كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصلت:34).

قال أبو الدرداء رضي الله عنه : "إنا لنكشر (نبتسم) في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم".
وليس في هذا موافقة على محرم ولا مداهنة في كلام، وإنما طلاقة وجه خاصة للمصلحة، ودفع شر من يداريه.

ولئن كان عبد الله بن عمر قال: "التودد إلى الناس نصف العقل". فقد قال الحسن البصري: "وأنا أقول: هي العقل كله". وقد قِيل: مَن هجر المداراة قارَنه المكروه.
ويروى عن الشافعي أنه قال:
إني أحيي عــدوي عنـد رؤيته .. .. لأدفع الشر عنـي بالتحيـات
وأظهر البشر للإنســان أبغضه .. .. كأنه قد حشى قلبي محبات
الناس داء وداء الناس قربهم . .. وفي الجفاء بهم قطع المـودات
فجامل الناس واجمل ما استطعت وكن أصم أبكم أعمى ذا تقيات

مداراة الزوج لزوجته
ولئن كان الإنسان يحتاج إلى هذا الخلق ـ أعني خلق المداراة ـ للتعامل مع الناس لدفع غوائلهم، والسلامة من أذاهم، فإنه أكثر حاجة إلى هذا الخلق في التعامل مع زوجته أو زوجاته.. فإنهن أولى الناس بالمداراة؛ وذلك لغلبة العاطفة عليهن وسرعة انفعالهن. فالمداراة من أهم الأخلاق وأنفعها لبقاء المودة والحب والتفاهم بين الزوجين، وهي سبب من أسباب تجاوز العقبات أمامهما.

وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج بأن يستعملوا هذا الخلق في بيوتهم ومع زوجاتهم؛ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استوصوا بالنساء خيراً، فإنهنَّ خُلِقنَ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا).

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ المرأة خُلِقَتْ من ضِلَعٍ، فإنْ أَقَمْتَها كسَرْتَها، فَدَارِها تَعِشْ بِها)(رواه ابن حبان وصححه الألباني).

قال المناوي: "أي: لاطفها ولاينها فإنك بذلك تبلغ ما تريده منها من الاستمتاع بها وحسن العشرة معها الذي هو أهم المعيشة".
وقال ابن حجر: "وفي الحديث الندب إلى المدَاراة لاستمالة النفوس، وتألف القلوب، وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهنَّ، والصبر على عوجهنَّ، وأنَّ من رام تقويمهنَّ فاته الانتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها، ويستعين بها على معاشه، فكأنَّه قال: الاستمتاع بها لا يتمُّ إلا بالصبر عليها".
ولذلك كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول لأم الدرداء رضي الله عنها: "إذا غضبتُ فرضِّني، وإذا غضبتِ رضّيتك، فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق".

النبي يداري زوجاته
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعمل هذا الخلق مع زوجاته وهن أعقل النساء وأزكاهن وأطهرهن وأفضلهن دينا وخلقا، ومما ورد في ذلك: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: (ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً قط؛ إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه)(رواه البخاري ومسلم).
فالرجل قد تأتيه زوجته بطعام، ولا يُعجبه فيُجاملها، ويُداري خاطرها، فهذه مجاملة ومُداراة، وهي مطلوبة.

ومن المداراة التغاضي عن بعض المواقف والتغافل عن بعض الهنات والأخطاء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فَضَرَبَتِ التي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أُتِيَ بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرَت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرت) رواه البخاري.
وقد اتفق أهل العلم على أن التي كسرت الإناء هي عائشة رضي الله عنها، وأن النبي صلوات الله عليه أبقى لها الإناء المكسور، وأرسل بإناء لها سليم إلى التي كُسر إناؤها وقال: (طعام بطعام، وإناء بإناء)(رواه الترمذي).

ولو احتاج إلى بعض الكذب

ولا تتوقف المداراة بين الزوجين على التغاضي عن الأخطاء، وعدم التشديد في المحاسبة بينهما، وإنما تتعداها إلى إباحة الكذب أحياناً رغم أن الكذب قبيح ومُحَرَّم ومنهي عنه، ولكن مع الزوجين استثناء، ليتحقق به مصالح أعظم، وتزول به مفاسد أكبر، فعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحلُّ الْكذبُ إلاّ في ثلاث: يحدِّثُ الرَّجلُ امرأته لِيُرْضِيَها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلحَ بين النَّاس)(رواه الترمذي وصححه الألباني).

والمقصود بالكذب بين الزوجين: الكذب في إظهار الود والمحبة لغرض دوام الألفة واستقرار الأسرة، وليس المراد بالكذب ما يؤدي إلى أكل الحقوق، أو الفرار من الواجبات ونحو ذلك، قال النووي: "وأما كذبه لزوجته وكذبها له فالمراد به في إظهار الود والوعد بما لا يلزم ونحو ذلك، فأما المخادعة في منع ما عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بإجماع المسلمين والله أعلم".

ما دمـــت حــيا فــدار النــاس كــلهم .. .. فإنما أنت في دار المداراة
من يدر دارى ومن لم يدر سوف يرى .. .. عما قليل نديماً للندامات

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

زوج .. وزوجة

تزين المرأة لزوجها أدوم للعشرة

الزينة بين الزوجين أساس الحياة السعيدة، وتزين المرأة لزوجها وتطيبها له، وزينة الرجل لزوجته واحتفاؤه بها من أقوى...المزيد