الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لفظ (الخيانة) في القرآن الكريم

لفظ (الخيانة) في القرآن الكريم

لفظ (الخيانة) في القرآن الكريم

تفيد معاجم اللغة أن مادة (خون) تدل من حيث وضعها اللغوي على أصل واحد، وهو التنقص؛ يقال: خانه يخونه خوناً. وذلك نقصان الوفاء. ويقال: تخونني فلان حقي، أي: تنقصني. وفي "المفردات" للراغب الأصفهاني أن الخيانة والنفاق واحد، إلا أن الخيانة تقال اعتباراً بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتباراً بالدين، ثم يتداخلان، فالخيانة: مخالَفة الحق بنقض العهد في السر. ونقيض الخيانة: الأمانة، يقال: خنت فلاناً، وخنت أمانة فلان. ويقال: رجل خائن، وخائنة، نحو: راوية، وداهية. و(الاختيان) مراودة الخيانة، قال تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} (البقرة:187) ولم يقل: تخونون أنفسكم؛ لأنه لم تكن منهم الخيانة، بل كان منهم الاختيان، فإن الاختيان تحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة.

ومادة (خون) بمشتقاتها وردت في القرآن في ستة عشر موضعاً، وردت بصيغة الفعل في سبعة مواضع، منها قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} (الأنفال:27). ووردت بصيغة الاسم في تسعة مواضع، منها قوله سبحانه: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} (غافر:19).

ومادة (خون) بمشتقاتها وردت في القرآن الكريم على معان، نذكر منها:

* الخيانة بمعنى الذنب والمعصية، جاء على ذلك قوله تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} (البقرة:187) يعني تقترفون المعصية، وتفعلون الذنب؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن}.

ونظير هذا قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول} (الأنفال:27) يعني: لا تعصوا الله ورسوله فيما أمركم به، قال ابن كثير: "أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشاروه في ذلك، فأشار عليهم بذلك -وأشار بيده إلى حلقه- أي: إنه الذبح، ثم فطن أبو لبابة، ورأى أنه قد خان الله ورسوله، فحلف لا يذوق ذواقاً حتى يموت، أو يتوب الله عليه، وانطلق إلى مسجد المدينة، فربط نفسه في سارية منه، فمكث كذلك تسعة أيام، حتى كاد يخر مغشيًّا عليه من الجهد، حتى أنزل الله توبته على رسوله.

ووفق هذا المعنى أيضاً قوله عز وجل: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} (غافر:19) روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، وفيهم المرأة الحسناء، أو تمر به، وبهم المرأة الحسناء، فإذا غفلوا لَحَظَ إليها، فإذا فطنوا غضَّ، فإذا غفلوا لَحَظَ، فإذا فطنوا غض بصره عنها، وقد اطلع الله من قلبه أنه ودَّ أن لو اطلع على فرجها.

* الخيانة التي تكون ضد الأمانة، فيخون بها، جاء وفق هذا المعنى قوله عز وجل: {ولا تكن للخائنين خصيما} (النساء:105) أي: ولا تكن لمن خان مسلماً، أو معاهداً في نفسه، أو ماله {خصيما} تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه. وقد ذكر المفسرون أن الآية نزلت في طعمة بن أبيرق -وكان رجلاً من الأنصار- سرق درعاً لعمه، كانت وديعة عنده، ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم، يقال له: زيد بن السمين. فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يهتف، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر، جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم. وعلى هذا المعنى قوله سبحانه: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} (النساء:107) يعني: يخونون أنفسهم، بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه ماله.

* الخيانة بمعنى نقض العهد، منه قوله تعالى: {ولا تزال تطلع على خائنة منهم} (المائدة:13) كانت خيانة يهود نقضهم العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومظاهرتهم المشركين على حربه صلى الله عليه وسلم، كيوم الأحزاب وغير ذلك من همهم بقتله وسبه. ونظير هذا قوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} (الأنفال:58) أي: إذا خفت من قوم غشًّا ونقضاً للعهد، فانبذ إليهم عهدهم.

* الخيانة بمعنى المخالفة في الدين، جاء على ذلك قوله تعالى: {وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل} (الأنفال:71) أي: كفروا بالله من قبل. ونحو هذا قوله عز وجل في حق امرأة نوح، وامرأة لوط: {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما} (التحريم:10) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ما بغت امرأة نبي قط. وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكر القشيري، إنما كانت خيانتهما في الدين، وكانتا مشركتين.

* الخيانة بمعنى الزنى، ومنه قوله تعالى: {ليعلم أني لم أخنه بالغيب أن الله لا يهدي كيد الخائنين} (يوسف:52) تقول امرأة العزيز في قصة يوسف عليه السلام: إنما اعترفت بهذا على نفسي؛ ليعلم زوجي أن لم أخنه في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة، فامتنع؛ فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة.

وبما تقدم يتبين أن لفظ (الخيانة) ورد في القرآن الكريم على خمسة معان، فورد بمعنى فعل المعصية والذنب، وأكثر ما ورد هذا اللفظ وفق هذا المعنى، وورد بمعنى الخيانة التي هي ضد الأمانة، وبمعنى نقض العهد، وبمعنى الخلاف في الدين، وبمعنى الزنا، وهو بهذا المعنى الأخير لم يرد إلا مرة واحدة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة