الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حرية اللباس.. أم حرية منع اللباس؟!!

حرية اللباس.. أم حرية منع اللباس؟!!

حرية اللباس.. أم حرية منع اللباس؟!!

عندما أطالع تقريراً حقوقياً يتعرض لحرية اللباس، ألحظ بصورة متكررة حياء أدعياء الحقوق – حتى أولئك الغربيون الذين لا يدينون بدين - مِنْ وَصْف دعوتهم وصفاً يعبِّر عن حقيقتها؛ فهم يشنعون على بعض البلدان الإسلامية بدعاوى أنها لا تكفل حرية اللباس. وهذه العبارة تَرِد في تقارير المنظمات الغربية عن السعودية والسودان وربما غيرهما بين فينة وأخرى. والحق أن هذه الدول – كغيرها - تكفل حرية اللباس، لكنها لا تكفل حرية التعري، أو بعبارة أخرى: لا تكفل حرية منع اللباس؛ فللمرأة أن تلبس ما شاءت، لا يمنعها أحد ولا يسألها إنسان؛ لكن عليها أن تلبس فوقه ما يستر بدنها في المجامع العامة؛ فهناك حد من اللباس يجب على المرأة أن تلتزمه، كما هو الشأن في معظم دول العالم التي تمنع التعري وتجرِّمه في المجامع العامة وتضع حدوداً تَعُدُّ تعدِّيها جريمة يحاسب عليها القانون.

وفلسفتهم التي يبنون عليها ذلك المنع، هي: أنه من حق الأمم والشعوب أن تمنع لباساً ترى فيه ما يخدش حيــاءها أو يثير مشاعرها أو يستفزها في قيَمِها وثوابتها؛ فحرية الفرد ينبغي أن تُكبَح وتُوقَف عند حدها؛ إن كانت تتصادم مع حرية المجتمع. وحرية الجماعة أَوْلَى بالتقدير من حرية زيــد أو عمرو، بل حتى لو لم تكن هناك جماعة؛ فحرية يدك أثناء تمخطك تنتهي حيث تبدأ حريتي في وضع أنفي، وحرية سوأتك ينبغي ألا تعكر على حرية عيني، وحرية جَسَدِك يجب أن لا تثيرَ مشاعرَ الآخرين...

نعم! هناك دول وولايات أباحت التعري في أماكن عامة محددة، ورضي المشرِّعون لمن رضي لنفسه أن يقلد الحيوان بذلك السلوك، كما في بعض ولايات أمريكا؛ ولا سيما عند شواطئها؛ لكن مع هذا لا يوجد في أمريكا قانون اتحادي يجعل التعري حقاً من الحقوق مكفولاً في كل مكان، كما لا يوجد تشريع اتحادي يمنعه، بل لكل ولاية قانونها الذي يختلف في حدِّ التعري الممنوع وعقوبته؛ فهذه رائدة الحريات الغربية لم يتجرأ نظامها على كفالة التعري حقاً عاماً. وكذلك الشأن في سائر الدول التي يسمونها متحضرة؛ غير أن مضايقة الناس وأذاهم بأي تصرُّف ممنوع في الجملة أينما كانوا؛ وهذا مبدأ عام مُقَر.

فالناس في اللباس إذاً محكومون بحد أدنى ليسوا أحراراً في تجاوزه عند معظم البشرية؛ حتى العلمانيون منهم، دعك من المستمسكين بالأديان، ويبقى الجدل بين الأمم في هذا الحد: ما هو؟ ومن الذي يحدده؟ وما عقوبة متجاوِزه؟

فمن شاء أن يكون عبداً مسلوب الحرية للقوانين البشرية وآراء حفنـة من مشـرِّعيها، أو اختار أن يكـون عبداً لهواه؛ فهو (حر!)، لكن ليعرف حقيقته وَلْيتأمل أي عبودية اختار، ولا يتعدَّ حدَّه بالاستطالة على مَنْ آثر أن يكون عبداً لله رب العالمين ملتزماً شرعه في اللباس وغيره، وَلْيعلم أنه لابد له من إحدى العبوديتين؛ فلا إنسان بلا سلاسل ولا قيود؛ كما قال جان جاك روسو (ملهـم الثورة الفرنسـية): «إن الإنسان يولــد حراً، وفي كــل مكـان يقيـَّد بالســـلاسل». وكـأني بروسو وقـد سرق شطر كلمـة عمـر بن الخطـاب - رضي الله عنه - يوم قال لبعض أمرائه: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟».

ويبقى الفرق أن نظام الإسلام يكرِّم الإنسان من حيث دعوته للمكارم وإلزامه بحد أدنى منها، ومن جملة تكريمه مَنْعُه استعباد عبادِ الله عباداً أمثالهم بقوانين يخترعونها وَفْقاًً لأهوائهم، بل غاية أهل الإسلام عبَّر عنها ربعي بن عامر بقوله: «نحن أمة ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد».

ولذا كان من المعقول المقبول أن تكفل تشريعات البلدان الإسلامية حرية اللباس بضوابط، لكنها لا ينبغي أن تكفل أبداً حرية نزع اللباس، بل يجب أن تضع حداً أدنى من اللباس؛ وللمرأة أن تلبس تحته ما يلائمها وأن تزيد عليه ما تشاء؛ وذلك الحد مستقى من تشريعاتها التي يدين بها أهلها، كما أن الحد الأدنى من اللباس في كل بلد يخضع لثقافة أهل ذلك البلد.

وأدعياء الحقوق يدركون ذلك؛ فكان من تزويرهم أثناء تشنيعهم على البلدان المحافظة، أن عيَّروا عمَّا يطالبون به من: حرية التعري ونزع اللباس، بـ: (حرية اللــباس)؛ فيرمون بلداننا المحافظة التي تفرض حداً أدنى مــن اللباس - لا يعجبهم أن تستتر النساء به - بمنع حرية اللباس زوراً وبهتاناً؛ لتجد كلماتهم قبولاً عند بعض المغفلين.

ومن العجـيب أن هـذا التعبيـر: (منــع حـرية اللبـاس) لا يسـتخدمـونه مع دول تمنـع - فعلاً - حرية اللباس!
فهذه فرنسا - مثلاً - دولة منعت غطاء الرأس وحاربت البرقع والنقاب؛
فمنعت بذلك حرية اللباس ومع هذا الكبت لحرية اللباس تجد تقييمها في مثل: تقرير «بيت الحــرية» فريدوم هاوس Freedom house ( وهي: جمعية تُعنَى بالحريات في العالم وتدعمها وتصدر تقارير عنها) تجدها قد أحرزت أعلى تقييم في حرية اللباس، والحريات الدينية ونحوهما؛ مع أن فرنسا بمنعها الحجاب ومحاربتها النقاب قد تعدَّت تعدِّياً صريحاً على حرية اللباس وحرية التدين، لكنها لم تعتدِ على حرية نزع اللباس وحرية التعري وحرية ترك الدين؛ وهذا ما تريد صيانته تلك الشرذمة الأقلية من الحقوقيين العلمانيين. وهذا ما لا يرضاه المسلمون، ويعلمون أنه مخالف للعقل الصحيح والفِطَر السليمة، والشرائع المنزَّلة، ولا يتفق إلاَّ مع منطق الشهوات الرخيصة التي أضحت تستعبد النساء اليوم باسم الحرية؛ لتعرض أجسادهن في سوق النخاسة العصرية.

إن اللباس عنوان حضارة إنسانية عُرفَت منذ عهد آدم - عليه السلام - وقد قال رب العزةسبحانه : {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْـجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: ٧٢]، ومن جملة أولياء الشياطين أولئكم الذين يريدون أن ينزعوا عن بني آدم ألبستهم بدعوى الحرية؛ فتعساً لهم. وعجبي لا ينقطع من حرية يريد أصحابها من بني الإنسان أن يكونوا كسائر الحيوانات!
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: ٦٢] .
ــــــــــــــــــــــ
البيان 274

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة