صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خلفاء الدين وحلفاء اليقين ، مصابيح الأمم ومفاتيح الكرم ، وكنوز العلم ورموز الحكم ، صلاة وسلاما دائمين متلازمين بدوام النعم والكرم .
( وبعد ) فإن العلوم وإن كانت تتعاظم شرفا وتطلع في سماء كوكبها شرفا ، وينفق العالم من خزائنها وكلما زاد ازداد رشدا [ ص: 7 ] وعدم سرفا ، فلا مرية في أن الفقه واسطة عقدها ورابطة حللها وعقدها وخالصة الرائج من نقدها ، به يعرف الحلال والحرام ، ويدين الخاص والعام ، وتبين مصابيح الهدى من ظلام الضلال وضلال الظلام ، قطب الشريعة وأساسها ، وقلب الحقيقة الذي إذا صلح صلحت ورأسها ، وأهلة سراة الأرض الذين لولاهم لفسدت بسيادة جهالها وضلت أناسها :
لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
إيه ولولاهم لاتخذ الناس رؤساء جهالا ، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ، وخبطوا خبط عشواء حيثما قاموا وحلوا وشكت الأرض منهم وقع أقدام قوم استزلهم الشيطان فزلوا ، فلله در الفقهاء هم نجوم السماء [ ص: 8 ] تشير إليهم بالأكف الأصابع وشم الأنوف ، يخضع إليهم كل شامخ الأنف رافع ، حلقوا على سور الإسلام كسوار المعصم قائلين لأهله والحق سامع :أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع
قد صنف العلماء واختصروا فلم يأتوا بما اختصروه كالمنهاج
جمع الصحيح مع الفصيح وفاق بال ترجيح عند تلاطم الأمواج
[ ص: 11 ] لم لا وفيه مع النووي الرافعي حبران بل بحران كالعجاج
من قاسه بسواه مات وذاك من خسف ومن غبن وسوء مزاج
لقيت خيرا يا نوي ووقيت من ألم النوى
فلقد نشا بك عالم لله أخلص ما نوى
وعلا علاه وفضله فضل الحبوب على النوى
هذا وقد أردفه محقق زمانه وعالم أوانه وحيد دهره وفريد عصره في سائر العلوم ، المنثور منها والمنظوم ، شيخ مشايخ الإسلام عمدة الأئمة الأعلام جلال الدين المحلي ، تغمده الله تعالى برحمته وأسكنه فسيح جنته ، بشرح كشف به المعمى وجلا المغمى ، وفتح به مقفل أبوابه ويسر لطالبيه سلوك شعابه ، وضمنه ما يملأ الأسماع والنواظر ويحقق مقال القائل كم ترك الأول للآخر إلا أن القدر لم يساعده على إيضاحه ومنعه من ذلك خشية فجأة المقضي [ ص: 12 ] من محتوم حمامه ، فتركه عسر الفهم كالألغاز لما احتوى عليه من غاية الإيجاز ، ولقد طالما سألني السادة الأفاضل والوارثون علم الأوائل في وضع شرح على المنهاج يوضح مكنونه ويبرز مصونه ، فأجبتهم إلى ذلك في شهر القعدة الحرام سنة ثلاث وستين وتسعمائة بعد تكرر رؤيا دلت على حصول المرام ، وأردفتهم بشرح يميط لثام مخدراته ويزيح ختام كنوزه ومستودعاته ، أنقح فيه الغث من السمين ، وأميز فيه المعمول به من غيره بتوضيح مبين ، أورد الأحكام فيه تتبختر اتضاحا ، وأترك الشبه تتضاءل افتضاحا ، أطلب حيث يقتضي المقام ، وأوجز إذا اتضح الكلام ، خال عن الإسهاب الممل ، وعن الاختصار المخل ، وأذكر فيه بعض القواعد وأضم إليه ما ظهر من الفوائد ، في ضمن تراكيب رائقة وأساليب فائقة ، ليتم بذلك الأرب ويقبل المشتغلون ينسلون إليه من كل حدب ، مقتصرا فيه على المعمول به في المذهب ، غير معتن بتحرير الأقوال الضعيفة روما للاختصار في الأغلب .
فحيث أقول فيه قالا أو رجحا فمرادي به إماما المذهب الرافعي والمصنف تغمدهما الله بعفوه ومنه ، وأمطر على قبرهما شآبيب رحمته وفضله ، وحيث أطلقت لفظ الشارح فمرادي به محقق الوجود الجلال المحلي عفا عنه الغفور الودود ، وربما أتعرض لحل بعض مواضعه المشكلة تيسيرا على الطلاب مستعينا في ذلك وغيره بعون الملك الوهاب ، وحيث أطلقت لفظ الشيخ فمرادي به شيخ مشايخ الإسلام زكريا تغمده الله تعالى برحمته .
وما وجدته أيها الواقف على هذا الكتاب والمتمسك منه بما يوافق الصواب في كلامي من إطلاق أو تقييد أو ترجيح معزوا لوالدي وشيخي شيخ مشايخ الإسلام عمدة الأئمة العلماء الأعلام ، شيخ الفتوى والتدريس ومحل الفروع والتأسيس ، شيخ زمانه بالاتفاق بين أهل الخلاف والوفاق ، تغمده الله تعالى برحمته وأسكنه بحبوحة جنته ، فهو المعول عليه عنده ; لأن رأيه عليه استقر ، وما عزي إليه مما يخالفه فبسبب ما هو شأن البشر ، وعمدتي في العزو لفتاويه ما قرأته منها عليه ، ثم مر عليها بنفسه ، وفي العزو لمعتمداته ما وجدته على أجل المؤلفات عنده مصححا بخطه لم يحل بينه وبين ذلك إلا السبب الناقل له لرمسه ، ووالله لم أقصد بذلك نقص أحد عن رتبته ، ولا التبحبح بنشر العلم وفضيلته ، وإنما القصد منه نصح المسلمين بإظهار الصواب خشية من آية نزلت في محكم الكتاب .
وأسأل الله من فضله أن يمن علي بإتمام هذا الشرح البديع المثال المنيع المنال ، الفائق بحسن نظامه على عقود اللآلئ ، الجامع [ ص: 13 ] لفوائد ومحاسن قل أن تجتمع في مثله من كتاب في العصر الخوال ، أسست فيه ما يعين على فهم المنقول ، وبينت فيه مصاعد يرتقى فيها قاصد النقول ، فهو لباب العقول وعباب المنقول وصواب كل قول مقبول ، مخضت فيه عدة كتب من الفن مشتهرة ومؤلفات معتبرة ، من شروح الكتاب وشروح الإرشاد وشرحي البهجة والروض وشرح المنهج والتصحيح وغيرها للمتأخرين وإخواننا السادة الأفاضل المعاصرين على اختلاف تنوعها ، فأخذت زبدها ودررها ، ومررت على رياض جملة منها على كثرة عددها ، واقتطفت ثمرها وزهرها ، وغصت بحارها فاستخرجت جواهرها ودررها ، فلهذا تحصل فيه من العلوم والفوائد ما تبت عنده الأعناق بتا ، وتجمع فيه ما تفرق في مؤلفات شتى ، على أني لا أبيعه بشرط البراءة من كل عيب ، ولا ادعى أنه جمع سلامة كيف والبشر محل النقص بلا ريب وستفترق الناس فيه ثلاث فرق :
فرقة تعرف شمس محاسنه وتنكرها ، وتجتلي عرائسه وتلتقط فوائده وكأنها لا تبصرها ، ثم تتشعب قبيلتين خيرهما لا تنطق برؤيته ولا تذكرها ، والأخرى تبيت منه في نعم وتصبح تكفرها
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب
وآخر من فئة ثانية يسمع كلامه ولا يفهمه ، ويسبح في بحره ولا يعلمه ، ويصبح ظمآنا وفي البحر فمه ، ومثل هذا لا يفتقد حضوره إذا غاب ، ولا يؤهل لأن يعاب إذا عاب :
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود
وايم الله إن هذا لهو الزمان الذي يلزم فيه السكوت والمصير جلسا من أجلاس البيوت ورد العلم إلى العمل ، لولا ما ورد في صحيح الأخبار { } ولله در القائل حيث قال : من علم علما فكتمه ألجمه الله بلجام من نار
ادأب على جمع الفضائل جاهدا وأدم لها تعب القريحة والجسد
واقصد بها وجه الإله ونفع من بلغته ممن تراه قد اجتهد
واترك كلام الحاسدين وبغيهم هملا فبعد الموت ينقطع الحسد
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
وسميته : نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج راجيا أن المقتصر عليه يستغني به عن مطالعة ما سواه من أمثاله ، وأن يدرك به ما يرجوه من آماله ، ولا يمنع الواقف عليه داء الحسد أخذ ما فيه بالقبول ، ولا استصغار مؤلفه وقصر نظره في النقول ، فقد قال القائل :
لا زلت من شكري في حلة لابسها ذو سلب فاخر
يقول من تطرق أسماعه كم ترك الأول للآخر
وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل
إني لأرحم حاسدي لفرط ما ضمت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله بي فعيونهم في جنة وقلوبهم في نار
لا ذنب لي قد رمت كتم فضائلي فكأنما برقعتها بنهار
واعلم أن التأسي بكتاب الله سنة متحتمة والعمل بالخبر الآتي طريقة ملتزمة ، وهذا التأليف أثر من آثارها وفيض من أنوارها ، فلذلك جرى المصنف كغيره على ذلك المنهج القويم والطريق المستقيم فقال :