الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ذودوا عن لغتكم أيها العربُ

ذودوا عن لغتكم أيها العربُ

ذودوا عن لغتكم أيها العربُ

عندما تأكد الجميع أن نسقاً عاماً في تطوّر المجتمعات الحديثة بدأ يدفع بلغات كثيرة نحو الأفول التدريجي ثم الانقراض انتاب العلماءَ المختصين انزعاجٌ من هذا المشهد اللغوي في الواقع الإنساني قاطبة، وبصرف النظر عن دوافع الحنين أو بواعث الحميّة فإن هؤلاء العلماء يتحسرون لظاهرة الانقراض من موقع العلم الخالص، فكل لغة تموت تحرمنا من اكتشاف نسق محدد ومخصوص من منظومات العقل البشري، حيث تتداخل المقوّمات اللغوية والنفسية والإدراكيّة، ثم إن انحجاب بعض اللغات يعطل مشروع علم اللسانيات النظرية في استكمال منظومة الأنحاء الموصلة إلى اكتشاف النحو الكلي.

كانت الحقيقة العلمية بمثابة صفارة الإنذار هزت الوعي الإنساني المتيقظ، فقد انتبه الكنديّون لتقرير نشرته مؤسّسة الإحصاء الكندية عام 1998 مفاده أن 47 لغة من بين الـ50 المتداولة في كندا قد أخذت طريقها نحو الاندثار.
وانتبه الألمان إلى أن لغتهم تتدحرج بحيث تتأخر رتبتها بين الـ10 لغات الأكثر شيوعاً في العالم، ويبرّرون مخاوفهم على أساس أن مستقبل اللغة الألمانيّة يبدو غير مستقر في عصر تسيطر فيه الإنجليزية على التكنولوجيا العالمية، كما يتهمون الاتحاد الأوروبي بالتحيز ضد لغتهم؛ لأن اللجان المنبثقة عن المفوّضية الأوروبية كثيراً ما تكتفي باستخدام الإنجليزية والفرنسية.

والمهم هو أن مؤسسات العمل الدولي قد تجاوبت مع الحقائق العلمية المقررة، فمنظمة اليونسكو التابعة لهيئة الأمم المتحدة قد أعلنت عن برنامج سمّته (اللغة الأم) واتخذت له يوما عالميا هو 21 فبراير من كلّ عام، وكان ذلك في إطار إعلان سنة 2000 السنة الدولية لثقافة السلام، وقد حددت اليونسكو هدفها من كل ذلك وهو حماية 6000 لغة إنسانية من الاندثار، وبتلك المناسبة شرح المدير العام للمنظمة يومئذ "كويشيرو ماتسورا" كيف فشل القرن الـ20 في الحدِّ من تسلط القوة على الثقافة الإنسانية بما أصبح يهدد خصوصيّاتها المتنوعة حتى اللغوية منها.

اللغة عند العرب:
فماذا عن مشهدنا اللغوي نحن العربَ أبناءَ الضاد، وورثة الفصاحة والبيان، والمنحدرين من بلاغة الشعر وتحديات الإعجاز؟
إن أمر اللغة عند العرب عجيب، وأعجب منه أمر العرب مع لغتهم. وبوسعك أن تجزم بأنهم يستثيرون من الاستغراب والتعجّب ما لا تستثيره أمّة من الأمم، وكثيراً ما يحار المتأمل بفكر خالص كيف يُصار بالخيارات الجوهريّة في الحياة الجماعية إلى مثل هذه الأوضاع التي كأنما يتحوّل فيها الفاعل عدوّاً على نفسه. والأوجع -لمن هاجسه الرصد الجزئيّ الدقيق- أن أصحاب القرار يتبنون حول المسألة اللغوية خطاباً يستوفي كل أشراط الوعي الحضاريّ، ثمّ يأتون سلوكاً يجسّم الفجوة المفزعة بين الذي يفعلونه والذي قالوه.

ثمّ يزداد المثقف ألماً وشقاء حين يعلم علم اليقين أن الحقائق العلميّة ليس لها لدى ساسة العرب من الوزن ما لها لدى ساسة العالم المتطور.
ولو تسلى أحدنا –على سبيل المرارة الهازئة– بعرض الحقائق التي أسلفناها على من بيدهم مصائر شعوبنا العربية لما ألفينا بذرة واحدة من الوعي تنبّههم إلى الخطر المحدق باللغة العربية، أما لو حاولت إفهامهم وإفهام فئات عديدين من "النخب" الفكرية بأن العربية قد تنقرض على المدى المتوسط من أعمار اللغات فسيكيلون لك بصُواع الاستهزاء جزافاً فجزافاً.

المشكلة الآسرة هي أنهم سيفهمون عنك إذا حدثتهم عن تغيّر نسق التاريخ، وسيزكّون خطابك إن أطنبت في أن تطور الظواهر العامة في حياة البشر -اجتماعية كانت أو اقتصادية أو سياسية– أصبح محكوماً بزمن جديد، فلم تعد وحدة القياس فيه العقودَ وإنما هي السنوات، وأحياناً تكون بالشهور والأيام، فإذا جئت معهم إلى المماهاة بين الظواهر والأحداث، فشرحت لهم أن وحدة القياس في انحلال اللغات وانقراضها لم تعد هي القرون وإنما أصبحت الآن هي العقود، استخفوا بك وبما ترى؛ ومن العجب أنهم –في تلك اللحظة، وبإجماع رهيب، - ودون سابق ترتيب بينهم– سيقذفونك بالحجارة الملساء: إنك واقع في قبضة شيطان المؤامرة.

وقد لا يخفي هؤلاء جميعاً استغرابهم الأقصى إذا كاشفناهم بحقيقة جديدة تخلقت في رحم الأحداث الكونية غير المسبوقة، وهي أن اللغات الأجنبية لم تعد هي العدوّ الأول للغة العربية، وإنما الذي حل محله في هذا العداء الشرس النافذ، والذي في مستطاعه أن يُجْهز على العربية فيذهب بريحها، هو اللهجات العامية حين تكتسح المجال الحيوي للفصحى.
من له أدنى قدر من الحصافة يعرف أنه من المتعذَّر على أي مجتمع أن يؤسس منظومة معرفية من دون أن يمتلك منظومة لغوية تكون شاملة، مشتركة، متجذرة، حمّالة للأبعاد المتنوعة فكراً وروحاً وإبداعاً.

والذي له ذاك القدر الأدنى من الرّويّة والرجحان عليه أن يعرف أن اللغة ركن أساس في كل مشروع اقتصادي.
لقد آن الأوان – ويكاد يفوت– أن نكف عن اعتبار اللغة مجرد وعاء للفكر، وهو ما دأب عليه الميراث الفكري الإنساني قاطبة، ليست اللغة إناء نصب فيه التصورات الذهنية، والانفعالات الشعورية.
إن الفصل بين الظرف والمظروف، بين الوعاء وما فيه، بين الصورة والمضمون، هو الآن حماقة كبرى عاشت عليها الثقافات الإنسانية.
إنها دعوة صادقة للأمة أن تتدارك لغتها حتى لا يصبحوا مثل قوم دريد بن الصمة :
نصحت قومي بمنعرج اللواء فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة