جميل ورائع اتساع وسائل الإعلام، وتفجرها عن أقلام سيالة، وألسنة متدفقة، ومثقفين غيارى؛ لم يقصروا في النصح الإداري، والمسح المجتمعي، المتتبع للصغائر، والراكض وراء كل عثرة، يعتقد أنها سبب المشكلات، والصادة في عملية التنمية، والمعرقلة لنهضة الوطن.
فكم نشاهد من حملات لوزارت، و(شرشحة) لمسؤولين ، وتقف شديد لمقصرين ومتسيبين! قد ينتج عنها التغيير أو الإطاحة، لأنها سلطة أبدية، وقد قال أوسكار وايلد: ( في أمريكا يحكم الرئيس لأربع سنوات، بينما تحكم الصحافة إلى الأبد )! وبالتالي يكثر النقد، وتتعالى النصائح، ويعظم الاتهام، ويلج الباب صادقون ومغرضون، حتى يبيت السائد هو الصوت، والكلام، والتعقب والبيان فحسب.
وننتهي في عالم من الردود، وكيل التهم والدفاع، وفلان أصاب، وذاك أخطأ.
ولأن الصحافة والإعلام مبادرات كلامية، وتحركات لفظية، كان من المناسب انتهاج الآتي في النقد الصحفي، والغربلة الإعلامية:
1 - الاعتدال في النقد، وعدم تحطيم الجهود، أو تكسير العزائم، قال تعالى(( وزنوا بالقسطاس المستقيم )) سورة الإسراء.
لأن بعض هؤلاء الصحفيين وأرباب الثقافة لو حل مكان المسئول المعني، لكان مثله أو أسوأ منه !!
2 - الإشادة بأصحاب القدرة والكفاءة، وعدم بخسهم حقهم أو إتقانهم، كما قال تعالى(( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى )) سورة المائدة .
3 - العدل في التقويم وكيل التهم، وكشف التجاوزات، (( وإذا قلتم فاعدلوا)) سورة الأنعام.
٤ - تذكر عمق المسافة بين الرأي والسلوكيات، وأن القول أسهل من العمل، والمنطق أخف من المبادرة، لأن المبادرة والعمل، أسهل في الألسنة، وأثقل في التطبيق والتعاطي؛ ولذا لا ينبغي لكتابنا أن يحملوا كواهلهم مغبة محاكمة الآخرين، والدخول معهم في إشكالات، تضر ولا تنفع، وفي الحديث المشهور(( الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة )) ، وستكون لها عواقب وخيمة على مبتدئها والمصر عليها؛ لأننا في النهاية نسير في مركب واحد، ويحملنا فلك مشحون بالأعباء والهموم والمسؤوليات! وعليه فالاعتدال مطلب، والحكمة هي حلية العاقل.
وقد قيل:
من تحلى بغير ما هو فيه فضحته شواهد الامتحانِ..!
5 - لا يصح فتح أفق النقد والتقويم لكل العاملين في الصحافة والإعلام، فينبري الصغير والكبير والواعي والعي، والناضج والحدث، والمتقن والمتعالم، وأتوقع أن كثيراً من المعارك الصحفية التنموية والخدمية، من جراء ذلك السلوك، والذي ينضح أحيانا بعدم تمكن المحاور، وجهالة المنتق؛ وحتى حملك لمؤهل عال، أو خبرة صحفية طويلة، لا تخولك الولوج في مناحي المجتمع، والتنمية والبلدية والتعليم العالي، والتطرف والخطاب الإسلامي والغربي، ومكامن الإلحاد، وحجاب المرأة ،وذرات الفساد المتخفية، وهلم جرا؛ لأن مثل ذلك يتطلب اطلاعا عميقا، وتتبعا دقيقا، ووعيا بالموضوع؛ وإلا أنتج التخلف، وصنع معركة جهالة، وبانت الفقرات المضحكة آنذاك! كما تشاهدون من بعض كتاب الأعمدة، الذي وضع من قلمه مصلحا اجتماعيا ودوليا وإسلاميا وإداريا وفكريا! ولم يحترم التخصص، أو يسعه الجهل والاعتذار، أو تحكمه الرزانة والأخلاق، ويعتقد أن جماهيريته الصحفية أو المتابعة التويترية، تمكنه من الحديث في كل شيء، والتعليق بما يحلو له!
وكون الصحيفة وظفتك لذلك، لا يعني التمكن، أو القدرة على اختراق كل المجالات، فرحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
6 - حفظ حق الرد للمسؤول، بحيث يحق له التعقيب، وعدم تحريف كلامه، أو اختصاره، أو تشويهه؛ إذا كنا نتكلم عن ممارسة موضوعية محققة، وليس ادعاء أو تزييفا.
7 - التثبت في النقد والتعقبات، وشفع ذلك بالبراهين والوثائق؛ لأنه كثيراً ما تتراجع بعض الصحف في أخبارها العجلة، أو سبقها المندفع؛ والسبب فقدانها لآلية التثبت والتدقيق! وهذا من أعظم معايب الصحافة والإعلام، الاستعجال بغية النشر والأسبقية؛ ولكنها تنتهي إلى مستنقع فقدان المصداقية، فيزهد فيها النخبة، وتشوه السمعة، ولا سيما عند ركوب موجة التوسع في الأخبار، والنشر على كل حال، وحمل أيديولوجية خاصة وخانقة، تفتقد المعايير المهنية التقليدية، والله المستعان.