متى نصحو؟ متى نتجرد للحقيقة؟ متى نكون صرحاء مع أنفسنا والناس؟ متى نواجه مشكلاتنا بشجاعة؟ ما زلنا نضيق بالنقد ونعشق المدح ونطرب للثناء ونخفي جراحنا وندفن أخطاءنا ونرفض الاعتراف بمآسينا، مثقفونا يتراشقون بالتهم، الإداريون يلقون مسؤولية الكوارث على الطبيعة والأمطار والرياح والجبال والأودية وليس فيهم من يعترف بخطئه، بل يقذف بالكرة في مرمى الآخرين ويبحث عن ضحية يشنقه أمام الجمهور، العالم الآخر يناقش قضاياه تحت قبة البرلمان ورئيس أكبر دولة في العالم يقول لشعبه: آسف آسف.
ما نفعت فينا الشريعة ولا أي ثقافة، أزور المشايخ فإذا الكل معجب بنفسه ويمدح ذاته، أجلس مع التجار فإذا كلهم يرون أنهم هبة من الله للأمة، وأجلس مع القبائل فإذا كل قبيلة تغني بأشعار الشجاعة والتضحية ومقصودهم حروب السلب ، الأدباء عندنا والكتّاب في أبراج عاجية، رضينا كلنا عن أنفسنا، الكل منا أخذ مقلبا في نفسه.. تدخل على الموظف تريد أن تجامله بعبارة وتجبر خاطره بكلمتين فيأخذ الحديث عنك ويلقي عليك محاضرة طويلة ثقيلة وبيلة عن إنجازاته الشفوية ومشروعاته الوهمية.. أغلب المشايخ يشكون لك من تنكر الناس لهم وعدم معرفة العامة بمنزلة أهل الفضل، ويقصدون أنفسهم، وبمكانة أهل العلم ويعني ذاته..
ليس فينا واحد يعلن مسؤوليته عن خطأ وقع أو خلل حدث، فالإعلام في العالم العربي مهمته الإنكار والتبرير والتغني بالمنجزات التي حسدنا عليها (المجلس الأوروبي)، وانذهل منها (الكونغرس) واندهش منها (الكرملن)، وعجب منها (النمور الآسيوية).. عندنا حساسية من النقد نرفضه ولا نقبله، ومن نقدنا فهو عدونا، ونهش للمديح ونسكر بالثناء ونخدر بالإطراء، فمن شكرنا وتغنى بأمجادنا فهو حبيبنا.. العامة يغردون بمجد القبيلة ويتغنون بأمجاد الأجداد بين الخيمة والناقة والثور والبئر، والكتّاب في الغالب يتحرشون برموز المجتمع من مسؤول أو عالم أو وزير أو مثقف، لأن مجدهم في إلقاء التهم وصلب المخالف على خشبة الموت.
أقول: هذا ليس من باب جلد الذات لكنها الحقيقة، فقد خالطتُ كل الشرائح في المجتمع وجالستهم وأنا واحد منهم، أصابني الداء نفسه الذي أصابهم، نحب تقبيل الرؤوس وبوس الخشوم وكلمة الإطراء، ونغضب إذا جُردت أسماؤنا بلا ألقاب، كان الصحابة يقولون للخليفة مباشرة بشفافية وصراحة: يا أبا بكر، يا عمر، يا عثمان، يا علي، وكذلك فعل العالم الآخر ينادون رموزهم بالأسماء المجردة، لكن عندنا لك الويل يوم تجرد أحدا من ألقابه العلمية والتراثية، نحن نستر الجرح ولا نعالجه، ونخفي الخلل ولا نصلحه، وندفن الخطأ ولا نواجهه، ما سمعت أحدا منا اعتذر يوما ما أو قال: أنا المسؤول عما حصل! ولهذا سوف تستمر أخطاؤنا؛ لأن أول الإصلاح الاعتراف بالخطأ، نحن نعيش على معزوفة الشاعر جرير بن عطية، حيث يقول لعبد الملك بن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا - وأندى العالمين بطون راحِ
* فنحن خير من ركب المطايا، وشرب المنايا وحفظ الحكايا وجلس في الزوايا، أما غيرنا فلا يغرك ولو صعدوا إلى سطح القمر أو وصلوا المريخ أو غزوا قاع البحار، أو عمّروا حياتهم الدنيا، فهم طروش بحر ليسوا مثلنا في الأصالة والبسالة؛ لأننا حافظنا على تراثنا القديم من الرحى والرشا وجفنة العود والفأس وقدح الخشب وحبال السلب، فما شاء الله تبارك الله علينا! الله يحمينا من العيون، الله يحصننا من الحسد، الله يدافع عنا من كيد العالم، سوف نستمر في الدعاء على الأمريكان والأوروبيين واليابانيين والصينيين والكوريين؛ لأنهم يتربصون بنا الدوائر غيرة وحسدا !!!