الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

يا أبا بَكْرٍ، لعَلَّك أغْضَبْتَهُمْ

يا أبا بَكْرٍ، لعَلَّك أغْضَبْتَهُمْ

يا أبا بَكْرٍ، لعَلَّك أغْضَبْتَهُمْ

مراعاة مشاعر الناس تزيد في الود والحب، وتؤلف بين قلوب أفراد المجتمع، وهي مِن هَدْي نبينا صلى الله عليه وسلم وشمائله، ومن الأمور التي اهتم بها وأكد عليها. والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأمثلة الدالة على مراعاة مشاعر الآخرين، ومن هذه المواقف: ما حدث حين مَرَّ أبو سفيان ـ قبل إسلامه ـ على سلمان وصهيب وبلال ـ رضي الله عنهم ـ بعد صلح الحديبية، فقالوا: "والله ما أخذت سيوف الله من عُنُق عدو الله مأخذها"، ويقصدون أبا سفيان لِمَا فعله بهم في مكة، فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه: "أتقولون هذا لشيخ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟!"، ثم ذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما دار بينه وبين أصحابه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر لعلك أغضبْتَهم)، أي: قدْ تكون أغضبتهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولئن كنتَ أغضبتهم لقد أغضبت ربك).

وهذا الموقف رواه مسلم في صحيحه عن عائذ بن عمرو رضي الله عنه: (أن أبا سفيان أتى على سلمان وبلال وصهيب في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها (حقها منه لما فعله بهم)، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟! فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: يا أبا بكرٍ، لعلك أغْضَبْتَهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبتَ ربَّك، فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي).
قال النووي: "وهذا الإتيان لأبي سفيان كان وهو كافر في الهدنة بعد صلح الحديبية، وفي هذا فضيلة ظاهرة لسلمان ورفقته هؤلاء، وفيه مراعاة قلوب الضعفاء وأهل الدين وإكرامهم وملاطفتهم". وقال ابن الجوزي: "وقوله: "لَعَلَّك أغضبتهم" تعْظيم لهم، لأن الحق عز وجل أوصاه بهم وبأمثالهم من الفقراء والموالي بقوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}(الأنعام:52)، وقوله: {وَإِذا جَاءَك الَّذين يُؤمنُونَ بِآيَاتِنَا فَقل سَلام عَلَيْكُم}(الْأَنْعَام 54)، قَال الحسن: كان إِذا رَآهُمْ بدأهم بالسَّلام".
وقال العينى في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري": "وفي هذا الحديث فوائد: الدلالة على فضل أبي بكر على جميع الصحابة، وليس ينبغي للفاضل أن يغاضب من هو أفضل منه.. وفيه: ما طُبِع عليه الإنسان من البشرية حتى يحمله الغضب على ارتكاب خلاف الأولى، لكن الفاضل في الدين يسرع الرجوع إلى الأول لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}(الأعراف:201)، وفيه: أن غير النبي ولو بلغ في الفضل الغاية فليس بمعصوم، وفيه استحباب سؤال الاستغفار والتحلل من المظلوم".

وقال ابن عثيمين: "ذكر المؤلف (النووي) ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله في قضية الضعفاء والمساكين، وأنه تجب ملاطفتهم والرفق بهم والإحسان إليهم، أن أبا سفيان مر بسلمان وصهيب وبلال، وهؤلاء الثلاثة كلهم من الموالي، صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، فمر بهم فقالوا: ما فعلت أسيافنا بعدو الله ما فعلت يعني: يريدون أنهم لم يشفوا أنفسهم مما فعل بهم أسيادهم من قريش، الذين كانوا يعذبونهم ويؤذونهم في دين الله عز وجل، فكأن أبا بكر رضي الله عنه لامهم على ذلك، وقال: أتقولون لسيد قريش مثل هذا الكلام؟ ثم إن أبا بكر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له: (لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك) .. فذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى هؤلاء النفر وسألهم: آغضبتكم؟ فقالوا: لا، قال: يا إخوتاه، آغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أبا بكر.. وفي هذا دليل على وَرَع أبي بكر رضي الله عنه وعلى حرصه على إبراء ذمته، وأن الإنسان ينبغي له بل يجب عليه إذا اعتدى على أحد بقول أو فعل أو بأخذ مال أو سب أو شتم أن يستحله في الدنيا قبل يأخذ ذلك منه في الآخرة، لأن الإنسان إذا لم يأخذ حقه في الدنيا فإنه يأخذه يوم القيامة، ويأخذه من أشرف شيء وأعز شيء على الإنسان يأخذه من الحسنات من الأعمال الصالحة التي هو في حاجة إليها في ذلك المكان".

لما ذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما دار بينه وبين أصحابه، قال له صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكرٍ، لعلك أغْضَبْتَهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبتَ ربَّك)، أي: إن كُنْتَ أغضبت هؤلاء الفقراء المساكين الذين يحبون الله فقد أغضبت ربك، وذلك لمكانة ومنزلة بلال وسلمان وصهيب رضي الله عنهم عند الله عز وجل من ناحية، ومن ناحية أخرى: كأن النبي صلى الله عليه وسلم التمس لهم العذر في قولهم: (ما أخذَتْ سيوفُ الله من عنُقِ عدوِّ اللهِ مأخذها)، وقدَّر مشاعرهم عندما رأوا أبا سفيان يمشي أمامهم، وتذكروا كل ما فعله بهم وبإخوانهم، وأنهم بسبب مشركي مكة عامة وبسبب أبي سفيان خاصة شُرِّدوا من ديارهم ووطنهم، ومن ثم قالوا هذه الكلمات التي هي من أثر ونتيجة المعاناة النفسية والجسدية الشديدة التي عانوا منها هم وإخوانهم الضعفاء في مكة.. وكان باستطاعة أبي بكر رضي الله أن يذكر للنبي صلى الله عليه وسلم بعض المبررات السائغة والمعتبَرة لقوله لأصحابه: (أتقولون هذا لشيخِ قريشٍ وسيِّدِهم؟)، ومنها: أنهم في وقت هُدْنة، إذ كان هذا الموقف بعد صلح الحديبية بين المسلمين والمشركين، ولا داعي لإثارة أمور قد تثير الحرب بين الطرفين، وأن أبا سفيان هو سيد قريش، ويُرْجَى إسلامه، ولو أسلم لأسلمت قريش من ورائه، وربما تكون هذه الكلمات سبباً في نفرته نهائيا من الإسلام، وقد أُمِرْنا بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وبالرفق.. ورغم هذه المبررات السائغة لقول أبي بكر لأصحابه: (أتقولون هذا لشيخِ قريشٍ وسيِّدِهم؟)، إلا أنه فور سماعه لقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (لعلك أغضبتَهم، ولئن كنت أغضبتهم لقد أغضبتَ ربك)، سارع إلى الاعتذار وترضية أصحابه..
وفي هذا الموقف دلالة على أنه ينبغي على المسلم إذا خشي أن يكون قدْ سبب لإنسان أذى في نفسه ـ لكلمة قالها أو فعل فعله ـ أن يسارع لتطييب خاطره، والاعتذار إليه، وطلب مسامحته، فقد أسرع أبو بكر رضي الله عنه إلى أصحابه: سلمان وصهيب وبلال رضي الله عنهم وقال لهم: (يا إخوتاه أغضبتكم؟!) وذلك من باب الاستحلال والترضية والحب لأصحابه، كما أنه ينبغي على من اعْتُذِر إليه أن يقبل العذر، وأن يسارع إلى تطيب خاطر الآخر الذي يعتذر إليه، ولذلك رد سلمان وصهيب وبلال على أبي بكر ـ رضي الله عنهم ـ بقولهم: (لا، يغفر الله لك يا أخي).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة