الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أنْفِق يا بلال، ولا تخْشَ مِنْ ذِي العَرْشِ إِقْلَالا

أنْفِق يا بلال، ولا تخْشَ مِنْ ذِي العَرْشِ إِقْلَالا

أنْفِق يا بلال، ولا تخْشَ مِنْ ذِي العَرْشِ إِقْلَالا

لم يكن نبينا صلى الله عليه وسلم يردّ سائلاً أو محتاجاً أبداً، ولو كان على حساب نفسه، إذ كان يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر، فكان صلوات الله وسلامه عليه المثل الأعلى والقدوة الحسنة في العطاء والجُود والإيثار، وقد قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (ما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قَطُّ فقال: لا) رواه البخاري. (فقال: لا) أي: إنْ كان عنده ما طُلِبَ منه أعطاه، أو يقول للسائل قولا ميسوراً من القول فيعده بقضاء حاجته أو يدعو له، فليس المراد أنه يعطي ما طُلِب منه جزماً، بل إنه لا ينطق بالرد أبدا: لا، فإن كان عنده المسؤول وساغ الإعطاء أعطى وإلا وعد بخير، قال النووي: "في هذا كله بيان عظيم سخائه وغزارة جُودِه صلى الله عليه وسلم، ومعناه ما سُئِل شيئا من متاع الدنيا".

ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم

عن سَهْلِ بن سعد رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ، فقال: سهل للقوم أتدرون ما الْبُرْدَة؟ فقال القوم: هي الشَّمْلَة، فقال سهل: هي شَمْلَةٌ منسوجة فيها حاشيتها، فقالت: يا رسول الله أَكْسُوك هذه؟ فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجاً إليها فلبسها، فرآها عليه رجل مِنَ الصحابة فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه فَاكْسُنِيهَا، فقال: نعم، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لَامَهُ أصحابه، قالوا: ما أحسنتَ حين رأيتَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجاً إليها ثم سألتُه إياها !!، وقد عَرَفْتَ أنه لا يُسأل شيئاً فيمنعه، فقال: رجوتُ بركتَها حين لَبِسَهَا النبي صلى الله عليه وسلم لَعَلِّي أُكَفَّنُ فيها) رواه البخاري، وفي رواية أخرى قال الصحابي: (والله إني ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه).
وفي هذا الموقف النبوي فوائد كثيرة، منها:
ـ عطاؤه وكرمه صلى الله عليه وسلم الذي وصل إلى درجة أنه لا يرد فيه سائلاً، وإيثاره لأصحابه على نفسه، وأن ذلك كان خُلُقه وعادته، لقول الأعرابي: (وقد عرفت أنه لا يُسأل شيئا فيمنعه)، وفي رواية أخرى: (ثم سألته وعلمت أنه لا يرُّد)، أي أن عدم رد السائل كان طبعه وخلقه دائما صلوات الله وسلامه عليه، وقد خلع النبي صلى الله عليه وسلم هذه البُرْدة للسائل بعد أن لبسها، رغم حاجته إليها.
ـ تعظيم الصحابة لكل ما لامس جسد النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن السائل ما طلب البردة ليلبسها، بل طلبها ليُكفَّن بها، قال الأعرابي: (رجوتُ بركتَها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أكفن فيها)، وعند البخاري: (قال سهل: فكانت كفنه). ولولا علم الصحابة رضوان الله عليهم بجواز ذلك، وأنها يمكن أن تنفعه في قبره لأنكروا عليه، وقد ثبتت بركة النبي صلى الله عليه وسلم بأدلة كثيرة قطعية اتفق عليها المسلمون سلفا وخلفاً، وقد رأى الصحابة رضوان الله عليهم هذه البركة بأعينهم، فكانوا يقتتلون على وضوئه، ويأخذوا من ريقه وعرقه، ويمسحوا أبدانهم بيده، ويحرصوا على ملامسته، وكل ذلك بمرأى منه وإقرار صلوات الله وسلامه عليه، وقد ثبت ذلك كله بأحاديث صحيحة.
ـ جواز التصرف في الهدية بإهداءٍ أو بيع أو هِبة، أو غير ذلك من التصرفات الجائزة شرعاً، وذلك أن الرجل بمجرد قبوله للهدية فقد امتلكها، ولا يشترط في تصرفه فيها الرجوع إلى مَنْ أهداها إليه، فقد كانت الهدايا تأتيه صلى الله عليه وسلم فيقبلها ويحتفظ بما شاء منها ويهدي ما شاء، وعلى المُهْدِي ألا يجد في نفسه حرجاً من فعل المُهْدَى إليه إن تصرف بهديته في وجه من وجوه الخير، لكن لو علم المُهْدَى إليه أنه إن أهدى هذه الهدية لغيره، ربما يتأثر بذلك المُهْدِي فإنه يُخْفِي عنه ذلك، مراعاة لشعوره ونفسه.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما عندي شيء، ولكن ابتع عليَّ، فإذا جاءني شيء قضيته. فقال عمر: يا رسول الله، قد أعطيته، فما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره صلى الله عليه وسلم قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعُرِف في وجهه البِشْر لقول الأنصاري، ثم قال: بهذا أُمِرتُ) رواه الترمذي وضعفه الألباني.

وعلى مثل هذا الخلق النبيل ـ من الكرم والجود والعطاء والإيثار ـ كان النبي صلى الله عليه وسلم يربّي أصحابه، فقد ذكر الطبراني في الكبير وأحمد في الزهد، والبيهقي في الشعب، والبزار في المسند وغيرهم عن جماعة من الصحابة بألفاظ متقاربة أنه صلى الله عليه وسلم قال لبلال رضي الله عنه: (أَنْفِقْ بِلَالُ، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا) صححه الألباني في الصحيحة.
قال القاضي عياض: "(ولكن ابتع علي) أمر من الابتياع أي: اشتر واستلف.. (فإذا جاءنا) أي من عند الله (شيء) اي مما أولاه (قضيناه) أي حكمنا به لك أو أديناه عنك، (فقال له عمر) أي بناء على نظر الرحمة إليه (ما كلفك الله ما لا تقدر عليه) أي من تحمل الدَيْن.. (فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك) بناء على جَبْرِ خاطر السائل وما يعتريه من خيبة الأمل.. (فقال) له (رجل من الأنصار) قيل هو بلال لكنه من المهاجرين، وقد يُجمع بأنها قالا له، والإمام الغزالي مال إلى جعل القائل نفس السائل حيث قال في الإحياء: فقال الرجل: (يا رسول الله أنفق)، أي بلالا، (ولا تخش) أي لا تخف كما في نسخة، (من ذي العرش إقلالا) أي تقليلا، فإن المُلْكَ كله ملك لصاحب العرش سبحانه وتعالى تعظيما وتبجيلا، (فتبسم صلى الله عليه وسلم) أي انشراحا بمن تكلم، (وعُرِفَ البِشْرُ) بصيغة المجهول أي وظهرت البشاشة والطلاقة وآثار السرور وظهور النور (في وجهه) أي بتهلله وإشراق خده ولله در القائل:

تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله

(وقال: بهذا أُمِرْتُ) أي بهذا الكرم أمرني ربي قبل ذلك أو جاءني جبريل على وفق ما هنالك. ذكره الترمذي أي في شمائله". وفي الحديث الذي رواه مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اللهَ قال لي: أَنفِق أُنفِق عليك).

لقد بلَغ من كرمه وجوده وحيائه صلى الله عليه وسلم أنه ما سُئل شيئًا قطُّ فقال: لا، إما أن يجيب سؤال السائل بما سأل أو أكثر منه، وإما أن يردَّه بمَيسور من القول إن لم يكن عنده شيء، وقد عبّر أحد الأعراب عن مدى جود وكرم وعطاء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لقومه: (يا قوم أسلموا، فوالله إن محمداً ليعطي عطاء من لا يخاف الفقر) رواه مسلم. وكان عطاؤه وجوده صلى الله عليه وسلم كلّه لله عز وجل، وكان يبذل المال إما لفقير أو محتاج، أو ينفقه في سبيل الله، أو يتألف به على الإسلام، وكان يُؤثر على نفسه وأهله وأولاده، وقد قال لبلال رضي الله عنه: (أنفق بلال، ولا تَخْشَ من ذي العرش إقلالا).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة