من الأحاديث ما تكون ابتدائية من غير سبب وهي كثيرة، ومنها ما تكون بعد سبب، سواء كان هذا السبب سؤالا أو حادثة أو قصة، فيعقب النبي –صلى الله عليه وسلم- على السبب، فيكون قرينةً مُعِيْنة على فهم معنى الحديث؛ إذ قد يكون لفظ الحديث عاماً أو خاصاً، أو يكون ظاهره موهماً معنىً غير مراد، فبمراعاة السياق الذي قيل فيه الحديث، ومراعاة الملابسات والظروف التي توضح مقصود الحديث، يسدد الناظر في تنزيله على المعنى الصحيح.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن معرفة سبب الحديث يعين على فهمه، كمعرفة سبب النزول للآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب.
وعلى سبيل المثال الحديث الذي أخرجه مسلم، في كتاب المناقب، من صحيحه، عن عائشة -رضي الله عنهما-، وكذلك عن أنس رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم».
فمن نظر إلى هذا الحديث منفصلا عن سببه وسياقه لم يستقم فهمه ولا استنباطه، ومن الغريب أن قوما جعلوه ذريعة للتوصل إلى القول بشرعية نظرية "فصل الدين عن شؤون الحياة" بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوكل إلى الناس تدبير شؤونهم الدنيوية وليس للدين شأن في اقتصادهم ولا سياساتهم متوسعين في إطلاق هذا الحديث وتفسيره بما ينسجم مع نظريتهم، غير معتنين بتفهم الملابسات والظروف التي قيل فيها هذا الحديث.
وحين نقرأ الحديث في سياقه وعلى ضوء السبب الذي جاء تعقيبا عليه يتضح لنا خطأ الفهم الذي فهموه، ففي مسند البزار عن موسى بن طلحة، عن أبيه ، قال : مررت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نخل فرأى قوما في رؤوس النخل يلقحون، فقال: «ما تصنعون أو ما يصنع هؤلاء» ؟ قال: يأخذون من الذكر ويجعلون في الأنثى فقال: «ما أظن هذا يغني شيئا» فبلغهم ذلك فتركوه فصار شيصا - البسر الرديء - فقال: «أنتم أعلم بما يصلحكم في دنياكم ، وإني قلت لكم ظنا ظننته ، فما قلت لكم قال الله عز وجل فلن أكذب على الله تبارك وتعالى».
فتبين أن السبب كان في قضية "تأبير النخل" وهي قضية لا تعارض وحيا، وقد أوضح لهم أن ما يقوله لهم فإما أن يكون ظنا من قبل نفسه، أو وحيا أوحاه الله إليه، وما أشار به عليهم من ترك التأبير فمن قبيل الظن الذي تبين له خطؤه فعدل عنه، وأما ما يوحيه الله إليه فلا مجال للخطأ فيه سواء كان في أمور الدين أو الدنيا.
وإذا كان الأمر كذلك فالحديث لا يستقيم فهمه على ما تقدم من فصل الوحي عن جميع شؤون الحياة، فسبب ورود الحديث يأبى ذلك، بدليل أن من أمور الدنيا أبواب المعاملات، والعقوبات ، والحروب ، والمواعظ ، والطب ، وأخبار الأمم الماضية والآتية، فإذا أخذنا بفهمهم لزم منه رد كل ما ورد عنه –صلى الله عليه وسلم- في هذا كله، ولا يخفى فساد ذلك.
ومما يُمثل به في هذا الباب حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الموطأ قال -صلى الله عليه وسلم-: «صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم».
فالنظر المجرد للحديث يوقع إشكالاً في فهمه؛ لأنه معارض بما هو أقوى منه وهو حديث «صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب».
وبالرجوع إلى سبب ورود الحديث يرتفع الإشكال ويزول التعارض، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- دخل المسجد والمدينة مُحَمَّة -يعني فيها حمى- فوجدهم يصلون من قعود، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم» فتجشم الناس الصلاة قياماً، فسبب الورود يدل على أن الصلاة نافلة؛ لأنه لا يمكن أن يصلوا الفريضة حتى يحضر النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا يمكن أن يصلوا الفريضة إلا خلفه، فلزم حمل الحديث على النافلة بدليل السبب.
ومثله الحديث الذي رواه أبو داود في الجهاد، ورواه الترمذي في السير: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين - لا تتراءى نارُهما)، فهم بعضهم من قوله: (أنا بريء) البراءة المطلقة ممن أقام في دار الكفار، من غير تفريق بين من يحتاج لذلك لعمل أو دراسة أو تداوي أو غيرها؛ بدليل الوعيد الوارد في الحديث من البراءة ممن فعل ذلك.
ولكن حين نعيد قراءة الحديث بسببه وسياقه نجد أن معنى البراءة ليس كما فهموه، بل المعنى: البراءة من ديتهم إذا قُتِلُوا، ويشهد له قصة الحديث التي رواها الطبراني في المعجم الكبير عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، -أي طلبوا لأنفسهم العصمة بإظهار السجود- فأسرع إليهم القتل، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فأمر لهم بنصف العقل ، وقال :«إني بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين»، قال السيوطي: بعد علمه بإسلامهم جعل لهم نصف الدية؛ لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره فسقطت حصة جنايته من الدية، قوله «أنا بريء» أي من إعانته أو من ضمان ديته بعد هذا إن قتل. أ.ه
والخلاصة: أن معرفة السبب الذي ورد الحديث لأجله، أو السياق والحادثة التي صدر الحديث ملابسا لها، لا بد أن يعتني بمعرفتها الناظر والمستنبط؛ نظراً لتأثيرها الغالب في توجيه المعنى، والوصول إلى المقصد النبوي من خلال الحديث نفسه، فيصدق عليه أنه تفسير للسنة بالسنة، وهذا أعلى مراتب الفهم للحديث وأبعدها عن تطرق الخطأ.