الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إفريقيا الوسطى.. جرح جديد

إفريقيا الوسطى.. جرح جديد

إفريقيا الوسطى.. جرح جديد

جمهورية إفريقيا الوسطى دولة داخلية بلا أي سواحل، حيث يبعد أقرب ساحل منها نحو ألف كيلو متر، وهو الساحل الشرقي في الكاميرون، وتقع في قلب القارة السمراء كما هو واضح من اسمها، تحدُّها دولة تشاد من الشمال، ودولة السودان من الشمال الشرقي، ودولة جنوب السودان - المنفصلة قريباً عن السودان - من الشرق، ودولتا جمهورية الكونغو الديمقراطية والكونغو من الجنوب، ودولة الكاميرون من الغرب، في مساحة تمتد لنحو 622.984 كيلو متراً مربعاً، فيما يبلغ عدد سكانها نحو خمسة ملايين نسمة موزعين ما بين الملل والطوائف إلى:
1 - مسلمون: نحو 35 في المائة (ثلث السكان)، ويتركزون في شمال البلاد بالقرب من الحدود مع تشاد، وقد بالغ البعض حتى أوصل نسبتهم من 50 إلى 60 في المائة من إجمالي عدد السكان.
2 - نصارى: 50 في المائة، نصفهم من البروتستانت والنصف الآخر من الكاثوليك.
3 - والبقية ديانات وثنية أخرى.

ويتمتع المجتمع في إفريقيا الوسطى بالتنوع العرقي واللساني؛ حيث يتكوّن من ثمانين مجموعة عرقية تتواصل كل منها بلسانها الخاص. ومن أكبر التجمعات العرقية في البلاد جماعات البايا والياكوما والباندا والمبكا والمبوم والماندجيا والفولا، إضافة إلى تجمعات أوروبية أخرى تنحدر من أصول فرنسية في الأغلب. كما يجمع بين سكانها عنصران زنجيان رئيسان، هما: البانتو والزنوج السودانيون؛ فمن البانتو: الماندا واليايا في غرب البلاد، والباندا والسر في الوسط والشرق، والأزندي والأوبنجي في الجنوب، ومن الزنوج السودانيين: القبائل التي تعيش في الشمال والشرق، وأما الجماعات المستعربة فتعيش في الشمال، ومن البربر جماعات البيل والبورورو الذين يسكنون المرتفعات غربي البلاد.
وينتشر الإسلام بين الجماعات المستعربة والبيل والبورورو من البربر، إضافة للجماعات القاطنة في منطقتي الشرق والوسط، فيما يكسب الإسلام كل يوم أنصاراً جدداً بين الجماعات الوثنية والنصارى.
إلا أنه من الملاحظ أن العديد من الجماعات التنصيرية تنشط داخل البلاد، منها: جماعات لوثرية، ومعمدانية، وكاثوليكية، ومنصرون تابعون لكنائس النعمة الإخوانية، وآخرون من شهود يهوه. ويأتي هؤلاء المنصرون غالباً من فرنسا - التي سيبرز دورها في الأزمة الحالية - والولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا وإيطاليا، إلا أن هناك جماعات تنصيرية تتسرّب إلى الداخل من نيجيريا وجمهورية الكونغو ودول إفريقية أخرى، حيث النشاط التنصيري المحموم في عدد من دول الجوار، لا سيما أن الحدود الشرقية للجمهورية متاخمة لحدود دولة جنوب السودان التي انفصلت عن دولة السودان وأقامت لها دولة نصرانية خالصة بدعم غربي واسع.

الإسلام في إفريقيا الوسطى:
دخل الإسلام إلى إفريقيا الوسطى في القرن الخامس الهجري، وذلك عن طريق التأثر بالممالك الإسلامية المجاورة لها، مثل مملكة (كنم) التي قامت في شمال شرقي بحيرة تشاد، والتي وصلت إلى حالة من الازدهار والنهضة في ذلك القرن، فنشرت الإسلام في الأطراف الشمالية لإفريقيا الوسطى، ثم أخذ الإسلام بالانتشار فيها عن طريق كل من مملكة (بورنو) الإسلامية - التي قامت في غربي بحيرة تشاد -، ومملكة (باجرمي) - الواقعة في جنوب مملكة (كنم) -. ويعود الفضل إلى ملوك الباجرمي في بسط نفوذ الإسلام إلى مناطق الزنج في إفريقيا الوسطى. أما النواحي الشرقية من إفريقيا الوسطى فدخلها الإسلام من جهة دارفور وكردفان السودانيّتين، حيث انتشر الإسلام بين أوساط جماعات اللاندا والزاندي والجماعات السودانية التي تعيش في شرقي البلاد، فيما ظل الإسلام يتمدد وينتشر بين الجماعات الوثنية بصورة جعلت منه الديانة الثانية بعد النصرانية.

الحالة السياسية:
تعد إفريقيا الوسطى موطناً من مواطن الانقلابات في القارة السمراء، حيث تعاقب على حكمها بعد نيلها الاستقلال عن فرنسا التي احتلتها مطلع القرن العشرين؛ ستة رؤساء، منهم أربعة اعتلوا سدة الحكم عنوةً بانقلابات عسكرية، واثنان بانتخابات ديمقراطية.
الصراع الحالي:
يعد الرئيس بوزيزي مفتاحاً لفهم طبيعة أبعاد المؤامرة الحالية في إفريقيا الوسطى، فبوزيزي كان رئيساً مسيحياً موالياً لفرنسا شأن من سبقه، وقد سبق له أن حصل على اللجوء السياسي لفرنسا مرتين: الأولى في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، والأخرى في بداية التسعينيات، وقد استشرى الفساد في عهده، حيث كان حريصاً كل الحرص على تأمين نفسه من حمى الانقلابات الإفريقية، واعتمد في ذلك على ما لديه من خبرة عسكرية، مهملاً شؤون الدولة، ومتعمداً إضعاف جيش بلاده، إضافة إلى أنه سيطر على مناجم اليورانيوم والماس ووزع ثروات البلاد على الحلفاء الفرنسيين والغربيين في الخارج كسباً لودهم وجلباً لدعمهم ضد المعارضة المسلحة المتمثلة في تحالف مقاتلي سيليكا التي بدأت تقوى ويشتد عودها في ذلك التوقيت، أما القشة التي قصمت ظهر البعير فتمثلت في انهيار اتفاق تقاسم السلطة الذي أُبرم في يناير من العام 2013م والذي أفشله بوزيزي، حيث كان يقضي بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين ودمج عناصر التحالف في الجيش الوطني للدولة، وهو ما انتهكه بوزيزي ولم ينفذه.

ويتكوّن تحالف سيليكا من خمس مجموعات من الفصائل المقاتلة المعارضة للرئيس بوزيزي، يقدر عددها بنحو 25 ألف مقاتل، منحدرين من الديانتين الإسلامية والنصرانية، كما تتوزع جنسياتهم ما بين الإفريقيين الأوسطيين والسودانيين والتشاديين، ولا يعرف عنهم انتماؤهم لجماعات إسلامية جهادية كما تشيع عنهم فرنسا أو يشاع عنهم في التقارير الغربية، وكان يقود التحالف مايكل دجوتوديا - وهو مسلم -، والذي نجح في العام 2013م في قيادة تحالف سيليكا (الذي أنشأه في العام 2005م) للإطاحة ببوزيزي وتوليه سدة الحكم بعدما سيطرت قوات التحالف على القصر الرئاسي في شهر مارس وفرار بوزيزي إلى الكاميرون، إثر أشهُر من القتال بين التحالف وبين الميليشيا النصرانية الموالية لبوزيزي والمسماة (مناهضي بالاكا) أو (مناهضي السواطير) نسبة إلى نوعية السلاح الذي اشتُهرت الميليشيا النصرانية باستخدامه في مذابحها ضد المسلمين هناك.

وفي سبتمبر 2013م أعلن دجوتوديا رسمياً حلَّ تحالف "سيليكا"، واتخذ خطوات جادة لدمج مقاتلي التحالف في الجيش، فيما بقيت بعض قوات التحالف محتفظة بقياداتها وبتماسكها. وفي ديسمبر من العام نفسه نزعت القوات الفرنسية - بالتعاون مع القوات الإفريقية الموجودة في البلاد - أسلحة أكثر من سبعة آلاف من مقاتلي التحالف ووضعتهم في ثكنات مختلفة بالعاصمة، وهو ما أشعل الأجواء من جديد، حيث كان ينظر المسلمون إلى تلك القوات على أنها حماية لهم من اعتداءات الميليشيات النصرانية، فخرج المسلمون في احتجاجات بشوارع العاصمة منددين بالانحياز الفرنسي ضدهم لحساب مناهضي بالاكا، في مظاهر أشبه ما تكون بالثورة الشعبية، وأقاموا الحواجز بالحجارة وإطارات السيارات احتجاجاً على انتشار القوات الفرنسية التي وصفوها بالمحتلة.
وكان من نتيجة ذلك أن استنجد بوزيزي بمن أطلق عليهم (أبناء عمومته من الفرنسيين والولايات المتحدة) للتصدي لقوات التحالف، إلا أن الأمر جوبه بالرفض الفرنسي الصريح، وأكد الرئيس فرنسوا هولاند أنه لن يتم استخدام الجنود الفرنسيين المتمركزين في البلاد للدفاع عن حكومة بوزيزي. ويبدو أن التقارب الاقتصادي الذي أجراه بوزيزي بين بلاده والصين والولايات المتحدة الأمريكية على حساب فرنسا، ومحاولاته تغيير حرسه التشاديين الموالين لفرنسا بآخرين من جنوب إفريقيا؛ كان أحد أسباب تخلي فرنسا عنه في هذا الموقف.

إلا أن خروج الأمر عن أيدي فرنسا وسقوط البلاد في يد دجوتوديا وتحالف سيليكا ذي النكهة الإسلامية نوعاً ما؛ أفاق فرنسا من جديد فأشعلت نار الفتنة بين المسلمين والنصارى، تلك النار التي لم يكن يعرفها تاريخ هذا المجتمع المسالم، ما حركها لدعم وتشجيع مناهضي السواطير للتحرك ضد المسلمين بهذه الصورة الفجة والدموية، وسحب سلاح السيليكا؛ الأمر الذي أضعف من قدرتهم أمام الميليشيا النصرانية، إضافة إلى الدفع بـ 400 جندي فرنسي جدد ليصل عدد جنودها هناك إلى ألفي جندي، ورغم هذا العدد الهائل فإن المنظمات الدولية تتهم قوات حفظ السلام بالتقاعس عن أداء مهامها في تأمين المسلمين وحمايتهم، بل عدم كسر هيمنة الميليشيات النصرانية التي تهاجم المسلمين يومياً، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل: ما مهمتهم إذاً؟!

وبالنظر إلى حجم المجازر اليومية التي تلحق بالمسلمين وقتل الآلاف منهم حتى الآن، وبالنظر إلى دمويتها وبشاعتها، واستهدافها للمساجد ودور العبادة الإسلامية فقط، وفرار عشرات الآلاف من المسلمين إلى دول الجوار هرباً من مجازر الميليشيات النصرانية؛ فإن ذلك يدعو للدهشة والتساؤل: إذا كان الصراع في الأساس على الثروات الطبيعية لإفريقيا الوسطى المتمثلة في الذهب واليورانيوم ومصادر الطاقة والأخشاب، وإذا كان الصراع مجرد مطامع اقتصادية وحرب ديناصورات المال والأعمال المتمثلة في فرنسا من جانب والصين والولايات المتحدة من الجانب المقابل؛ إذا كان كل ذلك فما العلاقة بينه وبين استهداف المسلمين، والمسلمون على وجه الخصوص؟! لماذا تُستهدف المساجد والصراع اقتصادي؟! لماذا يؤكل المسلمون أمواتاً وأحياءً - والمسلمون فقط - والصراع اقتصادي؟!

لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نجنّب الصراع الديني عن المشهد؛ فالمطامع الاقتصادية والمادية التي تحرّك الغرب في كثير من مؤامراته، كانت تصحبها على المدى التاريخي مطامع أخرى دينية منذ الحروب الصليبية على الشرق، وانتهاءً بالأوضاع الحالية في بلاد الإسلام، والصراعان لا يتجزآن، بل ربما يفوق العداء الديني والثارات التي يحتجزها الغرب في صدره أيَّ عداء آخر، فالفتوحات الإسلامية التي طالت قلب أوروبا حتى وصلت إلى فرنسا نفسها وإلى أبواب باريس، هذه الفتوحات لم ينسها الغرب، بل كانت حاضرة في ذهنه يوماً بعد يوم، بدءاً بطرد المسلمين من الأندلس، مروراً بالحرب على العراق وأفغانستان، وانتهاءً بالوضع في مالي وإفريقيا الوسطى وغيرهما، فقد كان الصليب حاضراً ومهيمناً ومسيطراً.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة