الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

النظرة القاتلة

النظرة القاتلة



لامه أبوه على تماديه في حب بثينة ، فقام وهو يبكي ، فبكى أبوه ومن حضر جَزَعًا لما رأوا منه . فقال في ذلك :

ألا مَنْ لِقلـبٍ لا يمــلُّ فيَذهــلُ أَفقْ بالتعزي ، عن بُثينةَ ، أجمــلُ (1)
سلا كُلُّ ذي وُدٍّ ، علمتُ مكانــه وأنتَ بها حتى الممـاتِ مُوكَّــلُ (2)
فما هكذا أحببتَ من كانت قبلهــا ولا هكذا ، فيما مضى ، كُنتَ تفعَلُ (3)
أعنْ ظُعُنِ الحيِّ الأُلى كُنتَ تسألُ بليلٍ ، فردّوا عِيرَهم ، وتَحمّلــوا (4)
فأمسوا وهُمْ أهلُ الديار ، وأصبحوا ومِن أهلها الغِربانُ بالدارِ تَحْجــِلُ (5)
على حين ولّى الأمرُ عنا ، وأَسمحتْ عصا البين ، وانبتَّ الرجاءُ المؤمَّلُ (6)
فما هو إلا أن أَهيــمَ بِذكرهــا ويحظى بجدواها سوايَ وَيَجــذَلُ (7)
وقد أبقتِ الأيامُ منـي ، على العِدى حُسامًا ، إذا مسَّ الضريبةَ ، يَفصـلُ (8)
ولستُ كمنْ إنْ سيمَ ضَيمًا أطاعـهُ ولا كامرئٍ ، إنْ عضَّهُ الدهرُ يَنكُـلُ (9)
لعمري ، لقد أبدى لي البين صفحهُ وبيَّنَ لي ما شِئتُ ، لو كُنتُ أعْقِـلُ (10)
وآخِرُ عهدي ، من بُثينة ، نظــرةٌ على موقفٍ ، كادت من البين تَقْتُلُ (11)
فلله عينًا مَن رأى مِثلَ حَاجـــةٍ كَتَمتُكِها ، والنفسُ منهـا تَمَلمــَلُ (12)
وإني لأستبكي ، إذا ذُكر الهــوى إليكِ ، وإنِّي ، من هواكِ ، لَأَوجلُ (13)
نظرتُ بِبِشرٍ نظرةً ظلْتُ أمتري بها عَبرةً ، والعينُ بالدمعِ تُكحـلُ (14)
إذا ما كَررتُ الطَّرفَ نحوكِ رَدَّهُ من البُعدِ فيّاضٌ من الدمعِ يَهمِـلُ (15)
فيا قلبُ ، دع ذكرى بُثينةَ ، إنهـا وإنْ كُنتَ تهواها ، تَضَنُّ وتبخلُ (16)
قناةٌ من المُرّان مَا فوقَ حَقْوِهــا وما تحتــه مِنـا نقًا يتهيّــلُ (17)
وقد أيأسَتْ من نيلها ، وتجهّمـتْ ولَلْيأسُ ، إن لم يُقدرِ النيلُ ، أمثَلُ (18)
وإلاَّ فسلْها نائلاً قَبْــلَ بَينِهــا وَأبخِلْ بها مسؤولةً حينَ تُسـألُ (19)
وكيف تُرجّي وَصلها ، بَعد بُعدِها وقد جُذّ حَبْلُ الوصلِ ممَّن تُؤمِّلُ (20)
وإنَّ التي أحببتَ قدْ حِيلَ دُونَها فكُنْ حازِمًا ، والحازِمُ المُتحوِّلُ (21)
ففي اليأس ما يُسلي، وفي الناسِ خُلّةٌ وفي الأرضِ ، عمّن لا يؤاتيكَ، معزِلُ (22)
بدا كَلَفٌ مني بها ، فتثاقلــتْ وما لا يُرى من غائبِ الوجدِ أفضلُ (23)
هَبيني بـريئًا نـِلْتـِه بـظُلامـةٍ عفـاهـا لـكم ، أو مـذنبـًا يتنصّـلُ(24)

من ديوانه ص97-99
___________________

الهوامش :

(1) يذهل عنه : ينشغل عنه ، التعزي : التصبر.
(2) سلا : نسي ، موكل : محب ، متعلق.
(3) يقول: لم تكن هذه عادتك في الحب . كنت قبلها تحب وتسلو.
(4) العير: القافلة . تحملوا : ارتحلوا . الظعن : المرأة في الهودج.
(5) تحجل الغربان : تنزو في مشيتها . يقول : خلت الدار من أهلها وحلت محلهم الغربان.
(6) أسمحت : أطاعت ولانت بعد استصعاب . انبتّ : انقطع . البين : الفراق والبعد.
(7) جدواها : عطاؤها ، يجذل : يفرح.
(8) الضريبة : الرجل المضروب . الحسام : السيف.
(9) سيم: لقي ، أذيق. الضيم : الظلم . ينكل : ينكص ، يتراجع.
(10) البين : الفراق . الصفح : الجانب.
(11) يقول : لقد نظرت إلي بثينة نظرة يوم الرحيل كادت تقتلني.
(12) يقول: فليحفظ الله عيني من رأى مثل حاجة كتمتها والنفس تكاد تبوح بها.
(13) أوجل : أخاف.
(14) أمتري : أستخرج ، أسفح الدمع ، البشر : طلاقة الوجه ، الفرح.
(15) الطرف : النظر . فياض : مدرار.
(16) يقول : يا قلب انسَ بثينة لأنها تبخل عليك بالوصال . تضن: تبخل.
(17) المران: نبات تتخذ منه الرماح . حقوها : كشحها ، النقا : الكثيب ، والمراد به ردفها . يتهيل: يتحرك ويترجرج. والقناة الرمح والمراد بالقناة انتصاب قامتها.
(18) أمثل : أفضل . النيل : العطاء.
(19) النائل: العطاء . البين : الفراق . ثم يقول إنها أبخل ما تكون حين تُسأل.
(20) جذ: قطع . الوصل : الوصال.
(21) حيل دوها : تعذر لقاؤها . المتحول : من يتحول إلى سواها.
(22) الخلة: الصداقة لا خلل فيها ، والصديق والأصدقاء يواتيك : يواصلك.
(23) الكلف : شدة الحب . الوجد : الحب . تثاقلت : نهضت بصعوبة وبرودة.
(24) الظُّلامة : الظلم . يتنصل : يتبرأ .














مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة

لا يوجد مواد ذات صلة


الأكثر مشاهدة اليوم

اقرأ في إسلام ويب

العز بن عبد السلام سلطان العلماء

العز بن عبد السلام السُّلَمي الدمشقي، أحد العلماء العاملين الأعلام، اشتُهر بشجاعته وصدعه بالحق، كما كان عالماً...المزيد