واسع [البقرة: 115] : جواد لما يسأل.
ويقال: الواسع المحيط بعلم كل شيء، كما قال: وسعت كل شيء رحمة وعلما [غافر: 7] .
ووسع يسع سعة من الاتساع، ضد الضيق، "وموسع" [البقرة: 236]: غني، أي: واسع الحال، وهو ضد المقتر وإنا لموسعون [الذاريات: 47] .
قيل: أغنياء، وقيل: قادرون، و: إلا وسعها [البقرة: 233] : طاقتها.
"ود" يود: له معنيان: من المودة والمحبة، وبمعنى التمني، نحو: ود كثير من أهل الكتاب [البقرة: 109] .
ودوا لو تكفرون [النساء: 89] .
والود بالضم: المحبة.
وقد قدمنا أنه اسم صنم عبد من دون الله.
وسطا [البقرة: 143] : الوسط من كل شيء: خياره، وكيف لا تكون هذه الأمة خيارا وهم يشهدون يوم القيامة للأنبياء بإبلاغ الرسالة إلى أممهم.
فإن قلت: لم أخر المجرور في هذه الآية: شهداء على الناس [البقرة: 143] ، وقدمه في قوله: عليكم شهيدا [البقرة: 143] ؟ فالجواب أن تقديم المعمولات يفيد الحصر، فقدمه لاختصاص شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمته، ولم يقدمه في الأمة لأنه لم يقصد الحصر.
[ ص: 255 ] فإن قلت: هل الأمة يشهدون كلهم، برهم وفاجرهم، أو لا يشهد إلا لمن هو أهل لذلك؟
والجواب أن لفظ الآية عام، لكن الذي يظهر من لفظ الآية أنه لا يشهد إلا العدول، فلا يشهد منها إلا خيارها، والحكم هناك كالحكم هنا، وقد قال: ممن ترضون من الشهداء [البقرة: 282] .
وأيضا قد ذكر في حديث قوم نوح أنهم يقولون: كيف يشهد علينا من لم يحضرنا، فيقولون: يا ربنا، أنزلت علينا كتابا فوجدنا فيه قصتهم، ثم يقرءون سورة نوح، فهذا لا يكون جوابا إلا ممن له علم بالكتب، وكثير من هذه الأمة لا يعلمون من الكتاب شيئا، ومن طريق النظر من هذه الأمة إذ ذاك في نوع من أنواع العذاب كيف يستشهدون، وكيف تقبل لهم شهادة، فإذا كان العالم الذي لا يخفى عليه شيء لا يحكم بعلمه فيما بيننا في ذلك اليوم، فكيف بالغير، فيا أخا البطالة والتلويث لنفسك، انتبه، الحاكم قد زكاك وأنت بما ارتكبت من قبيح الأوصاف تجرح نفسك، وبذلك تفرح، فقد خضت بحار المهالك، وعلى عقبك من الخير نكصت.
أعلمك بهذه الرتبة الرفيعة لعلك تحافظ عليها فتكون ممن يشهد إذ ذاك.
فأعرضت عن الشهادة على غيرك، وتعرضت لشهادة جوارحك عليك! بئس ما استبدلت! وقد جاء أن أول من يساق للحساب الذي العرش على كاهله والعرق يتحدر على جبينه، فيقول الله له: ما صنعت بعهدي، فيقول: يا رب، بلغته جبريل، فيؤتى بجبريل، فيقول له الحق جل جلاله: هل بلغك إسرافيل عهدي، فيقول: نعم، فيخلي حينئذ عن إسرافيل، ويسأل جبريل فيقول عز وجل له: ما صنعت في عهدي، فيقول: يا رب، بلغته الرسل، فيؤتى بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيقول لهم: هل بلغكم جبريل عهدي، فيقولون: نعم، فحينئذ يخلي عن جبريل، فأول من يسأل من الرسل نوح عليه السلام، فيكون من قصته ما ورد في الحديث - أنه بنوح عليه السلام، فيقال له: هل بلغت، فيقول: [ ص: 256 ] نعم يا رب، فتسأل أمته: هل بلغكم، فيقولون: ما جاءنا من نذير.
فيقال: من شهودك، فيقول: محمد وأمته.
قال -صلى الله عليه وسلم-: فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ -صلى الله عليه وسلم-: وكذلك جعلناكم أمة وسطا [البقرة: 143] . يجاء
فإن قلت: يعارضنا هنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: أول من يحاسب من يجوز على الصراط؟
والجواب: أنه ليس بينهما تعارض؛ لأن حساب الأمم على نوعين، وبذلك يجمع الحديثان، ولا يبقى بينهما تعارض، وهو أن النوع الأول أن تسأل الأمم: بلغهم الرسل أم لا، فهذا الذي يتقدم جميع الأمم على هذه الأمة؛ لأنهم هم الشهود عليهم، فلا بد من حضورهم إلى آخر الأمم.
والنوع الآخر هو سؤال الأمم كل شخص منهم منفردا عن عمله بمقتضى شريعته، فهذا الذي تكون هذه الأمة أول من يحاسب.
وسيدنا ومولانا محمد -صلى الله عليه وسلم- شاهد، كما قال تعالى: وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [النساء: 41] .
تقديره: كيف يكون الحال إذا جئنا بنبي يشهد على أمته بأعمالهم.
ولما قرأها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذرفت عيناه بالدموع، وقال: حسبك يا ابن مسعود ابن مسعود.
ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ، أي: لا يمتنعوا إذا دعوا إلى أداء الشهادة.
وقد ورد تفسيره بذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
واتفق العلماء على أن أداء الشهادة واجب إذا دعي إليها.
وقيل: إذا دعوا إلى تحصيل الشهادة وكتبها.
وقيل: إلى الأمرين.
ولا تسأموا [البقرة: 282] ، أي: لا تملوا من الكتابة إذا ترددت وكثرت، سواء كان الحق صغيرا أو كبيرا، ونصب صغيرا على الحال.
وأشهدوا إذا تبايعتم [البقرة: 282] : هذا أمر يفهم منه الإشهاد، وأهل الظاهر أوجبوه خلافا للجمهور.
وذهب قوم إلى أنه منسوخ بقوله: فإن أمن بعضكم بعضا [البقرة: 283] ، وذهب قوم إلى أنه على الندب.
ولا يضار كاتب ولا شهيد [البقرة: 282] : يحتمل أن يكون كاتب [ ص: 257 ] فاعلا على تقدير كسر الراء المدغمة من: يضار والمعنى على هذا نهي للكاتب والشهيد أن يضرا صاحب الحق، أو الذي عليه الحق بالزيادة فيه أو النقصان منه والامتناع من الكتابة أو الشهادة.
ويحتمل أن يكون: كاتب مفعولا لم يسم فاعله على تقدير فتح الراء المدغمة، ويقوي ذلك قراءة "لا يضارر"، بالتفكيك وفتح الراء. عمر بن الخطاب:
والمعنى النهي عن الإضرار بالكاتب والشهيد، بإذايتهما بالقول أو بالفعل.
وإن تفعلوا [البقرة: 282] ، أي: وقعتم في الإضرار فإنه فسوق حال بكم.
والله يؤيد بنصره من يشاء [آل عمران: 13] ، يعني أن النصر بمشيئة الله لا بالقلة ولا بالكثرة، فإن فئة المسلمين غلبت فئة الكافرين مع أنهم كانوا أكثر منهم.
ورضوان من الله أكبر ، أي: من نعيم الجنة حسبما ورد في الحديث - أنه يقول لهم: "تريدون شيئا أزيدكم، فيقولون: قد أعطيتنا بغيتنا، فيقول: أزيدكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا، فلولا الرضوان لم يطب لهم نعيمها لتخوفهم من فراقها".
وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم [آل عمران: 49] هذا من كلام عيسى عليه السلام.
وروي أنهم كانوا يجمعون إليه الجماعة من العميان والبرصاء، فيدعو لهم فيبرؤون، ويضرب بعصاه الميت أو القبر فيقوم الميت ويكلمه.
وروي أنه أحيا سام بن نوح، وكان يقول: فلان أكلت كذا، وادخرت في بيتك كذا.
ومصدقا [آل عمران: 50] : عطف على: " رسولا " : أو على موضع: بآية من ربكم ؛ لأنه في موضع الحال، وهو أحسن؛ لأنه من جملة كلام عيسى على تقدير: جئتكم بآية وجئتكم مصدقا، ولأحل لكم عطف على بآية.
[ ص: 258 ] وكانوا قد حرم عليهم الشحم ولحم الإبل وأشياء من الحيتان والطير، فأحل لهم عيسى بعض ذلك.
وجيها في الدنيا والآخرة [آل عمران: 45] ، إلى آخر الآيات: حال. ويعلمه [آل عمران: 48] ، معطوفة، إذ التقدير: ومعلما للكتاب.
ورسولا يضمر له فعل، تقديره: أرسل رسولا أو جاء رسولا.
وما كان من المشركين : نفي للإشراك الذي هو عبادة الأوثان.
ودخل في ذلك الإشراك الذي يتضمنه دين اليهود والنصارى.
وأنا معكم من الشاهدين [آل عمران: 81] : تأكيد للعهد بشهادة الله جل جلاله.
وشهدوا [آل عمران: 86] ، عطف على أيمانهم؛ لأن معناه بعد أن آمنوا.
وقيل: الواو للحال.
وقال عطف على كفروا، والواو لا ترتب. ابن عطية:
ولو افتدى به [آل عمران: 91] : قيل هذه الواو زائدة.
وقيل: للعطف على محذوف، كأنه قال: لن يقبل من أحدهم لو تصدق به، ولو افتدى به.
وقيل: نفى أولا القبول جملة على الوجوه كلها، ثم خص الفدية بالنفس، كقولك: أنا لا أفعل أصلا ولو رغبت إلي.
ومن كفر : عطف على: من استطاع [آل عمران: 97] أي: من استطاع الوصول إلى مكة بصحة البدن إما راجلا وإما راكبا مع الزاد المباح والطريق الآمن، أو الزاد والراحلة - فواجب عليه الحج.
ومن لم يحج فقد كفر، وعبر عنه بالكفر تغليظا، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: فإن الله غني عنه، ولا يعود وبال ذلك إلا عليه. "ومن ترك الصلاة فقد كفر"؟
وفي الحديث: "من مات ولم يحج ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق".
وقيل: إنما عبر بالكفر إشارة إلى من زعم أن الحج ليس بواجب.
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [آل عمران: 103] [ ص: 259 ] أي: تمسكوا بحبل الله.
وهو القرآن، وقيل: الجماعة، ولا تفرقوا فتفشلوا؛ لأن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، ومن فارق الجماعة شبرا خلع ربقة الإسلام من عنقه، ولأجل الألفة والجماعة أمر الله باجتماع كل درب ومحلة في اليوم خمس مرات، وفي الجمعة لأهل البلد حتى إنها لا تصح إلا في العتيق في العيدين الكبير والصغير وفي عرفة لأهل الأرض كلهم، كل ذلك للجمع.
وليعلم [آل عمران: 140] : متعلق بمحذوف تقديره: أصابكم ما أصاب ليعلم ذلك علما ظاهرا لكم تقوم به الحجة عليكم، ويتخذ منكم شهداء في قتلكم يوم أحد، وليمحص الله المسلمين؛ لأن إحالة الكفار عليهم تمحيصا لهم، ونصر المؤمنين على الكفار هلاك لهم.
ولقد صدقكم الله وعده [آل عمران: 152] : كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد وعد المسلمين عن الله بالنصر، فنصرهم الله أولا، وانهزم المشركون، وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا، وعصيتم ، أي: خالفتم ما أمرتم به من الثبوت، وجاءت المخاطبة في هذا لجميع المؤمنين وإن كان المخالف بعضهم، ووعظا للجميع وسترا على من فعل ذلك.
ولقد عفا عنكم [آل عمران: 152] ، إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بهم من الهزيمة، لولا عفو الله عنهم، فمعناه: لقد أبقى عليكم.
والرسول يدعوكم في أخراكم ، أي: كان يقول في ساقتهم: إلي عباد الله، ففيه مدح له -صلى الله عليه وسلم-، وعتب لهم؛ لأن الأخرى هو موقف الأبطال، وكيف لا وبه يتأنس الجيش، ويؤمن من العدو، وعاتبهم على عدم الوقوف معه.
وطائفة قد أهمتهم أنفسهم [آل عمران: 154] : هم المنافقون كانوا خائفين من رجوع المشركين إليهم.
وليبتلي الله ما في صدوركم [آل عمران: 154] ، يتعلق بفعل، تقديره: فعل بكم ذلك ليبتلي.
[ ص: 260 ] ولئن قتلتم في سبيل الله [آل عمران: 157] ، الآية... تخبر بأن مغفرة الله تعالى ورحمته تعم إذا قتلوا أو ماتوا في سبيل الله خير لهم مما يجمعون من الدنيا.
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك [آل عمران: 159] : وصف الله رسوله باللين واللطف لأصحابه؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يواجه أحدا بما يكره، وقد أمره الله بالغلظ على الكفار، وبهذا وصف الله الصحابة بأنهم كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم.
وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا [آل عمران: 167] .
من لطف الله بهذه الأمة أنه لم يعين المخالف لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموافق؛ لأنه تعالى أراد الستر على عباده، فأبشر يا محمدي بما أنعم الله به عليك حيث ستر على عدوك.
والمراد بهذه الآية عبد الله بن أبي بن سلول؛ لأنه لم يرد الخروج إلى المشركين يوم أحد، فلما خرج -صلى الله عليه وسلم- غضب، وقال: أطاعهم وعصاني، فرجع ورجع معه نحو ثلاثمائة رجل، فمشى في أثرهم فقال: يا قوم، ارجعوا وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا -يعني عن المسلمين- إن لم تقاتلوا، فقال له عبد الله بن عمرو الأنصاري، عبد الله بن أبي: لو نعلم قتالا لاتبعناكم [آل عمران: 167] .
ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم [آل عمران: 170] : المعنى: أنهم يفرحون بإخوانهم الذين بقوا في الدنيا من بعدهم؛ لأنهم يرجون أن يستشهدوا مثلهم، فينالوا ما نالوا من الأمن وعدم الحزن، وسبب نزول الآية أن جماعة من الصحابة استشهدوا فقال لهم الحق تعالى: "تمنوا ما تريدون"، فقالوا: الرجوع إلى الدنيا للشهادة في سبيلك، فقال: سبق في أزلي أنه لا يرجع إلى الدنيا أحد، فقالوا: أعلم إخواننا الذين بقوا فيها أنك رضيت عنا وأرضيتنا، [ ص: 261 ] ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر [آل عمران: 176] : الخطاب لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، سلاه الله بهذه الآية.
والمسارعون إلى الكفر - المنافقون أو الكفار في مبادرتهم إلى أقوالهم وأفعالهم.
وقتلهم الأنبياء بغير حق [آل عمران: 181] : أسند القتل إليهم مع أن آباءهم هم الذين قتلوهم، لكنهم رضوا بذلك، وتبعوا من فعل ذلك منهم، فهم شركاء؛ لأن الراضي بالمعصية كفاعلها.
فإن قلت: ما فائدة تنكير الحق هنا وتعريفه في الآية الأولى من البقرة [61] ، ومعلوم أنه لم يقتل نبي بحق؟
والجواب أنه عرفه لاجترائهم على قتلهم مع معرفتهم بأنه بغير حق، ولذلك قرئ بالتشديد تعظيما للذنب والشنعة للذي أتوه، وإنما أباح الله تعالى من أباح منهم، وسلط عليهم عدوه كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كقتل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، قال وغيره: لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وأما من أمر بالقتال فإن الله نصره. ابن عباس
وإنما عرف الحق في البقرة إشارة إلى الحق الذي أخذ الله أن تقتل النفس به، وهو قوله: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق [الأنعام: 151] ، فكان الأولى بالذكر؛ لأنه من الله، وما في هذه السورة نكرة؛ لأنه في معتقدهم وتدينهم، وكان هذا بالتأخير أولى.
فإن قلت: المذكورون في الآيات الثلاث من بني إسرائيل قد اجتمعوا في الكفر والاعتداء، فما وجه اختصاص الآية بجمع التكسير فيما جمع في الآيتين جمع سلامة، فقيل: " النبيين " في الآيتين، وقيل: في هذه الآية الأخيرة الأنبياء مكسرا؟ فالجواب أن جمع التكسير يشمل أولي العلم وغيرهم، وجمع السلامة يختص في أصل الوضع بأولي العلم، وإن وجد في غيرهم فبحكم الإلحاق والتشبيه، كقوله تعالى: إني رأيت أحد عشر كوكبا [يوسف: 4] ، وما يلحق بهذا.
[ ص: 262 ] وإذا تقرر هذا فورود جمع السلامة في قوله في سورة البقرة: ويقتلون النبيين بغير الحق [البقرة: 61] ، مناسب من جهتين: إحداهما شرف الجمع لشرف المجموع.
والثانية مناسبة زيادة المد لزيادة أداة التعريف في لفظ الحق.
وأما الآية الأولى من سورة آل عمران فمثل الأولى في مناسبة الشرف ومناسبة زيادة المد للزيادة في الفعل العامل في اللفظ المجموع في قراءة من قرأ: "ويقاتلون".
ولما لم يكن في الآية الثالثة سوى شرف المجموع، وكانت العرب تتسع في جموع التكسير فتوقعها على أولي العلم وغيرهم أتى بالجمع هنا مكسرا لتحصل اللغتان، حتى لا يبقى لمن يتحدى القرآن حجة، إذ هم مخاطبون بما في لغاتهم، فلا يقتصر في شيء من خطابهم على أحد الجائزين دون الآخر إلا أن يتكرر، فإذ ذاك يرد على وجه واحد مما يجوز فيه.
فتأمل ما أجملته، فسوف يتضح لك به إذا استوفيته ما يعينك على فهم الإعجاز.
وأخرجوا من ديارهم [آل عمران: 195] : هذه الآيات في الذين آذاهم الكفار بمكة حتى خرجوا منها، ولحقوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقاتلوا معه.
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله [آل عمران: 199] : نزلت في ملك الحبشة، والجمهور على أنها عامة في كل من أسلم من اليهود أو النصارى. النجاشي
وجه النهار واكفروا آخره [آل عمران: 72] : هذه مقالة قوم من اليهود قالوها لإخوانهم ليخدعوا المسلمين فيقولوا: ما رجع هؤلاء عن دين الإسلام إلا عن علم.
وقال السهيلي: إن هذه الطائفة هم عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد.
والحارث بن عوف.
ولا تقتلوا أنفسكم [النساء: 29] : أجمع المفسرون أن المعنى: لا يقتل [ ص: 263 ] بعضكم بعضا، ولفظها يتناول قتل الإنسان لنفسه، وقد حملها على ذلك، ولم ينكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سمعه، وسكوته -صلى الله عليه وسلم- دليل على صحة قوله. عمرو بن العاص
ومن يفعل ذلك [النساء: 30] : إشارة إلى القتل؛ لأنه أقرب مذكور.
وقيل: إليه وإلى أكل المال بالباطل.
وقيل: إلى كل ما تقدم من المنهيات من السورة.
ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون [النساء: 33] : في معنى هذه الآية وجهان: أحدهما لكل شيء من الأموال جعلنا موالي يرثونه.
فمما ترك على هذا بيان لكل.
والآخر لكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، فمما ترك على هذا يتعلق بفعل مضمر، والموالي هنا: العصبة والورثة.
والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم [النساء: 33] : اختلف: هل هي منسوخة أو محكمة، فالذين قالوا إنها منسوخة قالوا معناها الميراث بالحلف الذي كان في الجاهلية.
وقيل: بالمؤاخاة التي آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه، ثم نسختها: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [الأنفال: 75] ، فصار الميراث للأقارب.
والذين قالوا إنها محكمة اختلفوا، فقال هي في المؤازرة والنصرة بالحلف لا في الميراث. ابن عباس:
وقال هي في الميراث، وإن الرجلين إذا والى أحدهما الآخر على أن يتوارثا صح ذلك وإن لم تكن بينهما قرابة. أبو حنيفة:
وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين [النساء: 8] : خطاب للوارثين، أمروا أن يتصدقوا من الميراث على قرابتهم، وعلى اليتامى، فقيل: إن ذلك على الوجوب، وقيل: على الندب، وهو الصحيح.
وقيل: نسخ بآية المواريث.
فإن قلت: ما فائدة حذف: واكسوهم من هذه الآية وإثباتها فيما قبل؟ [ ص: 264 ] والجواب: لأن المراد في الأولى السفيه المتصير إليه المال بإرث، ولا يحسن القيام عليه، فيحجر عليه ماله إبقاء عليه، ولا يمكن منه إلا بقدر ما يأكله ويلبسه، فالنهي إنما هو للأوصياء، ونسبته المال إليهم مجاز بما لهم فيه من التصرف والنظر.
أما هذه الآية فليست في شأن أحوال السفهاء وحكمها، وإنما المراد بها المقتسمون لميراث يخصهم لا حق فيه لغيرهم، فيحضر قريب فقير ويتيم محتاج، فندبوا إلى التصدق عليهم والإحسان، لا حق لهم في الميراث ولا في المال، فمن أين تلزم كسوتهم والتنصيص عليها، إنما ندبوا إلى الإحسان إليهم فالعفو عما يخف عليهم وسع ذلك كسوتهم أو لم يسع، فافترق مقصود الآيتين.
وجاء كل على ما يناسب.
والصاحب بالجنب [النساء: 36] : الرفيق في السفر. ابن عباس:
الزوجة. علي بن أبي طالب:
وأولي الأمر منكم [النساء: 59] : هم الولاة، وقيل: العلماء.
ونزلت في بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سرية. عبد الله بن حذافة
وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به [النساء: 83] : قيل: هم المنافقون.
وقيل: قوم من ضعفاء المسلمين، كانوا إذا بلغهم خبر عن السرايا والجيوش وغير ذلك تكلموا به وأشهروه قبل أن يعلموا صحته، وكان في إذاعتهم له مفسدة على المسلمين مع ما في ذلك من العجلة، وقلة التثبت، فأنكر الله عليهم ذلك.
وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق [النساء: 92] : معنى الآية أن والمقتول على هذا مؤمن، ولذلك قال المقتول خطأ إن كان قومه كفارا معاهدين، ففي قتله تحرير رقبة والدية إلى أهله لأجل معاهدتهم، لا كفارة في قتل الذمي. مالك:
وقيل: إن المقتول في هذه الآية كافر، فعلى هذا تجب الكفارة في قتل الذمي.
وقيل: هي عامة في المؤمن والكافر، واللفظ مطلق إلا أنه قيده قوله: وهو مؤمن في الآية قبلها.
وقرأ هنا: وهو مؤمن. الحسن
[ ص: 265 ] ويستفتونك في النساء [النساء: 127] .
أي: يسألونك عما يجب عليهم في أمر النساء.
وما يتلى عليكم عطف على اسم الله، أي: يفتيكم الله، والمتلو في الكتاب بمعنى القرآن.
والمستضعفين من الولدان [النساء: 127] : عطف على يتامى النساء، أي: والذي يتلى في المستضعفين من الولدان وهو قوله: يوصيكم الله في أولادكم ؛ لأن العرب كانت لا تورث البنات، ولا الابن الصغير، فأمر الله أن يأخذوا نصيبهم من الميراث.
وأن تقوموا لليتامى بالقسط [النساء: 127] : عطف على المستضعفين، أي: والذي يتلى عليكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط.
ويجوز أن يكون منصوبا، تقديره: ويأمركم أن تقوموا، والخطاب في ذلك للأولياء والأوصياء والقضاة وشبههم، والذي يتلى عليكم في ذلك هو قوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما [النساء: 10] .
وقوله: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [البقرة: 188] .
والصلح خير [النساء: 128] : لفظ عام يدخل فيه صلح الزوجين وغيرهما.
وقيل: معناه صلح الزوجين خير من فراقهما، فخير على هذا للتفضيل.
واللام في الصلح للعهد.
وأحضرت الأنفس الشح [النساء: 128] : معناه أن الشح جعل حاضرا مع النفوس لا يغيب عنها، لأنها جبلت عليه، والشح هو ألا يسمح الإنسان لغيره بشيء من حظوظ نفسه.
وشح المرأة من هذا هو طلبها لحقها من النفقة والاستمتاع.
وشح الزوج: هو منع الصداق أو التضييق في النفقة وزهده في المرأة لكبر سنها أو قبح صورتها.
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم [النساء: 129] : معناه القول التام في الأقوال والأفعال والمحبة وغير ذلك، فرفع الله ذلك عن [ ص: 266 ] عباده، فإنهم لا يستطيعونه، وإذا كان الصادق المصدق يعدل بين نسائه مع أن الله لم يأمره بذلك، بل كان يتطوع لهن بذلك، ويقول: يعني ميله بقلبه، والأمر القلبي مرفوع عن الحرج، وخصوصا للمحسنة منهن، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها وكراهة من أساء إليها، هذا أمر جلي. اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك،
وقد قدمنا أن الحب يتوارث والبغض يتوارث.
وقيل: إن الآية نزلت في ميله -صلى الله عليه وسلم- بقلبه إلى فمعناها على هذا اعتذار من الله تعالى عن عباده. عائشة،
ولو على أنفسكم [النساء: 135] : يتعلق ب: شهداء ، وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراره بالحق، ثم ذكر: الوالدين والأقربين [النساء: 135] ، إذ هم مظنة التعصب والميل، فإقامة الشهادة على الأجنبيين من باب أحرى وأولى.
وإن تلووا أو تعرضوا [النساء: 135] : قيل: إن الخطاب للحكام.
وقيل: للشهود، واللفظ عام في الوجهين.
واللي: هو تحريف الكلام، أي: إن تلووا عن الحكم بالعدل، أو عن الشهادة بالحق، أو تعرضوا عن صاحب الحق، أو عن المشهود له - فإنه خبير بما تعملون.
وقرئ تلوا - بضم اللام من الولاية، أي: إن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه [النساء: 157] : روي أنه لما وقع قتل المشبه بعيسى قالوا: إن كان هذا المقتول عيسى فأين صاحبنا، وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى، فاختلفوا، فقال بعضهم: هو هو.
وقال بعضهم: ليس هو، فأجمعوا أن شخصا قتل، واختلفوا من كان.
فإن قيل: كيف وصفهم بالشك، ثم وصفهم بالظن، وهو ترجيح أحد الاحتمالين؟ [ ص: 267 ] فالجواب: أنهم كانوا على الشك، ثم لاحت لهم أمارة فظنوا.
وقد يقال: الظن بمعنى الشك، وبمعنى الوهم الذي هو أضعف من الشك.
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته [النساء: 159] : في هذه الآية تأويلان: أحدهما: أن الضمير في موته لعيسى، والمعنى: أن كل أحد من أهل الكتاب يؤمن بعيسى حين ينزل إلى الأرض قبل أن يموت وتصير الأديان كلها حينئذ دينا واحدا وهو دين الإسلام.
والثاني أن الضمير في موته للكتابي الذي تضمنه قوله: وإن من أهل الكتاب ، والتقدير: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمن بعيسى ويعلم أنه نبيء قبل أن يموت هذا الإنسان، وذلك حين معاينة الموت، وهو إيمان لا ينفعه.
وقد روي هذا المعنى عن وغيره. ابن عباس
وفي مصحف أبي بن كعب : "قبل موتهم".
وفي هذه القراءة تقوية للقول الثاني، والضمير في: " به " لعيسى على الوجهين.
وقيل: لمحمد - صلى الله عليه وسلم.
وبصدهم [النساء: 160] : يحتمل أن يكون بمعنى الإعراض، فيكون كثيرا صفة لمصدر محذوف، أي: صدا كثيرا، أو بمعنى صدهم لغيرهم.
فيكون كثيرا مفعولا بالمصدر، أي: صدوا كثيرا من الناس عن سبيل الله.
وكلم الله موسى تكليما [النساء: 164] : تصريح بالكلام مؤكد بالمصدر، وذلك دليل على المعتزلة: إن الشجرة هي التي كلمت موسى. بطلان قول
ولا الملائكة المقربون [النساء: 172] : فيه دليل لمن قال: إن الملائكة أفضل من الأنبياء؛ لأن المعنى: لن يستنكف عيسى ومن فوقه أن يكون عبدا لله.
وفيه رد على من قال: إنهم أولاده.
وما أكل السبع [المائدة: 3] ، أي: أكل بعضه.
والسبع: كل حيوان مفترس كالذئب والأسد والنمر والثعلب والعقاب والنسر.
[ ص: 268 ] "وسيلة" [المائدة: 35]: كل ما يتوسل به من الأعمال الصالحة والدعاء وغير ذلك، ومنه: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب [الإسراء: 57] .
أي: أولئك الآلهة الذين تدعون من دون الله يبتغون القربة إلى الله، ويرجونه، ويخافونه، فكيف تعبدونهم معه؟ وإعراب: أولئك مبتدأ و: الذين يدعون - صفة له، و: يبتغون خبره، والفاعل في يدعون ضمير للكفار، وفي: يبتغون للآلهة - المعبودين.
وقيل: إن الضمير في يدعون ويبتغون للأنبياء المذكورين.
وقيل: في قوله: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [الإسراء: 55] .
ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر [آل عمران: 176] .
انظر كيف سلى الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في مواضع من كتابه.
وقرئ بفتح الياء - وضم الزاي حيث وقع مضارعا من حزن الثلاثي، وهو أشهر في اللغة من أحزن.
وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به [المائدة: 61] : هم قوم من اليهود دخلوا كفارا وخرجوا كفارا، ودخلت "قد" على خرجوا ودخلوا، تقريبا للماضي من الحال، أي: ذلك حالهم في دخولهم وخروجهم على الدوام.
وحسبوا ألا تكون فتنة [المائدة: 71] ، أي: بلاء واختبار.
وقرئ تكون بالرفع على أن تكون " أن " " مخففة من الثقيلة، وبالنصب على أنها مصدرية.
ولتجدن أقربهم مودة [المائدة: 82] ... الآية.
إخبار بأن النصارى أقرب إلى مودة المسلمين، وهذا الأمر باق إلى آخر الدهر، فكل يهودي شديد العداوة للإسلام وأهله، وكيف، لا وهم الذين قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل [آل عمران: 75] ، وأحبارهم يقولون لهم: قال بنو العرب: من غشنا فليس منا، فغشوهم لئلا تكونوا منهم.
[ ص: 269 ] وانظر حكاية لما سافر معه اليهودي، فوجد منه من النصح ما أشعر به، فسأله عبد الله بن عمر عن هذه النصيحة وأنه لم يصدر منه في جانبه إلا المودة، فقال له: كنت أمشي على ظلك؛ لأني لم أقدر لك على غيره من النكاية، وقد شدد العلماء في خلطتهم ومحبتهم، وكيف لا يشددون والله يقول: ابن عمر لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله [المجادلة: 22] ، نسأل الله السلامة. فمصاحبة من حاد الله ورسوله تفضي إلى النار،
وكلوا [المائدة: 88] : جاء هذا الأمر بعد النهي عن الاعتداء في التشديد على الأنفس رفقا من الله بعباده، وخص الأكل بالذكر؛ لأنه أعظم حاجات الإنسان.
ومن قتله منكم متعمدا [المائدة: 95] : مفهوم الآية يقتضي أن جزاء الصيد على المتعمد لا على الناسي، وبذلك قال أهل الظاهر.
وقال جمهور الفقهاء: إن المتعمد والناسي سواء في وجوب الجزاء، ثم اختلفوا في تأويل قوله: متعمدا على ثلاثة أقوال: أحدها أن المتعمد إنما ذكر ليناط به الوعيد الذي في قوله: ومن عاد فينتقم الله منه [المائدة: 95] ، إذ لا وعيد على الناسي.
والثاني أن الجزاء على الناسي بالقياس على المتعمد.
والثالث: أن الجزاء على المتعمد ثبت بالقرآن، وأن الجزاء على الناسي ثبت بالسنة.
وبال أمره [المائدة: 95] : عاقبة أمره من الشر والوبال وسوء العاقبة، يقال: ماء وبيل وكلأ وبيل، أي: وبيل لا يستمر أو تضر عاقبته، والوبيل والوخيم ضد المريء.
وطعامه [المائدة: 96] : الضمير عائد على البحر، يعني ما قذف به، ولا يطفو عليه؛ لأن ذلك طعام وليس بصيد، قاله رضي الله عنه. أبو بكر الصديق
وقال طعامه: ما صلح منه. ابن عباس:
[ ص: 270 ] وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما [المائدة: 96].
لما ذكر أن صيد البحر حلال ذكر هنا أن صيد البر لا يحل للمحرم تناوله.
وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم [المائدة: 101]: فيه معنى الوعيد على السؤال، كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم أبدي لكم ما يسوءكم.
والمراد ب: حين ينزل القرآن زمان الوحي.
ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون [المائدة: 103].
أي: يكذبون عليه بتحريم ما لم يحرم، واخترعوا تحريمها من عندهم، والذين لا يعقلون هم أتباعهم المقلدون لهم.
ولا تكونن [الأنعام: 14]: الخطاب حيثما وقع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو يكون معطوفا على معنى: أمرت فلا حذف، وتقديره: أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك.
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [الأنعام: 25]: عبر بالأكنة والوقر مبالغة، وهي استعارة، يعني أن الله حال بينهم وبين فهم القرآن إذا استمعوه، و: أن يفقهوه في موضع مفعول من أجله، تقديره: كراهة أن يفقهوه.
وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون : الضمير في " وهم " للكفار، و: " عنه " يعود على القرآن.
والمعنى أنهم ينهون الناس عن الإيمان به، وينأون عنه بمعنى يبعدون.
وقيل: الضمير في: " عنه " يعود على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعنى ينهون عنه يبعدون الناس عن إذايته، وهم مع ذلك يبعدون عنه.
والمراد بالآية على هذا أبو طالب ومن كان معه يحمي النبي -صلى الله عليه وسلم- وينصره بنفسه وماله، ويقول له: لا تخف أحدا.
فإني أذب عنك بنفسي ومالي، وهو القائل:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
[ ص: 271 ]فانهض لأمرك ما عليك غضاضة وطب نفسا وقر منك عيونا
وذلك الفوز المبين [الأنعام: 16]: الإشارة راجعة إلى صرف العذاب أو الرحمة، أي: ذلك هو النجاة الظاهرة.
فإن قلت: ما فائدة حذف ضمير "هو" في آية الأنعام؟
والجواب: أنه لم يتقدم فيها ما يستدعي إبرازه لما تقدمها من قوله تعالى: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [الأنعام: 15].
ثم أعقبه بقوله تعالى: من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ، والمراد من يصرف عنه العذاب في الآخرة فقد رحمه، عطف عليه قوله: وذلك الفوز المبين ، وكأن الكلام في قوة: فقد رحم وفاز، كما في قوله: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [آل عمران: 185].
والفاء هنا، وفي قوله: فقد رحمه جواب الشرط.
والفوز مسبب عن الرحمة، فاكتفي بذكره في آية آل عمران.
وذكرا معا في آية الأنعام، فعطفه عليه بين، ولم يتقدم من أول السورة إلى هنا ما يتوهمه العاقل فوزا، فيتحرز منه بما يعطيه ضمير "هو" من المفهوم، فلم يقع الضمير هنا.
ومنهم من يستمع إليك [الأنعام: 25]: الضمير عائد على الكفار، وأفرد وهو فعل جماعة حملا على لفظ: " من " .
و: "الأكنة" [الأنعام: 25] جمع كنان، وهو الغطاء.
فإن قلت: ما معنى وروده هنا بالإفراد بخلاف آية يونس [43]؟ فالجواب: أن هذه الآية نزلت في أبي سفيان، والنضر بن الحارث، وعتبة، وشيبة، وأمية، وأبي بن خلف، فلم يكثروا كثرة من في سورة يونس؛ لأن المراد [ ص: 272 ] بهم جميع الكفار، فحمل ها هنا مرة على لفظ: " من " فوحد لقلتهم، ومرة على المعنى فجمع؛ لأنهم وإن قلوا جماعة، وجمع ما في يونس ليوافق اللفظ المعنى.
ولو ترى إذ وقفوا على النار [الأنعام: 27].
جواب لو محذوف ليكون أبلغ، لأن المخاطب يترك مع غاية تخيله.
ووقعت: " إذ " موضع إذا التي هي لما يستقبل، وجاز ذلك؛ لأن الأمر المتيقن وقوعه يعبر عنه كما يعبر عن الماضي الوقوع.
و: وقفوا معناه: حبسوا، ولفظ هذا الفعل متعديا وغير متعد سواء، تقول: وقفت أنا، ووقفت غيري.
قال وقد فرق بينهما في المصدر، ففي المتعدي وقفت وقفا، وفي غير المتعدي وقفت وقوفا. الزهراوي:
ويحتمل أن يكون وقوفهم على النار دخولهم فيها، ويحتمل إشرافهم عليها ومعاينتها.
فإن قلت: ما فائدة تكرير الوقوف؟ فالجواب: لأنهم أنكروا النار في القيامة، وأنكروا جزاء الله ونكاله في النار.
فختم بقوله: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون [الأنعام: 30].
وهذه استعارة بليغة، والمعنى: باشروه مباشرة الذائق، إذ هي من أشد المباشرات.
وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين [الأنعام: 29]: هذه الآية ابتداء كلام على تأويل الجمهور، وإخبار عنهم بهذه المقالة لإنكارهم البعث الأخروي.
فإن قلت: ما فائدة إسقاط قولهم: نموت ونحيا [المؤمنون: 37] ، في هذه الآية؟
والجواب: لأنها عند كثير من المفسرين متصلة بقوله: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [الأنعام: 28].
وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ، ولم يقولوا ذلك بخلاف ما في سائر السور، فإنهم قالوا ذلك، فحكى الله عنهم.
[ ص: 273 ] وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو [الأنعام: 32]: هذا ابتداء خبر عن حال الدنيا، والمعنى أنها إذا كانت فانية منقضية لا طائل لها أشبهت اللهو واللعب الذي لا طائل له إذا انقضى.
فإن قلت: قد قدم اللعب في أكثر الآيات وفي بعضها أخره، فهل لذلك وجه؟
والجواب: إنما قدم اللعب في الأكثر؛ لأنه زمان الصبا، واللهو زمان الشباب، وزمان الصبا مقدم على زمان اللهو، يبينه قوله في الحديد: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب [الحديد: 20] ، كلعب الصبيان، ولهو كلهو الشباب.
وزينة كزينة النساء، وتفاخر كتفاخر الإخوان، وتكاثر كتكاثر السلطان.
وقريب من هذا في تقديم لفظ اللعب على اللهو قوله: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين [الأنبياء: 16، 17] ، وقدم اللهو في الأعراف [51]؛ لأن ذلك في القيامة، فذكر على ترتيب ما انقضى، وبدأ بما بدأ به الإنسان انتهاء من الحالتين.
وأما العنكبوت فالمراد بذكرهما ذكر زمان الدنيا، وأنه سريع الانقضاء قليل البقاء، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [العنكبوت: 64] ، أي الحياة التي لا أمد لها ولا نهاية لأمدها، فبدأ بذكر اللهو؛ لأنه في زمان الشباب كما قدمنا أنه أكثر من زمان اللعب.
وللدار الآخرة خير [الأنعام: 32]: سميت الآخرة لتأخرها عن الدنيا.
وقرأ الستة من القراء: وللدار بلامين، والآخرة نعت للدار.
وقرأه وحده: ولدار - بلام واحدة، وكذلك وقع في مصاحف الشام بإضافة الدار إلى الآخرة، وكذلك هو لدار الحياة الآخرة. ابن عامر
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن أفلا تعقلون، على إرادة المخاطبين، وكذلك في الأعراف وفي آخر يوسف، ووافقهم أبو بكر في آخر يوسف، وإنما قال فيها: عاصم: ولدار الآخرة بالإضافة؛ لأن ما قبلها في هذه السورة: وما الحياة الدنيا ، فالدنيا [ ص: 274 ] صفة للحياة، كذلك جعل الآخرة صفة للدار، ولأنه في المصاحف بلامين إلا في مصحف الشام، وما في يوسف بلام واحدة على الإضافة، فوافقوا المصاحف، وقراءة على الإضافة موافقة لمصحفهم، واعتبارا بما في يوسف. ابن عامر
ويقوي ما في هذه السورة ما في الأعراف: والدار الآخرة خير [الأعراف: 169].
وقالوا لولا نزل عليه آية [الأنعام: 37]: الضمير عائد على الكفار.
ولولا تحضيض بمعنى هلا.
ومعنى الآية: هلا أنزل على محمد بيان واضح لا يقع معه توقف من أحد، كملك يشهد له، أو غير ذلك من تشططهم المحفوظ في هذا؛ فأمر عليه السلام بالرد عليهم بأن الله عز وجل له القدرة على إنزال تلك الآيات.
ولكن أكثرهم لا يعلمون [الأنعام: 37] ، أنها لو نزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعقوبة.
ويحتمل: ولكن أكثرهم لا يعلمون [الأنعام: 37] ، أن الله تعالى إنما جعل الإنذار في آيات معروضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون.
فإن قيل: ما وجه إفراد الآية هنا وجمعها في العنكبوت [50] ، ولم طلبوا الآية وقد أتى بمعجزات وآيات؟ فالجواب: أن: " لولا " في الآيتين تحضيض، وإنما يجري في كلامه عندما يراه المتكلم به أولى أو أهم في مقصود ما أو أتم في مطلب ما، إلى أشباه هذا، مما يستدعي التحضيض، فأفردوا هنا الآية لما قصدوه من أنه عليه السلام لو جاءهم بآية واحدة من الضرب الذي طلبوه.
أما آية العنكبوت فقد تقدم قبلها: بل هو آيات بينات [العنكبوت: 49] ، وقال بعدها: وما يجحد بآياتنا [العنكبوت: 49] ، وقال بعدها: قل إنما الآيات عند الله [الأنعام: 50] ، فلم يكن ليناسب بعد اكتناف هذه الجموع توحيد آية، ثم إن هذه الآية لم يتقدمها من التهديد وشديد الوعيد ما تقدم آية الأنعام، فناسب ذلك ورود الفعل غير مضعف.
وجاء ذلك كله على ما يجب.
[ ص: 275 ] وإنما طلبوا الآية؛ لأنهم لم يعتدوا بما أتى به، فكأنه لم يأت بشيء عندهم لجحدهم وعنادهم، وأيضا فإنما طلبوا آية تضطرهم إلى الإيمان من غير نظر ولا تأمل.
وكذلك فتنا بعضهم ببعض [الأنعام: 53]: أي ابتلينا الكفار بالمؤمنين، وذلك أن الكفار كانوا يقولون: هؤلاء العبيد والفقراء من الله عليهم بالتوفيق للحق والسعادة دوننا، ونحن أشرف منهم وأغنياء، وكان هذا الكلام منهم على جهة الاستبعاد لذلك.
وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [الأنعام: 68].
قد قدمنا مرارا أنه -صلى الله عليه وسلم- معصوم من الشيطان، وكيف لا وشيطانه أسلم، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: فالخطاب على هذا لأمته. "إن الله أعانني عليه فأسلم"،
ومعنى الآية إن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم، فلا تقعد بعد أن تذكر النهي معهم.
وإما مركبة من إن الشرطية وما الزائدة.
وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء [الأنعام: 69]: الضمير في: حسابهم للكفار المستهزئين.
والمعنى: ليس على المؤمنين شيء من حساب الكفار على استهزائهم وضلالهم.
وقيل: إن ذلك يقتضي إباحة جلوس المؤمنين مع الكافرين؛ لأنهم شق عليهم النهي عن ذلك؛ إذ كانوا لا بد لهم من مخالطتهم في طلب المعاش وفي الطواف بالبيت وغير ذلك، ثم نسخت بآية النساء وهي: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره [النساء: 140].
وقيل: إنها لا تقتضي إباحة القعود.
وليكون من الموقنين [الأنعام: 75]: يتعلق بمحذوف تقديره: نريه ملكوت السماوات والأرض ليكون عالما من الموقنين.
وتلك حجتنا [الأنعام: 83]: إشارة إلى ما تقدم من استدلاله واحتجاجه.
[ ص: 276 ] وكيل [الأنعام: 102]: كفيل بالأمور.
وقيل: كاف.
وأعرض عن المشركين [الأنعام: 106]: إن كان معناه عما يدعونك إليه أو عن مجادلتهم فهو محكم، وإن كان أعرض عن قتالهم وعقابهم فهو منسوخ.
وكذلك: وما أنا عليكم بحفيظ [الأنعام: 104] ، و: بوكيل [الأنعام: 107].
ولا تكسب كل نفس إلا عليها [الأنعام: 164]: رد على الكفار؛ لأنهم قالوا: اعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وأخراك، فنزلت الآية، أي: ليس كما قلتم، وإنما كسب كل نفس عليها خاصة.
" وسوس " [الأعراف: 20] الشيطان للإنسان: ألقى في نفسه.
والوسواس: الشيطان.
ونزعنا ما في صدورهم من غل [الأعراف: 43]: أي: من كان في صدره غل لأخيه في الدنيا نزع منه في الجنة، وصاروا إخوانا على سرر متقابلين.
وإنما عبر بلفظ الماضي في: " نزعنا " وهو مستقبل لتحقق وقوعه في المستقبل.
حتى عبر عنه بما يعبر به عن الواقع.
وكذلك كل ما جاء بعد هذا من الأفعال الماضية اللفظ.
، وهي تقع في الآخرة، كقوله: ونادى أصحاب الجنة [الأعراف: 44].
فإن قلت: أي: فائدة لزيادة: إخوانا [الحجر: 47] ، في آية الحجر؟
والجواب: لأنها نزلت في الصحابة رضوان الله عليهم، وما سواها عام في المؤمنين.
- وذكر أن ابنا لطلحة كان عند فاستأذن علي بن أبي طالب، الأشتر فحبسه مدة - ثم أذن له، فقال: ألهذا حبستني.
وكذلك لو كان ابن عثمان حبستني له، فقال نعم، إني علي: وعثمان وطلحة ممن قال الله فيهم: والزبير ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين .
قال بعضهم: فقال له بعض من حضر: كلا، الله أعدل من أن يجمعك [ ص: 277 ] في مكان واحد. وطلحة
فقال: لمن هذه الآية لا أم لك! وإنما قال له هذا القائل هذا لأن قاتل طلحة مع عليا معاوية.
والآية تدل على أن الغل لا ينافي التقوى، والتقوى مساوية للإيمان، وليست أخص منه، بخلاف غيرها من الآيات؛ إذ لو كانت أخص منه لما كان في قلوبهم غل.
فإن قلت: لعل الغل في قلوبهم وهم يجاهدونه؟ فالجواب: الآية تأبى ذلك، وهذه صفة ممدوحة، وهذا إن كان النزع في الآخرة، وإن كان في الدنيا فلا كلام.
وأنا أول المؤمنين [الأعراف: 143]: أي: أول قومه، أو أول زمانه، أو على وجه المبالغة في السبق إلى الإيمان.
واتخذ قوم موسى من بعده [الأعراف: 148] ، أي: من بعد غيبته في الطور.
وأوحى ربك إلى النحل [النحل: 68].
قد قدمنا أن الوحي ينقسم إلى أقسام، وهذا أحدها، وهو الإلهام، أو يكون بمعنى الأمر بأن ربك أوحى لها.
ومما يدل على أن هذا إلهام قوله: ثم كلي من كل الثمرات [النحل: 69].
وأتى بصيغة الأمر مبالغة في قصدها إلى ذلك، كما اشترط في المأمور القصد إلى الافتعال.
وقيل: إنه أمر حقيقة، أي: ثم قال لها: كلي من كل الثمرات [النحل: 69].
قال ابن الخطيب: وبيتها الذي صنعته مسدس، وقام البرهان في علم الهندسة على أنه أحسن الخواتم؛ لأنه مفصل الزوايا، ليس بينها خلل، بخلاف المربع والمثمن.
وذلك الاتصال وعدمه لا يظهر إلا لمن قرأ ست مقالات من كتاب إقليدس.
والشكل المسدس أقرب إلى الاستدارة كدائرة الضابط، قال: وفي بنائها حكمة عظيمة، وهو أنها تنسج ملأ البيت الأعلى على ملأ البيت الأسفل، وهذا دليل على أنه لا يشترط في الإحكام والإتقان علم الصانع.
ذكره في المحصل.
فإن قلت: هل ترعى النور أو ما ينزل عليه وهو الترنجبيل؟ [ ص: 278 ] فالجواب: هو الظاهر، فإنه لا يظهر لرعيها في النور أثر.
والظاهر الأول لاختلاف طعم عسلها بالحلاوة والمرارة بحسب ما ترعى، ولو رعت الترنجبيل فقط لاتحد طعم عسلها.
وأيضا فالترنجبيل عند الأطباء بارد، والعسل حار.
فإن قلت: يكتسب الحرارة من النحل؟ قلنا: نجد عسل السعتر والخلنج أشد حرارة من عسل الإكليل، ولو كان منها لما اختلف.
فإن قلت: قد قال تعالى: فيه شفاء للناس [النحل: 69] ، فهل هو عام أو مطلق؟ فالجواب: ليس على العموم، ولأن الأمزجة مختلفة، فإنما هو شفاء لمن مازجه البلغم أو السوداء في بعض الأحيان.
فإن قلت: كيف يكون شفاء لصاحب الصفراء والسوداء مع اختلاف أمزجتهما؛ لأنه إن كان عندكم يقمع الصفراء فلا يقمع نقيضها؟ وأجيب: بأن الترياق يقوي الروح، فتتقوى الغريزة النفسية، فتغلب على الطبيعة المزاجية، فتقمعها، فصح بذلك كونه دواء للشيء ونقيضه.
وقال أرسططاليس: إنه شفاء من مائة داء خاصة.
وعلى الله قصد السبيل [النحل: 9]: يعني أن من الناس من هداه الله بالدلائل العقلية، فاهتدى، ومنهم من ضل فجار وخالفها.
ومنه شجر [النحل: 10]: يريد به كلأ الأرض، ولفظ الشجر مشترك بين الجزء والكل.
وقال الشجر ما ليس له ساق. عكرمة:
وسخر لكم الليل والنهار [النحل: 12].
في تقديم الليل ما يدل على أنه عدم، والعدم سابق على الوجود، أو لأن العرب إنما يؤرخون بالليالي، وأول الشهر ليلة، وفي هذا دليل على أن الليل أفضل من النهار؛ لأن التقديم يؤذن بالفضل، ومعراج الخليل، وإدريس، وتكليم موسى الكليم، وعيسى [ ص: 279 ] إلى البيت المعمور، ومعراج الحبيب إلى قاب قوسين كان ليلا.
وأيضا خدمة العباد وخلواتهم إنما تكون ليلا، وأيضا فالليل من الجنة والنهار من الجحيم.
وذلك أن الله لما خلق النار بإخراج الظلمة من الجنة، لتكون نورا صافيا كلها ليس فيها نار، وجعل الليل والنهار في الدنيا علامة على الجنة والنار، وذلك أن الراحة والأمن إنما يكون بالليل، والتعب والشدة بالنهار، وقدم الشمس في الآية وإن كانت مؤنثة؛ لأن ضوء القمر يستمد منها وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [النحل: 14]: قد قدمنا أن الضمير يعود على البحر، والمراد بها اللؤلؤ أو المرجان، ولذلك قال في سورة الرحمن: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [الرحمن: 22].
وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا [النحل: 30]: يعني أنهم قالوا خيرا، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ من القائلين، يعني أنه يحتمل أن يكون من كلام المحكي عنه.
ونظير ذلك أن يقول زيد يقول خيرا الحمد لله.
فتقول أنت - حاكيا لكلامه: قال زيد خيرا الحمد لله، فهذه من كلام الحاكي.
والقول يحكى به الجمل والمفرد المؤدي معناها.
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا [النحل: 36].
الآية: فيها دليل على أن الله بعث لكل أمة رسولا منهم.
فإن قلت: هذا مناقض لما قلتم: إن الله بعث شعيبا إلى أمتين.
وقد صح أن رسالة نوح ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كانتا عامتين للعرب والعجم مما يدل على أن غيرهما لم يرسل إلى العجم، فنرى العقل خلا من السمع؟
والجواب: أن ذلك في التفاصيل والأحكام، وأما الإخبار بوجود الله ووحدانيته فكل نبيء أرسل بذلك على العموم.
فإن قلت: قس بن ساعدة وغيره من فصحاء العرب وعبدة الأصنام كانوا لا يعرفون الإله بوجه؟ [ ص: 280 ] والجواب: إنما ذلك في عوامهم، وأما رؤساؤهم فيعرفون وجود الإله، وإن كانوا معاندين في ذلك.
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم [النحل: 43] الآية.
الآية تدل على تخصيص الرسالة بالرجال، فيحتج به من قال إن مريم ليست بنبية.
ويجاب بأن الآية إنما اقتضت تخصيص الرجال بالرسالة بالنبوءة، وإما بأن قوله "بالبينات" متعلق بأرسلنا.
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [النحل: 44]: قد قدمنا أن المراد بالذكر القرآن، يعني إما بسردك علم آياته، وإما بتفسيرك الجمل وشرح ما أشكل منه، فيدخل فيه ما بينته السنة من أمر الشريعة، فعلى الأول المراد بالناس أبو بكر، وعمر، وعثمان، وإن أراد ما بينته السنة فالناس عامة. وعلي،
وانظر قوله: "لعلهم يتفكرون" [النحل: 44].
والتفكر إنما يكون من العلماء.
فإن قلت: المبين بعد المبين، وأنزل يقتضي الإجمال، وإنزاله دفعة واحدة.
ونزل يقتضي التنجيم حسبما ألم به في أول خطبة كتابه، والقرآن نزل أولا دفعة إلى سماء الدنيا، ثم نزل منها منجما، فأنزل قبل نزل، وجاءت الآية على العكس، وهو أن بيان ما نزل يقع بإنزال الذكر، فجعل متعلق أنزل بمتعلق نزل؟ الزمخشري
والجواب: ما قدمناه: أن متعلق أنزل راجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومتعلق نزل راجع لأمته، فأنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- جملة، ليبين بها ما نزل على أمته مفصلا منجما.
وله الدين واصبا [النحل: 52] ، أي: دائما.
وانظر هل أراد بالدين الطاعة أو الجزاء، وقد قال في قوله تعالى: الزمخشري مالك يوم الدين إنه يوم الجزاء.
وفي الآية دليل لمن حكى الإجماع على منع الردة في الخلق كلهم.
فإن قلت: قوله تعالى أولا: وله ما في السماوات [النحل: 52] ، أتت [ ص: 281 ] دليلا على وجود الصانع، فلم عطف عليه: وله الدين ، وهو لا يحسن أن يكون دليلا على وجود الصانع؛ لأنه إنما يستدل على وجوده بخلقه لا بالأحكام والشرائع التي كلفوا بها، لأنها مسببة عن ذلك، فلو كان العطف بالفاء لصح لأنها تدل على السببية؟
والجواب: بأن المراد من بعد خلقه للعالم، فما من زمان يأتي إلا وهو معبود فيه مطاع، تعبده الملائكة وبعض الناس، فهذا يدل على صحة وجوده.
واستدلوا في علم الكلام على وجود الصانع بطريقين: إما حدوث العالم، وإما إمكانه؛ لأن الممكن لا بد له من مخصص يوقعه على أحد الجائزين، وطريق الاستدلال بالحدوث يستلزم الإمكان؛ لأن كل حادث ممكن، وليس كل ممكن حادثا؟ فإن وجود حجر من زيبق أو من ياقوت ممكن، وليس هو بحادث، إذ المراد الحدوث بالفعل، وهذا الجواب إنما يتم على قول من فسر الواصب بالدائم.
والله خلقكم ثم يتوفاكم [النحل: 70]: قد قدمنا أن الخلق أبلغ من الوجود، ولما قدم في الآية التي قبلها التذكير بقدرة الله، وما اشتملت عليه من الآيات والحكم - عقبه ببيان قدرته في خلق الإنسان، وفي خلق أنفسكم.
وأسند فعل التوفي هنا لله تعالى، وقال في سورة السجدة: قل يتوفاكم ملك الموت [السجدة: 11].
والجمع بينهما ينتج صريح مذهب أهل السنة القائلين بالكسب.
فإن قلت: لم قال: ومنكم من يرد [النحل: 70] ، بحذف الفاعل، وقال: يتوفاكم - فذكر الفاعل؟
والجواب: أنه إذا كان المقصود الإشعار بالفعل على الإطلاق يحذف الفاعل.
كقولك: رأى الهلال، وإن كان المقصود الإخبار بفاعل الفعل يذكر، كقولك: طعن غلام عمر ولما كان التوفي قد خالفوا فيه، وقالوا: ما يهلكنا إلا الدهر - ذكر فاعله، بخلاف الرد إلى أرذل العمر، فإنه أمر ظاهر لا يحتاج إلى ذكر فاعله. المغيرة،
[ ص: 282 ] وأجاب بعضهم بأنه لما ذكر فاعل البدأة وفاعل النهاية أنه الله تعالى، علم أن ما بينهما من فعله، فاكتفي بذلك، ولم يحتج إلى ذكره في الرد إلى أرذل العمر، لأنها حالة متوسطة بين البداية والنهاية.
ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا [النحل: 73]: الضمير راجع للكفار، يعني أنهم يعبدون الأصنام وغيرهم.
فإن قلت: لم يخصوهم بالعبادة لأنهم يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر: 3] ، فلم ذكر هنا العبادة لهم، وما فائدة إبراز الضمير في لهم؟
والجواب: أن ذلك الجزء الذي صرفوه لهم من العبادة، عبدوهم وهم فيه من دون الله، وإنما أبرز الضمير؛ لأنه إذا أبرز الضمير لمن عبده فأحرى ألا يملكه لغيره، وقد قدمنا أن "شيئا" في الآية بدل من "رزقا".
ورحمتي وسعت كل شيء [الأعراف: 156]: يحتمل أن يريد رحمته في الدنيا، فيكون خصوصا في الرحمة وعموما في كل شيء؛ لأن المؤمن والكافر والمطيع والعاصي تنالهم الرحمة ونعمته في الدنيا.
ويحتمل رحمة الآخرة فيكون خصوصا في كل شيء؛ لأن الرحمة في الآخرة مختصة بالمؤمنين.
ويحتمل أن يريد جنس الرحمة على الإطلاق، فيكون عموما في الرحمة وفي كل شيء.
وقد صح أن لله مائة رحمة، رحمة في الدنيا للجميع، ويضم هذه الرحمة للتسعة وتسعين ويخصها بالمؤمنين.
وقطعناهم في الأرض أمما [الأعراف: 168]: أي: فرقناهم في البلاد، ففي كل بلد فرقة منهم، وليس لهم إقليم يملكونه، وذلك بقتلهم الأنبياء.
وإذ أخذ ربك من بني آدم [الأعراف: 172]: في معنى الآية قولان: إن الله لما خلق آدم أخرج ذريته من صلبه وهم مثل الذر، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم، فأقروا بذلك، والتزموا.
روي هذا المعنى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من طرق كثيرة، وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم.
[ ص: 283 ] والثاني أن ذلك من باب التمثيل، وأن أخذ الذرية عبارة عن إيجادهم في الدنيا.
وأما إشهادهم فمعناه أن الله نصب لبني آدم الآية على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم، فكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: ألست بربكم، فقالوا بلسان واحد: بلى، أنت ربنا.
والأول هو الصحيح، لتواتر الأخبار به، إلا أن ألفاظ الآية لا تطابقه بظاهرها، فلذلك عدل عنه من قال بالقول الآخر، وإنما تطابقه بتأويل، وذلك أن أخذ الذرية إنما كان من صلب آدم، ولفظ الآية يقتضي أن أخذ الذرية من بني آدم.
والجمع بينهما أنه ذكر بني آدم في الآية والمراد آدم، كقوله: ولقد خلقناكم ثم صورناكم [الأعراف: 11] الآية، على تأويل: لقد خلقنا أباكم آدم من صورته.
وقال إن المراد ببني آدم أسلاف اليهود، والمراد بذريته من كان في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم. الزمخشري:
والصحيح المشهور أن المراد جميع بني آدم حسبما ذكر.
وفي الحديث: إن أول من أجاب الأنبياء، ثم العلماء سمعوهم فأجابوا، ثم العامة، ثم الكفار، فكلهم أقروا له بالربوبية.
وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا [الأعراف: 198]: يحتمل أن يريد الأصنام، فيكون تحقيرا لها وردا على من عبدها، فإنها جماد موات لا تسمع شيئا، أو يريد الكفار، ووصفهم بأنهم لا يسمعون، يعني سمعا ينتفعون به لإفراط نفورهم، أو لأن الله طبع على قلوبهم.
وتراهم ينظرون إليك [الأعراف: 198]: إن كان هذا من وصف الأصنام فهو مجاز، وقوله: لا يبصرون حقيقة؛ لأن لهم صورة الأعين وهم لا يبصرون شيئا.
وإن كان من وصف الكفار فينظرون حقيقة، ولا يبصرون مجازا على وجه المبالغة، كما وصفهم بأنهم لا يسمعون.
وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [الأعراف: 202] [ ص: 284 ] الضمير في الجميع للشيطان وأريد بقوله: طائف من الشيطان [الأعراف: 201] الجنس، فلذلك أعيد عليه ضمير الجماعة.
وإخوانهم هم الكفار، ومعنى: يمدونهم يكونون مدا لهم، أي: يعضدونهم.
وضمير المفعول في: يمدونهم للكفار، وضمير الفاعل للشياطين.
ويحتمل أن يريد بالإخوان الشياطين، ويكون الضمير في إخوانهم للكفار.
والمعنى على الوجهين أن الكفار يمدهم الشيطان.
وقرئ: "يمدونهم" - بفتح الياء وضمها.
والمعنى واحد.
و: الغي يتعلق ب: يمدونهم .
وقيل: يتعلق بإخوانهم، كما تقول: أخوه في الله أو في الشيطان.
وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها [الأعراف: 203]: في معناها قولان: أحدهما اخترعتها من قبل نفسك: فالآية على هذا من القرآن.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتأخر عنه الوحي أحيانا، فتقول الكفار: هلا جئت بقرآن من قولك، والاجتباء معناه طلبتها من الله وتخيرتها عليه، فالآية على هذا معجزة؛ أي: يقولون: اطلب من الله المعجزة.
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له [الأعراف: 204]: كانوا إذا سمعوا القرآن اشتغلوا عنه، فأمر الله بالإنصات لقراءته على الإطلاق، ولا معنى لمن قال: إن معناها الإنصات لقراءة الإمام أو الخطبة؛ لأن الآية مكية، والخطبة إنما شرعت بالمدينة.
وأيضا اللفظ عام، ولا دليل على تخصيصه.
وجلت قلوبهم [الأنفال: 2] ، أي: خافت.
وقرأ فزعت. أبي بن كعب:
ومنه: لا توجلي، ووجلون.
فاعرض نفسك على هذا الميزان، هل تجد لذكر الله وجلا في قلبك، فأنت مؤمن حقا، وحينئذ فلا تنس نفسك وإخوانك من الدعاء، وإلا فابك على نفسك لحرمانك بخطيئتك، واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات.
وإن فريقا من المؤمنين لكارهون [الأنفال: 5] ، أي: لقتل العدو، [ ص: 285 ] وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها أموال عظيمة، ومعها أربعون راكبا، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين، فسمع بذلك أهل مكة، فاجتمعوا وخرجوا في عدد كثير ليمنعوا عيرهم، فنزل جبريل، وقال: يا محمد، إن الله يعدكم إحدى الطائفتين، إما العير وإما قريشا، فاستشارهم -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: العير أحب إلينا من لقاء العدو، فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقال له امض لما شئت، فإنا متبعوك. سعد بن عبادة:
وقال والذي بعثك بالحق لو خضت هذا البحر لخضناه معك. سعد بن معاذ:
وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام [الأنفال: 11]: لما عدم الصحابة الماء قبل وصولهم إلى بدر أنزل الله عليهم الماء فتطهروا به، وثبتت قلوبهم بزوال ما وسوس لها الشيطان من عدم الماء لوضوئهم وغسلهم، وأزال عنها الكسل، وكانوا في رملة دهسة لا يثبت بها قدم، فلما نزل المطر تلبدت، ولبدت الطريق، وسهل المشي والوقوف.
وروي أن ذلك المطر صعب الطريق على المشركين، فكان فيه لطف من الله، فلذلك عدده من نعمه عليهم.
وإن تعودوا نعد [الأنفال: 19]: أي: إن تعودوا إلى الاستفتاح والقتال نعد لقتلكم والنصر عليكم.
ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون [الأنفال: 20] ، أي القرآن والواعظ.
وإذ يمكر بك الذين كفروا [الأنفال: 30].
عطف على: إذ أنتم قليل [الأنفال: 26] ، أو استئناف، وفيها إشارة إلى اجتماع قريش بدار الندوة.
قال الثعلبي: كانوا اثني عشر رجلا دخلوا الدار، ودخل معهم إبليس لعنه الله على صورة شيخ في يده عصاه، فقال له أبو جهل: إنا قد اجتمعنا في تدبير أمر خفي، فارجع أنت يا شيخ.
فقال إبليس: إني شيخ من أرض نجد رأيت الدهور، وكرت الأمور علي، أنا أعلم مصالح التدبير وموافقة التأويل والتفسير، فأدخلوني معكم لعلي أنبئكم بتأويله.
وإنما نسب نفسه لنجد؛ لأنهم قالوا: [ ص: 286 ] لا تدخلوا معكم أحدا من أهل تهامة لمحبتهم في محمد، فلما دخلوا قال لهم عتبة: إن الموت حق، فاصبروا حتى يقضي الله على محمد فتنجوا من شره.
فقال له إبليس: أف لك! أين أنت عن التدبير، أنت لا تصلح إلا لرعي المواشي، فلو صبرتم حتى يموت محمد يظهر دينه في مشارق الأرض ومغاربها، فتجتمع عنده عساكر عظيمة لمحاربتكم، فيهلككم.
فقالوا: صدق الشيخ النجدي.
ثم قال شيبة: إني أرى أن نحبسه في بيت ونغلق أبوابه حتى يموت فيه جوعا وعطشا.
فقال إبليس: وهذا أيضا ليس بصواب؛ فإن بني هاشم يجتمعون ويأخذونه من أيديكم، ويخلون سبيله، ويقع بينكم وبين أقربائه عداوة عظيمة.
فقالوا: صدق الشيخ النجدي.
فقال عامر بن وائل: نعضد محمدا على بعير ونسوقه في البادية ليهلك فيها.
فقال إبليس: ليس بصواب؛ لأن محمدا فصيح اللسان، مليح الجنان، قويم القامة، صبيح الوجه، كل من رآه أحبه، وربما لقيه أحد وهداه إلى البلاد، فيصدقه كل من يسمع كلامه، ويجتمع عنده جمع عظيم، فيرجع إليكم، ويحاربكم، فصاحوا جميعا: صدق الشيخ النجدي.
فقال أبو جهل لعنه الله: إني أرى أن نخرج من كل قبيلة شابا فيهجمون على محمد في ليلة فيضربه كل واحد منهم ضربة جميعا بالأسلحة حتى لا يعلم قاتله بعينه، فإذا طلب أقاربه الدية نجمع الأموال من القبائل ونعطيهم وننجو من شره.
فقال إبليس: أحسنت وأصبت، لرأيك أحسن الرأي، وتدبيرك أحسن التدبير، فاتفقوا على قتله -صلى الله عليه وسلم-، وتفرقوا من دار الندوة، فنزل جبريل بهذه الآية، ثم قال: إن الله يقول لك: اخرج من مكة.
فأتى إلى وكان يأتيه كل يوم طرفي النهار، فأتاه في الظهيرة، فقال أبي بكر، ما جاء بك في هذا الوقت، فداك أبي وأمي؟ فقال لي: أخرج من معك. أبو بكر:
فقال: وهل هم إلا أهلك.
فقال: أما شعرت أن الله أمرني بالخروج، وكان يقول لا تهاجر حتى أجد لك رفيقا، فقال له: الصحبة يا رسول الله، فقال: الصحبة. لأبي بكر:
فقال: خذ إحدى هاتين الناقتين.
فقال له: لا آخذها إلا بالثمن، ليكون مهاجرا بنفسه وماله.
[ ص: 287 ] ثم قال لأصحابه: أيكم يبيت على فراشي أضمن له على الله الجنة، فقال أنا يا رسول الله، وأجعل نفسي فداك. علي:
فبات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم. علي
وجاء الكفار يحرسونه ويرتقبون خروجه، وإبليس معهم، فسلط الله عليهم الغفلة والنوم، ونام إبليس لعنه الله، ويقال: إنه لم ينم قط إلا في تلك الليلة، ولا ينام بعدها أبدا، فخرج -صلى الله عليه وسلم- مع ورآهم نائمين، فأخذ التراب وحثى على رؤوسهم. أبي بكر
وقرأ سورة يس حين قصد المرور، فلم يره أحد ببركة يس.
وفي الحديث: إن الله أوحى إلى جبريل، وميكائيل عند رجليه، وجبريل يقول: من يقتلك يا ابن أبي طالب باهى الله بك الملائكة، فأنزل الله عليه: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد [البقرة: 207].
وليجة [التوبة: 16]: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة فيه، والرجل يكون في القوم وليس منهم فهو وليجة.
وقيل اقعدوا مع القاعدين [التوبة: 46]: يحتمل أن يكون القائل الله تعالى، أو يكون ذلك من قول بعضهم لبعض، وعلى الأول فهو عبارة عن قضائه عليهم بالقعود.
والسابقون الأولون [التوبة: 100]: قيل: هم من صلى القبلتين، وقيل: من شهد بدرا.
وقيل: من حضر بيعة الرضوان.
وقيل: من أسلم قبل الهجرة.
وقيل: من اشتغل بمعاده عن معاشه.
وقيل: الذي غلب عقله على شهوته.
والذين اتبعوهم [التوبة: 100]: سائر الصحابة، ويدخل في ذلك الباقون، ومن بعدهم إلى القيامة بشرط الإحسان.
ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها [يونس: 7]: الضمير عائد على الكفار؛ لأن هذا شأنهم، قنعوا بالدنيا، وسكنت نفوسهم عن ذكر الانتقال منها، فإياك والاتصاف بهذا الوصف، وهو حال أكثرنا، لأنا نفرح بالزيادة منها، ونحزن لفقدانها، فيوشك أخذنا منها بغتة.
[ ص: 288 ] ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم [يونس: 18]: الضمير عائد على الكفار من قريش الذين تقدمت محاورتهم، فأخبر الله أن أصنامهم لا تضر ولا تنفع.
ورد على من زعم نفعهم لهم.
وقدم الضر هنا لتناسب الوارد من متصل قوله: ولا ينفعهم بقوله: ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس: 18].
ومنهم من يؤمن به [يونس: 40]: أخبر الله فيها بما يكون منهم في المستقبل.
وقيل: إن بعضهم يؤمن وهو يكتم إيمانه، ومنهم من يكذب.
ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي [يونس: 43]: المعنى: أتريد أن تهدي العمي، وذلك لا يكون.
فإن قلت: ما الفرق بين " من " في الاستماع وبين هذه؛ لأنه جاء أولا بلفظ الجمع وهنا بلفظ الإفراد؟ فالجواب: أن المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلاف النظر، فكان في المستمعين كثرة، فجمع ليطابق اللفظ المعنى، ووحد ينظر حملا على اللفظ، إذ لم يكثروا كثرتهم.
وقد قدمنا أنه إذا جاء الفعل على لفظ: "من" فجائز أن يعطف عليه آخر على معناها، وإذا جاء أولا على معناها فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ؛ لأن الكلام يلتبس حينئذ، وكأنه قال: ومنهم من ينظر إليك ببصره، لكنه لا يعتبر، ولا ينظر ببصيرته، فهو لذلك كالأعمى فسلاه الله بهذه الآية، والهداية إنما هي بيد الله، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى.
ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون [يونس: 47].
قال المعنى فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم صير قوم للجنة وقوم للنار، فذلك القضاء بينهم بالقسط. مجاهد:
وقيل: المعنى فإذا جاء رسولهم في الدنيا وبعث صاروا ممن ختم الله بالعذاب لقوم والمغفرة لآخرين [ ص: 289 ] لغاياتهم، فذلك قضاء القسط بينهم، وقرر بعض المتأولين هذه الآية بقوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الإسراء: 15] ، وذلك يتفق بأن يجعل معذبين في الآخرة، وإما بأن يجعل القضاء بينهم في الدنيا بحيث يصح اشتباه الآيتين، وإنما ورد في سورة يونس بالقسط في الموضعين؛ لأنه بمعنى العدل والتسوية في الحكم بمظنة وروده حيث يراد موازنة الجزاء بالأعمال من غير زيادة.
وأمرت أن أكون من المؤمنين [يونس: 104]: هذه مخاطبة من الله لنبيه، ويدخل تحته جميع المكلفين من أمته، وهذه الآية قبلها يتسق معناها بمحذوفات يدل عليها هذا الظاهر الوجيز.
والمعنى: إن كنتم في شك من ديني فأنتم لا تعبدون الله، فاقتضت فصاحة الكلام وإيجازه اختصار هذا كله.
وأمره هنا بالإيمان بخلاف آخر النمل؛ لأنه تقدم قبلها: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا [يونس: 99].
وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله [يونس: 100].
وبعد هذا: وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [يونس: 101].
وبعد هذا كله: كذلك حقا علينا ننج المؤمنين [يونس: 103].
وأما آية النمل فإن قبلها قوله: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين [النمل: 91].
وهذا يقتضي تسليم كل شيء له والتبري من توهم شريك أو نظير، فناسب هذا قوله: وأمرت أن أكون من المسلمين [النمل: 91].
وأن أقم وجهك [يونس: 105] ، أي: قصدك ودينك.
واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين [يونس: 109]: وعد بالنصر والظهور على الكفار، وإنما زاد في الأعراف: بيننا [الأعراف: 87]؛ لأنه من خطاب الله لشعيب، فناسبه البسط في الكلام.
ويتلوه شاهد منه [هود: 17]: الضمير في: " يتلوه " للبرهان، وهو البينة، أو لمن كان على بينة من ربه، والضمير في: " منه " للرب تعالى.
ويتلو هنا بمعنى يتبع، والشاهد يراد به القرآن.
والمعنى: يتبع ذلك البرهان شاهد من الله، [ ص: 290 ] وهو القرآن فيزيد وضوحه وتعظيم دلالته.
وقيل: إن الشاهد المذكور هنا هو فيا لها من فضيلة! كرر ذكره في مواضع، ولذلك قال له -صلى الله عليه وسلم-: علي بن أبي طالب، وشبهه بسورة الإخلاص في قوله: الناس في شجر شتى وأنت في شجرة واحدة. من قرأ سورة الإخلاص مرة واحدة فله ثواب ثلث هذه الأمة، ومن قرأها مرتين فله ثلثا ثواب هذه الأمة، ومن قرأها ثلاث مرات فله ثواب هذه الأمة.
وقال: من أحب بقلبه فله ثلث ثواب هذه الأمة، ومن أحبه بقلبه ولسانه فله ثلثا ثواب هذه الأمة، ومن أحبه بلسانه وقلبه وجوارحه فله ثواب جميع هذه الأمة. عليا
وقال نزلت في مجاهد: سبع آيات؛ لأنه كانت له أربعة أشياء لم تكن لغيره: السخاوة، والشجاعة، والزهادة، والعلم. علي
وله من جهة الرحمن امرأته أفضل النساء، وصهره أفضل الخلق، وشاهده جبريل، وولده الحسن سيدا شباب أهل الجنة. والحسين
ومن قبله كتاب موسى [هود: 17].
أي: من قبل ذلك الشاهد كتاب موسى يشهد بأن هذا القرآن هو من عند الله.
وقيل: أقوال غير هذه، هذا أصحها.
ويقول الأشهاد [هود: 18]: جمع شاهد كأصحاب.
ويحتمل أن يكون من الشهادة، فيراد به الملائكة والأنبياء، أو من الشهود بمعنى الحضور، فيراد به من حضر الموقف.
ومن آمن [هود: 40]: معطوف على: أهلك أي احمل أهلك ومن آمن من غيرهم.
وعلى أمم ممن معك [هود: 48]: يعني في السفينة.
واختار أن يكون المعنى: من ذرية من معك، ويعني به المؤمنين إلى يوم القيامة، ف: " من " على هذا لابتداء الغاية. الزمخشري
والتقدير: على أمم ناشئة ممن معك، وعلى الأول تكون من لبيان الجنس.
[ ص: 291 ] وأمم سنمتعهم [هود: 48] ، أي: بمتاع الدنيا، وهم الكفار إلى يوم القيامة.
ولما جاء أمرنا [هود: 58]: الأمر واحد الأمور، ويحتمل أن يكون مصدر أمر يأمر، أي: أمرنا للريح، أو لخزنتها، ونحو ذلك.
فإن قلت: لم قال هنا وفي قصة شعيب: " ولما " [هود: 94] بالواو، وفي قصة صالح [هود: 66] ، ولوط: [هود: 88] " فلما " بالفاء؟
والجواب: على ما قال إنه وقع ذلك في قصة الزمخشري: صالح ولوط بعد الوعيد، فجيء بالفاء التي تقتضي التسبيب، كما تقول: وعدته، فلما جاء الميعاد، بخلاف قصة هود وشعيب؛ فإنه لم يتقدم ذلك فيهما، فعطف بالواو.
وقيل في الجواب غير هذا مما يطول ذكره.
ونجيناهم من عذاب غليظ [هود: 58]: يحتمل أن يريد به عذاب الآخرة ولذلك عطف على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح.
ويحتمل أن يريد بالثاني أيضا الريح، وكرره إعلاما بأنه عذاب غليظ وتعديد النعمة في نجاتهم.
وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة [هود: 60]: حكم عليهم بهذا الحكم لكفرهم وإصرارهم حتى حل العذاب بهم، وقد تيقن أن هؤلاء وافوا على الكفر، فيلعن الكافر الموافي على كفره، ولا يلعن أحدا بعينه حتى البهيمة؛ لأن معناها البعد من رحمة الله.
فإن قلت: لم جمع في قصة هود بين اسم الإشارة ولفظ الدنيا الجاري عليه وصفا، واكتفى في قصة موسى [هود: 99] باسم الإشارة دون التابع؟
والجواب: أن قصة هود عليه السلام في هذه السورة أكثر استيفاء من قصة موسى عليه السلام بكثير، فناسب الطول الطول، والإيجاز الإيجاز، ولا يليق العكس.
[ ص: 292 ] وإننا لفي شك مما تدعونا [هود: 62]: هذا من قول قوم صالح، أخبروه أنهم في شك من أقاويله، وأن ذلك الشك يرتابون به زائدا إلى مرتبته من الشك، ولا فرق بين هذه الحال وحالة التصميم على الكفر، وإنما أثبتوا النونين الداخلين للتأكيد، وأفرد الضمير في: تدعونا [هود: 62] ، وألحقه في سورة إبراهيم [9] ، لأنها واردة على الأصل في اتصال الضمير المنصوب بها.
ثم يجوز حذف إحدى المضاعفين تخفيفا، فتقول: إنا، فتكتفي بالضمير عن النون المحذوفة، وذلك من فصيح كلامهم.
والأصل الأول.
وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين [هود: 67]: إنما ذكر الفعل المسند إلى الصيحة، لأنها بمعنى الصياح وتأنيثها غير حقيقي.
وقيل: جاز ذلك وهي مؤنثة لما فصل بين الفعل وبينها كما قالوا: حضر القاضي اليوم امرأة.
والأول أصوب.
وإنما أسقط تاء التأنيث من هذه القصة وأثبتها في قصة شعيب؛ لأنه على ضربين: حقيقي، وغير حقيقي، فالحقيقي لا تحذف تاء التأنيث من فعله غالبا إلا أن يقع فصل، نحو: قام اليوم هند، وكلما كثر الفصل حسن الحذف.
ومن كلامهم، كما قدمنا لو الإشارة مع الحقيقي ما لم يكن جمعا.
وأما التأنيث غير الحقيقي فالحذف فيه مع الفصل حسن، قال تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه [البقرة: 275] ، وهو كثير، فإن زاد الفصل ازداد حسنا، والحذف والإثبات هنا جائزان، فجاء الفعل في هذه الآية على الوجه الأول، وفي قصة شعيب على الوجه الثاني، جمعا بين الوجهين؛ إذ الآيتان في سورة واحدة، وتقديما للأولى على ما ينبغي، وهذا ما لم يكن الفاعل ضمير مؤنث فله أحكام تخصه. والله أعلم.
ولما جاءت رسلنا لوطا [هود: 77]: قد قدمنا أنه أعاد الضمير، لظنه أنهم من بني آدم وخوفه عليهم من قومه، وقوله لهم: لو أن لي بكم قوة [هود: 80].
ولما قالها قالوا له: إن ركنك لشديد.
[ ص: 293 ] فإن قلت: كيف ينطق بهذا وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد"، وفي الحديث: "يرحم الله لم يبعث الله نبيئا إلا في منعة وعزة؟
والجواب: أنه خشي عليه السلام أن يمهل الله أولئك العصابة حتى يعصوه في الأضياف، كما أمهلهم فيما قبل ذلك من معاصيهم، فتمنى ركنا من البشر يعاجلهم، وهو يعلم أن الله تعالى من وراء عقابهم، وأيضا فإن قومه إنما يمنعونه هو لو أرادوه بضر، وقد كان المطيع فيهم قليلا.
ولقد أصيب نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في غير ما موطن من شج رأسه، وكسر رباعيته، وطرح سلا الجزور على ظهره، ولم ينطق بشيء من ذلك عزامة منه ونجدة.
فإن قلت: لم حذف من هذه الآية إن الزائدة في العنكبوت [33]؟
والجواب: أنها كثيرا ما تزاد، ولما وردت هذه الآية بلفظها مرتين، وردت الثانية بزيادتها ليحصل بين التواردين ما يرفع تثاقل اللفظ المتكرر.
فإن قلت: فإنه قد تباعد ما بين الآيتين، ومثل هذا لا يلحظ فيه ما ذكرت؟ فأقول: لما كان اللفظ اللفظ، وكان زيادة "إن" وعدم زيادتها هنا مقيس فصيح جيء بالجائزين معا، وتأخرت الزيادة، إذ هي غير الأصل إلى المتأخر من الآيتين.
فإن قلت: إن قوله تعالى: فلما أن جاء البشير [يوسف: 96] ، لم يقع فيه تكرار، فلم زيد: " أن " ولم يأت على الأصل؟ قلت: لما كان مجيء البشير إلى يعقوب عليه السلام بعد طول الزمن، وتباعد المدة، ناسب ذلك زيادة: " أن " لما في مقتضى وصفها من التراخي، فورد كل من هذا على ما يجب.
[ ص: 294 ] ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين [هود: 96]: قيل: هو مشتق من السليط الذي يستضاء به.
وقيل: إنه مسلط على كل منا ومخاصم، وزاد السلطان في هذه الآية وفي سورة غافر زيادة قوله: وسلطان مبين [غافر: 23] ، وورد في سورة يونس [68] ، والمؤمنين [45] ، ذكر تأييد موسى بأخيه هارون عليهما السلام، ولم يرد ذلك في غيرهما.
وانفردت سورة المؤمنين بالجمع بين تأييده عليه السلام بأخيه وسلطان مبين؛ لأنه حيث يذكر سورة المرسل إليهم وقبح جوابهم يقال أبدا بتأييده بأخيه أو عضده بالآيات مما يقتضي القهر والإرغام، وهو المعبر عنه بالسلطان المبين، فيكون ذلك في مقابلة شنيع مجاوبتهم وسوء ردهم.
وبالجملة فإنه إذا اجتمع إفصاحهم بالتكذيب واستكبارهم جمع في التمهيد المتقدم بين التأييد بهارون والسلطان المبين، وحيث يصرح بالتكذيب أو ما يعطيه بينا، كقوله: فاتبعوا أمر فرعون [هود: 97].
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم [هود: 117]: هذا المجرور في موضع الحال من: " ربك " ويحتمل أن يريد بظلم منه تعالى لهم.
قال وقيل: يحتمل أن يريد بشرك منهم، وهم مصلحون في أعمالهم وسيرهم وعدل بعضهم في بعض، أي: أنهم لا بد من معصية تقترن بكفرهم. الطبري:
وهذا ضعيف، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قيل: إن الله تعالى يمهل الدول على الكفر، ولا يمهلها على الظلم والجور، ولو عكس لكان ذلك متجها، أي: ما كان الله ليعذب أمة بظلم في معاصيهم وهم مصلحون في الإيمان.
والاحتمال الأول أصح إن شاء الله.
وجيء بالفعل هنا ليهلك إشارة إلى التكرر بحسب ما يكون منهم، فلو كان في كل أمة وقرن من ينهى عن الفساد والظلم لما أخذوا بذوي الظلم منهم ولكن الله تعالى يدفع ببعضهم عن بعض، ولكن تكرر الفساد، وعم كل قرن، فتكرر عليهم الجزاء والأخذ، فأشار بالفعل إلى التكرر، ولم يكن قوله: مهلك في سورة القصص ليعطي ذلك وهنا كقوله تعالى: [ ص: 295 ] أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن [الملك: 19] ، ولم يقل: وقابضات لما قصد من معنى التكرر.
ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [هود: 118، 119] ، الإشارة إلى الاختلاف في المذاهب والأديان والملل.
وقيل: الإشارة إلى الرحمن، وقيل: إليهما.
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل [هود: 120]: انتصب كلا ب: نقص و: " ما " بدل من كلا، والإشارة في: وجاءك في هذه [هود: 120] إلى السورة.
وإن كنت من قبله لمن الغافلين [يوسف: 3] ، أي: من قبل القصص غافلا عن معرفته، وفي هذا احتجاج على أنه من عند الله، لكونه جاء به من غير تعليم.
وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث [يوسف: 6]: قيل: هي عبارة الرؤيا، واللفظ أعم من ذلك.
والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين [يوسف: 4]: كرر الفعل لطول الكلام، وأجرى الكواكب والشمس والقمر مجرى العقلاء في ضمير الجماعة لما وصفها بفعل من يعقل.
هذا يوسف أنجاه علمه من ذل السجن والبلوى، وأنت يا محمدي علمك الله علم كتابه، أفلا ينجيك علمك به من ذل الذنب، ويوصلك إلى جوار الرب، وقد اجتباك بقوله تعالى: هو اجتباكم [الحج: 78].
هذه رؤيا وافق تعبيره على ما رأى، وعصمه الله، ووصل إلى الملك، وكيف لا يعد لك الملك الأعظم، ويحفظك من مكايد إبليس ونزغاته عند الموت.
واردهم [يوسف: 19]: الوارد هو الذي يستقي الماء، وكان سيد القافلة مالك بن ذعر من العرب العاربة، فلما رأى يوسف تفرس فيه الصلوحية، [ ص: 296 ] فطلب من يوسف الدعاء، فدعا له بالنسل؛ لأنه لم يكن له، فدعا له فرزقه الله اثني عشر ولدا، أعقب كل واحد منهم قبيلة.
وأسروه بضاعة [يوسف: 19]: الضمير للسيارة، والمفعول ليوسف.
أي: أخفوه من الرفقة، وقالوا: دفعه لنا قوم لنبيعه بمصر.
والله غالب على أمره [يوسف: 21]: في عودة الضمير وجهان: أحدهما أن يعود على الله.
والمعنى أنه يفعل ما يشاء لا راد لحكمه.
والثاني: أنه يعود على يوسف، أي: يدبر الله أمره بحفظه وكرامته، ألا ترى أنه لما كان يوسف بحضرة والده وبعينه حمله إخوته على أعناقهم، فلما غاب عن بصره توجهت إليه المحن، وقاسى الشدائد، وكانت عاقبته الملك.
وأنت يا محمدي، ما لك لا تخاف من نظر الله إليك، فيراك على مخالفته.
ويحرمك من رحمته.
وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين [يوسف: 27] ، لأنها جبذته إلى نفسها حين فر منها، ولهذا يحكم القاضي بالقرائن المغلبة للظن غالبا.
وقد قدمنا أن هذا الصبي كان من أقرباء زليخا وصل وزارة يوسف بشهادته له.
وأنت تشهد لخالقك بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، أتراه لا يوصلك للملك الكبير، وهو على كل شيء قدير! اللهم إني أشهدك بما شهدت به لنفسك، وثنيت بملائكة قدسك، وثلثت بأولي العلم من جنك وإنسك، أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك.
وأن محمدا عبدك ورسولك، وأستودعك هذه الشهادة وأنت تحفظ الودائع.
ولا تخيب من استودعك، فردها علينا وقت احتياجنا إليها.
"ولج" يلج، أي: دخل، ومنه ما يلج في الأرض.
وأولج يولج، ومنه: يولج الليل في النهار [الحج: 61].
[ ص: 297 ] وابيضت عيناه من الحزن [يوسف: 84] ، أي: من البكاء الذي هو ثمرة الحزن، فقيل: إنه عمي.
وقيل: كان يدرك إدراكا ضعيفا.
وفي الحديث: يعقوب حزن حزن سبعين ثكلى.
وما ساء ظنه بالله قط، فلذا أعطي أجر مائة شهيد. إن
وأعلم من الله ما لا تعلمون [يوسف: 86]: هذا من قول يعقوب، يعني إني أعلم من لطفه ورحمته ما يوجب حسن ظني به وقوة رجائي فيه.
ولكل قوم هاد [الرعد: 7]: روي أنها لما نزلت قال عليه السلام: أنا المنذر، وأنت يا علي الهادي.
وقيل: معناها: إنما أنت نبيء منذر، ولكل قوم هاد من الأنبياء ينذرهم، فليس قولك بمبدع ولا مستنكر.
وقيل: المعنى: إنما عليك الإنذار، والله هو الهادي لمن شاء إذا شاء.
وجعل فيها رواسي وأنهارا [الرعد: 3]: قد قدمنا أن الرواسي الجبال، وقدمنا فائدة جمع الأنهار جمع قلة، والرواسي جمع كثرة.
ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين [الرعد: 3]: قيل: إنه معطوف على قوله: رواسي ، فيكون متعلقا بجعل الأول.
وقيل: إنه متعلق بجعل الثاني.
ورده بعض النحويين بأن فيه الفصل بين حرف العطف والمعطوف.
وقد قال ابن عصفور في شرحه الكبير: ولا يجوز فصل حرف العطف والمعطوف إلا بالقسم أو بالظرف والمجرور، بشرط أن يكون حرف العطف على أزيد من حرف واحد.
"وجعل" هنا معطوف على " جعل " الأول، ففصل بين الواو وبينه بالمجرور، وهذا جيد إلا أن يجاب بأنه من حرف الجمل، فهو استئناف.
فإن قلت: هل المراد بالزوجين اثنين الذكر والأنثى، كقوله: ومن كل شيء خلقنا زوجين [الذاريات: 49]؟ فالجواب: أن المراد بالزوجين النوعين، قال كالأسود والأبيض، [ ص: 298 ] والحلو والحامض، والصغير والكبير، فإنها في أصلها كانت زوجين ثم تفرعت منها أنواع، فصارت أزواجا. الزمخشري:
وإن تعجب فعجب قولهم [الرعد: 5]: انظر هل هذا أمر تقريري، أو هو استدعاء له ليعجب.
فإن قلت: إذا لا تدخل إلا على المحقق الوقوع، وإن تدخل على المشكوك فيه، والتعجب من هؤلاء محقق وقوعه؛ لأنهم أنكروا البعث، وخالفوا، مع علمهم أن الله خلقهم وأوجدهم، ومن أوجد المخلوقات من عدم قادر على إعادتها، قال: وعادتهم يجيبون بأن التعجب إنما يكون مما خفي بسبب، فما يتعجب إلا من يخفى عليه السبب، والنبي -صلى الله عليه وسلم- عالم بأن ذلك الواقع منهم، أمر قدره الله، وأراده منهم، فهو في خاصته لا يتعجب منهم، فضلا على أن يكون تعجبه منهم محققا، بدليل قوله تعالى: أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته قال أبو حيان: فعجب مبتدأ وخبره قولهم إذا.
ورد بوجهين: الأول: أن قولهم في رتبة العلم، وعجب نكرة.
والثاني أن محل الفائدة في عجب؛ لأنه المجهول، وقولهم: أئذا كنا ترابا - هو المعلوم.
وقولهم: لفي خلق جديد يحتمل أن يريد بالجديد ما سبقه عدم، ويحتمل أن يريد به ما لم يسبق بوجود.
وهذا هو الأظهر، لأجل تعنتهم، فهم يجعلون الإعادة كأنها خلق آخر لم يسبق بوجود ألبتة، فلذا نفوها.
ومذهب أهل السنة أن الإعادة ممكنة عقلا واقعة سمعا، وهل تعاد الأجساد أم لا، مذهب أهل السنة أنها تعاد؛ لأن الوجود قسمان: إما متحيز أو قائم بالتحيز، فالأرواح إن كانت متحيزة فهي أجسام، وإن لم تكن متحيزة فلا تستقل بنفسها، ولا بد لها من أجسام تحل فيها، فلا بد من إعادة الأجسام خلافا للحكماء وغيرهم.
ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات [الرعد: 6].
انظر هل المراد أنهم طلبوا الأمرين، أو طلبوا السيئة فقط، وهو [ ص: 299 ] الظاهر؛ لأن الحسنة بعدها، فما تأتيهم إلا وهم قد هلكوا.
ويحتمل أن يهلكوا من غير استئصال، والمراد بالمثلات القرون؛ لأنه وقع بها من العذاب ما صيرها يضرب بها المثل.
وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم [الرعد: 6]: قال ابن عبد السلام: هذه الآية نزلت على ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، لقوله: " ذو مغفرة " ، وهو للتقليل، وإنما أخذه من كون المغفرة مصدرا محدودا بالتاء الدالة على الواحدة، على العقاب، مصدر مبهم يقع على القليل والكثير، فلو قال: إن ربك لغفار للناس لأفاد المبالغة.
قال والظاهر في معنى المغفرة هنا إنما هو ستره وإمهاله للكفرة. ابن عطية:
ألا ترى التيسير في لفظ المغفرة، وأنها منكرة مقللة، وليس فيها مبالغة، كما في قوله تعالى: وإني لغفار لمن تاب [طه: 82].
وذكر في سورة غافر في قوله تعالى: الزمخشري إن الله لذو فضل على الناس [غافر: 61] ، أن إدخال: " ذو " يدل على عظم فضله وكثرته، ونحوه لابن عطية في سورة الروم في قوله: فآت ذا القربى حقه [الروم: 38] ، ونحوه في الإكمال في حديث للقاضي عياض في الوصية حيث قال: سعد بن أبي وقاص قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وإني ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي.
وكل شيء عنده بمقدار [الرعد: 8]: انظر هل المراد به القدرة وهي الإبراز من العدم إلى الوجود، أو الإرادة وهي التخصيص، أو العلم وهو الكشف والاطلاع.
والظاهر أن المراد به الإرادة وأن كل شيء عنده مقدر مراد؛ لأنه أتى به عقيب قوله: وما تغيض الأرحام وما تزداد [الرعد: 8] ، فثم حمل ناقص، وحمل زائد، وحمل معتدل، فقال: كل ذلك مقدر مراد له؛ لأن تخصيص الناقص بالنقص، والزائد بالزيادة، إنما هو راجع للإرادة، والظاهر أنه من العمومات الغير مخصصة، كقوله تعالى: " والله بكل شيء عليم " .
وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له [الرعد: 11]: هذا احتراس، [ ص: 300 ] إشارة إلى أن "المعقبات" [الرعد: 11] ، إنما يحفظونه مما أراد الله عدم وقوعه.
وأهل السنة يعممون لفظ "القوم" في الطائع والعاصي، والمعتزلة يخصصونه بالعاصي بناء على قاعدة التحسين والتقبيح عندهم.
ولا مرد له، أي: لا دافع عنه ابتداء قبل وقوعه بهم، ولا ناصر لهم برفعه عنهم بعد وقوعه.
وينشئ السحاب الثقال [الرعد: 12]: اختلفوا في ماء المطر، هل هو من السماء، أو من البحار يتصعد منها بخار وتكسبه الأهوية رقة وعذوبة فيتكون في السحاب ثم ينزل مطرا.
وقيل: بالوقف، وهو اختيار ابن رشد في البيان.
وذكر بعضهم أنه إذا سخن ماء البحر وجعلت على القد نشافة فإنه يعذب.
وقيل: بل تنكسر حدته ويشربه المضطر إليه.
ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته [الرعد: 13]: قيل: إن الرعد اسم ملك، ورده بعضهم لقوله تعالى: فيه ظلمات ورعد وبرق [البقرة: 19].
فقد نكره، فإن كان لفظ الرعد هو العلم على الملك لم يجز حذف الألف واللام منه، كما لا يحذف من القاسم وإن كان العلم عليه الرعد لزم إدخال الألف واللام هنا على الاسم العلم، وهو جائز. والعباس،
ويحتمل أن يكون الألف واللام للمح الصفة، فإن لمحتها أدخلتها وإلا فلا.
وقيل: الرعد صوت ملك.
وقال الحكماء: اصطكاك الأجرام.
فإن قلت: لم أسند الحمد للرعد والخوف للملائكة؟ فالجواب إن كان الرعد اسم ملك فأسند الحمد إليه إما لأنه جرم أعظم من سائر أجرام الملائكة، فهو في مقام الحمد لا في مقام الخوف، وإما ليدل اللفظ دلالتين: دلالة مطابقة والتزام، فأسند التحميد إليه مع الملائكة لدخوله فيهم، أو يكون حذف من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول، أي: ويسبح الرعد من خيفته بحمده والملائكة بحمده من خيفته.
[ ص: 301 ] وإن أريد بالرعد السحاب فالمعنى أنه سبح الله وحمده على إبرازه إياه من العدم إلى الوجود بلسان الحال لا بالقول؛ إذ لا عقل له، فلذلك لم يسند الخوف إليه، بخلاف التسبيح، لقوله: وإن من شيء إلا يسبح بحمده [الإسراء: 44].
والخوف إنما يقع من العاقل.
والذين يدعون من دونه [الرعد: 14]: لم يدعوهم من دون الله: لكن الجزء الذي شركوهم فيه مع الله في العبادة دعوهم فيه من دونه.
يستجيبون [الرعد: 14]: ليس هو من استفعل بمعنى طلب الفعل، وإنما هو كقول الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذلك مجيب
وأجاب علامة في المجيب بالموافق والمخالف، فيقال لهم نفي جوابهم بالموافق، مع أنهم لا يجيبون بشيء على الإطلاق، فيجاب بأن مطلوبهم من الآلهة إنما هو حصول غرضهم، فنفاه.
وأما غيره فليس مطلوبا لهم، فلم يحتج إلى نفيه، قاله الزمخشري.
وقوله: كباسط كفيه [الرعد: 14]: يحتمل أن يريد به إلا استجابة كاستجابة باسط، أي: كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب أن يبلغه فاه.
والماء جماد لا يشعر بعطشه ولا بدعائه له.
وشبه باسط كفيه للماء دون فاتح فيه للماء؛ لأنه داع، وشأن الداعي أن يبسط يديه.
وما هو ببالغه [الرعد: 14]: الفعل يقتضي التجدد، والاسم يقتضي الثبوت، فإذا أريد المبالغة عبر في الثبوت بالاسم، وفي النفي بالفعل؛ لأنه يلزم من نفي ثبوت الصفة وقتا ما نفي ثبوتها دائما، ولا يلزم من نفي ثبوتها دائما نفي ثبوتها وقتا ما، وكذلك يؤتى في الأعم بالنفي، وفي الأخص بالثبوت؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، وثبوت الأعم يستلزم نفي ثبوت الأعم، ونحوه [ ص: 302 ] في قوله: للزمخشري فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم [البقرة: 17].
وجاءت هذه الآية على العكس في قوله: ليبلغ فاه وما هو ببالغه .
فعبر بالثبوت في الفعل، وفي النفي بالاسم، فنفى عنه البلوغ الثابت دائما، ولا يلزم منه في البلوغ المتجدد الثابت وقتا ما؟
والجواب أن القرينة هنا تنفي هذا المفهوم المتوهم، وتعين أن المراد نفي البلوغ على الإطلاق كيفما كانت.
ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله [الرعد: 17]: هو كل ما يلين من المعادن، فإذا برد اشتد وتبين، كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص. الزمخشري:
والحلية: كل ما يتحلى به من الذهب والفضة وغيرها.
والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل [الرعد: 25]: هذا دليل على أن العهد يطلق على الوعد، وعلى الأمر المشق الملتزم، ولو كان العهد هنا الميثاق لما كان لقوله: من بعد ميثاقه [الرعد: 25]
فائدة.
وقيل: هي مباينة لما قبلها، ووقعت المبالغة فيما قبلها بتسعة أوصاف، وفي هذه بثلاثة أوصاف: لأن الأولى في معرض الجزاء على الطاعة.
وهذه في معرض العقوبة على المعصية، فناسب المبالغة في الأولى، تأكيدا على المثابرة على الطاعة، وعدم المبالغة في هذه تنفيرا عن المعاصي، وأن العقاب يقع على أدنى شيء من المعصية.
ووجه ثان: وهو أن نقض العهد إشارة إلى العهد المأخوذ على الخلائق يوم: ألست بربكم ، فهو راجع إلى التوحيد.
وقطع ما أمر الله بوصله: راجع إلى الإيمان بالرسول؛ لأن تكذيبه قطع له من مرسله، والإيمان به إقرار بصلته مع مرسله.
والفساد في الأرض راجع إلى المعاصي.
وفي الآية حجة لمن يقول: إن المندوب غير مأمور به، لأنها في معرض الذم لفاعل ذلك، فلو كان مأمورا به لما [ ص: 303 ] تناوله الذم، وليس المراد من جمع هذه الأوصاف، بل من اتصف بواحد منها.
فإن قلت: هل قوله تعالى: لهم اللعنة ولهم سوء الدار [الرعد: 25] ، لمن اتصف بها، سواء كان مؤمنا أو كافرا؟
والجواب: أن اللعنة للكفار وسوء الدار للعصاة، فهو لف ونشر! وإدخال اللام تهكم بهم وإشارة إلى أن اللعنة أمر ملائم لهم ومناسب لفعلهم! فليحذر العاقل هذا الوعيد الهائل ولا يستحقر العاصي.
وفرحوا بالحياة الدنيا [الرعد: 26]: هذا يرجع إلى الكفار الذين جعلوا الدنيا دارهم، وهل هي إلا سجن المؤمن إن عقل، لما يستولي عليه فيها من الهموم والبلايا والحيات والقمل.
ووجه المناسبة بينها وبين السجن ظاهرة، فانظر ما أغفلنا عن الآخرة مع مشاهدتنا لهذه الأمور! ولهذا تجد الكفار يوسع عليهم في الدنيا ليزدادوا كفرا وفسقا، وكذلك الموسع عليه منا أكثر ترفها وعصيانا، ولهذا قال في حديث: "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الدنيا".
ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه [الرعد: 27]: لولا للتحضيض، كقول الفقير للغني: لولا أحسنت إلي.
فأجابهم الله بأن يقول لهم: إنما أنا عبد، والعبد ليس له مع سيده اختيار، وسيده أعلم بأموره، إما أن يضله أو يهدي إليه من أناب.
فإن قلت: لم جعل فعل المشيئة مضارعا والإنابة ماضيا، والمناسب العكس.
لأن مشيئة الله قديمة وإنابة العبد حادثة، وفي غافر: وما يتذكر إلا من ينيب [غافر: 13]؟ فالجواب، أن فعل المشيئة أتى مضارعا باعتبار متعلقها، وهو من فعل العبد وغير مطلوب لأن أصلها من الله، فلم يحتج إلى طلب متعلقها.
والإنابة من فعل [ ص: 304 ] السيد، فجاء فعلها ماضيا إشارة إلى تأكد طلبها حتى كأنها واقعة.
وأيضا مشيئة الله دائمة مستمرة، وإنابة العبد منقطعة، فهو إشارة إلى أن من أناب ليس على وثوق من بقاء إنابته واستمرارها في المستقبل إلا بهداية الله وتوفيقه.
والآية عندي صريحة في مذهب أهل السنة؛ لقوله: "يهدي إليه" [الرعد: 27] ، أي: يخلق في قلبه الهداية ويرشده إليها.
وأناب إشارة إلى ما له في ذلك من الكسب.
ثم ذكر حالهم أنهم آمنوا به واطمأنت قلوبهم بذكره.
فإن قلت: كيف تطمئن قلوبهم بذكره وقد ذكرهم الله في آية أخرى: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [الحج: 35] ، فهذه اقتضت أن والأولى اقتضت طمأنينة قلوبهم؟ ذكر الله موجب خوفه والوجل منه،
والجواب: أنهم لما سمعوا ذكره تعالى حدث لهم خوف منه ووجل، ثم تعقبه طمأنينة وسكون، كما قال القائل:
وإني لتعروني لذكراك فترة كما انتفض العصفور بلله القطر
وهذا جواب حسن.
وهذه أمور ذوقية لسنا من ذلك على ذوق، فلا القلب يطمئن ولا يوجل، اللهم أقل العثرة واغفر الزلة.
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال [الرعد: 31] الآية.
وجوابها مقدر، أي: لا آمنوا به، والقضية الشرطية تقتضي نفي الأول لانتفاء الثاني، نحو: لو كان هذا إنسانا لكان حيوانا، لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان.
وتارة تقتضي ثبوته لثبوته، نحو: لو لم يكن هذا حيوانا لما كان إنسانا، لكنه إنسان فهو حيوان.
وتارة تقتضي مجرد الملازمة والارتباط، نحو: لو حضر زيد لحضر ثوبه، [ ص: 305 ] والآية من هذا القسم، والعطف فيها تدل؛ لأن تسيير الجبال أقرب وأعجب لعظم جرمها وكونها جمادا لا يقبل الاتصاف بصفة الحيوان، والسير من صفة الحيوان، ولم يقع ذلك فيها بوجه، ثم يليه تقطيع الأرض لكثرة وقوعه، لاسيما ما قاله من أنه تفجير أنهارها. ابن عطية
ويليه تكليم الموتى؛ لأنه قد وقع لعيسى عليه السلام وغيره.
ولقد استهزئ برسل من قبلك [الرعد: 32].
الآية. فيها دليل على أنه لأن الاستهزاء كفر وزيادة. لا أثر للاستهزاء على الكفر مع الكفر؛
وتعليق الحكم على الوصف المناسب يشعر بغلبته له، والاستهزاء هو عين الكفر، وهؤلاء لم يكونوا في زمن الفترة، بل كانوا مؤمنين بغيره، وما علم كفرهم به إلا من لفظ الاستهزاء، وفيها دليل على صحة العمل بالقياس؛ لأن الآية سيقت مساق التخويف للكفار، والتسلية لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، وما وجه التخويف إلا من ناحية أن المشاركة في الوصف توجب التسوية في الحكم الناشئ له، والكفار المعاصرون لنبينا مشاركون لمن سبقهم في الاستهزاء.
واقتضت الآية أن من سبقهم عوقب، فكذلك هؤلاء.
ولا معنى للقياس إلا إثبات حكم الأصل للفرع لعلة جامعة.
وتنكير لفظ: " رسل " للتشريع، ولا يناسب التعظيم، ولا يحصل به التخويف.
لأنهم يقولون: إنما عوقبوا أولئك على استهزائهم بعظماء الرسل فما يلزم منه عقابنا نحن.
فإن قلت: كيف أكد هذا القسم باللام وقد؛ مع أن الماضي بعيد عن زمن الحال؟
والجواب: تنزيلا له منزلة القريب، ليحصل كمال التخويف.
ولما أخبرهم بالإملاء فعلم العاقل منهم أن الإملاء أشد من الإمهال بكثير؛ لأنه يتضاعف به العذاب، فأسرع إلى الدخول في الإسلام، وعلم أن تيسير أسباب الوقوع من موجبات عذاب آخر، والأمر كذلك؛ لأن الله تعالى يقول: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما [آل عمران: 178].
ويحكون في مثل هذا أن صبيا مسلما [ ص: 306 ] صفع يهوديا في الحمام، فأعطاه اليهودي دينارا مكيدة منه للصبي، فدخل ذو هيئة فصفعه الطفل ظانا أنه يأخذ منه أكثر، فقطعت يده.
فافهم يا محمدي ما تحت الإمهال والإملاء من الأهوال، ولا تحسبن إمهاله إهمالا.
وجعلوا لله شركاء قل سموهم [الرعد: 33]: تارة تبطل الدعوى ببيان بطلان مدلول دليلها، وأبطل عليهم بهذه مدلولهم السمعي.
وهو قوله: أم بظاهر من القول ، وهو قولهم: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر: 3] ، وقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس: 18].
فقيل لهم: هل بلغكم ذلك عن الله على ألسنة الرسل أم لا؟ وقد خلط في قوله: " شركاء " على عادته في خلط لفظ القرآن بكلامه. الزمخشري
وأما العقلي فبطل ببطلان مدلوله، وهو قوله: قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض [الرعد: 33] ، فهو غير معلوم لله، وكل ما ليس بمعلوم لله فليس بموجود ولا معدوم إن قلنا إن المعدوم الممكن معلوم، فدل على أنه محال.
فإن قلت: كيف قال: قل سموهم وهم سموهم، فقالوا: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وفي آية يونس: قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض .
وفي هذه السورة: بما لا يعلم في الأرض .
وفي سورة إبراهيم: وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء [إبراهيم: 38]؟
والجواب: ليس المراد مجرد التسمية، بل تعيينهم.
والمعنى أنه إنما يستحق اسم الإله من اتصف بالاستغناء والكمال، وتنزه عن العجز والاحتياج، فعينوا لنا شركاء متصفين بذلك، فإنهم لا يجدونهم.
وإنما خص الأرض بالذكر لأنها المشاهدة القريبة، وإلا فقد عبدوا الشعرى والعبور، وعبدوا الشمس إلى غير ذلك.
ونفي علم الشيء عن الله يستلزم عدم ذلك الشيء، وفيه دليل على أن العدم غير معلوم.
وفي المسألة ثلاثة مذاهب: مذهب الجمهور.
إلى أنه معلوم، وقيل: إنه غير معلوم.
وقيل: المستحيل غير معلوم، والممكن معلوم.
[ ص: 307 ] وإما نرينك بعض الذي نعدهم [الرعد: 40].
الآية... تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- ووعد له بتعذيبهم.
ومعناها إما نرينك بعض ما ينزل بهم من العذاب فلا تتوهم أن عليك في ذلك شيئا، لأنك إنما عليك البلاغ، وقد بلغت، أو نتوفاك قبل رؤيتك ذلك فعلينا حسابهم؛ لأنهم إذا عذبوا بعد وفاته انتفى التوهم.
فإن قلت: هل هذا وعد له -صلى الله عليه وسلم- بتعذيبهم أو وعيد، فأطلق الوعد على الوعيد؟
والجواب أنهما اجتمعا في هذه الآية [الرعد: 40] ، وآية الزخرف [42] أبلغ؛ لأن قوله تعالى: أو نرينك الذي وعدناهم [الزخرف: 42] ، اقتضت رؤيته بعض عذابهم.
وهو ما ينزل بهم في الدنيا قبل وفاته، وكان بعضهم يقول: الوعد بالإحسان أو بالنصرة على الأعداء من السلطان أو الرجل ذي الهيبة ليس كالوعد ممن دونه؛ لأن الأول يحصل منه كمال الطمأنينة والركون.
فإن قلت: ما الفائدة في تأكيد الآيتين بالنون مع أن أحدها محقق الوقوع لا شك فيه، وإنما المهم تعيين الواقع منهما؟
والجواب: أن التأكيد راجع للجزاء لا للشرط.
فإن قلت: إنما هو في الشرط فقط، فاعلم أن الشرط والجزاء مرتبطان، ألا ترى أن القائل: إن قام زيد فأنا أكرمه - يحسن أن يقال له صدقت أو كذبت، والتصديق والتكذيب إنما هو للجزاء لا للشرط.
وهو سريع الحساب [الرعد: 41]: سرعة حسابه إما باعتبار قرب أوانه أو قصر زمانه وقلة مكثه.
وقال في سورة آل عمران [19] عن ابن عطية يحتمل أن المراد بسرعة الحساب أن الله تعالى لإحاطته بكل شيء علما لا يحتاج إلى عدول أو فكرة. مجاهد:
ويستدل بها وهذا مشاهد في رؤيته -صلى الله عليه وسلم- في أقطار شتى على هيئات مختلفة، ورؤية أموات في أقطار الأرض أن الله سبحانه يحاسب آلاف آلاف في وقت واحد من غير علم أحدهم بالآخر، لمنكر ونكير في وقت واحد هذا يقع له التبشير بقولهم، وآخر يضربانه ضربة يشتعل منها قبره نارا.
[ ص: 308 ] وقد مكر الذين من قبلهم [الرعد: 42]: قد قدمنا صفة مكرهم.
ولذلك أجابهم بقوله: فلله المكر جميعا [الرعد: 42]؛ لأن مكرهم من غير قدرة، وقدرته تعالى على الفعل، وهو عالم بهم، لا يخفاه شيء من أمرهم.
فإن قلت: "من" لابتداء الغاية.
فيقتضي أول أزمنة القبلية، وقد يقرب الماضي من زمن الحال، فكيف صح الجمع بينهما؟
والجواب: المراد أول أزمنة هذا المكر القريب، وهو الزمن القريب من وقتك.
ويقول الذين كفروا لست مرسلا [الرعد: 43]: هذا تصريح بإنكارهم وقبح مقالهم، وكيف لا وقد رأوا ظهور الخوارق المعلوم صدق من ظهرت على يديه بالضرورة، وكان الواجب عليهم النظر؛ لأنه واجب بالشرع خلافا للمعتزلة، فإنهم قالوا بالعقل، ولو كان واجبا بالشرع للزم عليه إفحام الرسل؛ لأنه يقول: ما ننظر في معجزتك حتى يجب ذلك علي، ولا يجب علي إلا بقولك، وأنا لا أصدقك.
وأجاب أهل السنة على ذلك بأن المعجزات والخوارق من الأمر الغريب.
والنفوس مجبولة على النظر في غرائب الأمور، وأيضا إن قلنا: إن النظر بتكليف ما لا يطاق، فنقول: إنه واجب، ولا يلزم ما ذكروه، وإن لم نقل بذلك فنقول: إنه متوقف على تمكن العلم بنبوءة الرسل لا على حصول العلم بنبوءته.
ونقول له: إنك متمكن من العلم، فانظر النظر الذي يوصلك إلى ذلك العلم.
فإن قلت: مقالتهم ماضية، فلم قال: ويقول الذين كفروا [الرعد: 43]؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أتى به مستقبلا للتعجيب، كقوله: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة [الحج: 63] ، ولم يقل: فأصبحت.
والثاني للتصوير، كأنها لم تزل واقعة مشاهدة.
والثالث ليتناول اللفظ من قالها ومن سيقول مثلها في المستقبل.
[ ص: 309 ] فإن قلت: هلا قال: لست نبيئا، فينتفي الأعم! لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص؟
والجواب أن نفي الأخص هنا يستلزم نفي الأعم؛ لأنه قال لهم: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [الأعراف: 158] ، فكذبوه في هذه المقالة، فإذا كذبوه فيها فهم لا يصدقونه في نبوءته! لأن النبي لا يكذب.
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه [إبراهيم: 4]: فيها دليل على أن واضع اللغة هو الله تعالى.
واختلف: هل الكتب المنزلة نزلت بلغاتهم أو بالعربية، وكل رسول يعبر لهم بلغتهم.
وقد قدمنا ذلك.
وفي قوله: فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء [إبراهيم: 4] ، دليل على أن حصول العلم عقيب النظر عادي، وليس بعقلي، إذ لو كان عقليا للزم من البيان الهداية.
ويحتمل أن يقال: لا يلزم ذلك؛ لأن المخاطب قد لا ينظر النظر الموصل للعلم.
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور [إبراهيم: 5].
الظاهر أن: " أن " هنا تفسيرية.
وقال بعض النحاة: إن النحويين يمنعون وصل: " أن " بالجملة غير الخبرية.
وذكر ابن العطار في شرح الجزولية جواز ذلك.
فإن قلت: هلا قال: أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور بإذن الله، كما قال أولا: لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم [إبراهيم: 1] ؟
والجواب أن الأول خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وشريعته من أسهل الشرائع، فناسب فيها ذكر الإذن ليفيد معنى السهولة واللين المأذون فيها، وهذه الآية الثانية خطاب لموسى، وقد كانت شريعته صعبة، ألا ترى إلى قوله تعالى: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم [البقرة: 54].
وأيضا "أخرج" فعل أمر! فهو بنفسه دليل على الإذن، فلم يحتج إلى ذكره معه، بخلاف قوله: لتخرج الناس ، فإنه جملة خبرية لا تدل على الإذن، فلذلك قيدت به.
[ ص: 310 ] وذكرهم بأيام الله [إبراهيم: 5]: التذكير لقوم موسى سبب في إخراجهم من الظلمات إلى النور، واللفظ يعم النعم والنقم، فإذا علموا عقوبته تعالى للأمم المتقدمة حركوا أنفسهم للإخراج من الكفر.
فإن قلت: كان حقه أن يقدم السبب على المسبب، فلم أخره عنه، وما الفائدة في تعبيره عنه بالأيام؟
والجواب: أن التذكير هو الموعظة، والدعاء إلى الإسلام متقدم عليها.
والموعظة إنما تكون بعد ذلك؛ لأنه يريهم المعجزة ابتداء، فإذا آمنوا وعظهم ليدوموا على إيمانهم.
وعبر عنه بالأيام؛ لأن العقوبة كانت في أيام، وذلك تعظيم لها، كقولهم: يوم كذا.
ويستحيون نساءكم [إبراهيم: 6]: لما أخبر فرعون أنه يولد من بني إسرائيل مولود يكون سبب هلاكه صار يذبح الذكور، ويستحيي النساء كما قدمنا.
فإن قلت: هلا قال: يستحيون بناتكم، ليوافق أبناءكم؟
والجواب: أن البنات في حال صغرهن لا مؤونة منهن ولا مشقة، وإنما يلحق آباءهم المؤونة والمشقة إذا كبرن وصرن نساء، وفيها إشارة إلى الوصف الذي لأجله أحيوا البنات وهو بقاؤهن حتى يكبرن فيحتقروهن ويذلوهن لبقائهن بغير رجال.
فإن قلت: هذا العطف ب: يذبحون ويستحيون على يسومونكم مشكل؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، فإن كان السوم هو الذبح لزم عطف الشيء على نفسه، وإن كان غيره لزم تفسير الشيء بغيره؟
والجواب: أنه غيره.
لكنه أعم منه، فالسوم هو أوائل العذاب ومقدماته، والذبح أخص منه.
فإن قلت: ما الفرق بين هذه الآية وآية البقرة [49] في عطفه هنا بالواو؟ [ ص: 311 ] والجواب: أن المنة في آية البقرة وقعت من الله تعالى؛ لأنه قال فيها: وإذ نجيناكم من آل فرعون [البقرة: 49] ، فأسند الفعل إلى نفسه، والملك كل الأشياء عنده حقير، فلهذا أتى بالجملة الثانية غير معطوفة لتكون مفسرة للأولى وكأنهما شيء واحد؛ لأنه لا يستعظم الأشياء إلا من لا قدرة له، فالمائة دينار لا قدر لها عند الغني، وهي عند الفقير مال معتبر، وأما في هذه السورة فالمنة فيها من موسى عليه السلام؛ لأن أولها: وإذ قال موسى لقومه ، فناسب فيها المبالغة في العطف بالواو التي تقتضي المغايرة والتباين، لتكثر أسباب المن.
وأجاب صاحب درة التنزيل بأن آية إبراهيم وقعت في خبر عطف على خبر آخر قبله: وهو قوله: ولقد أرسلنا [إبراهيم: 5]. - وإذ قال موسى [إبراهيم: 6] ، فتضمن الأول الإخبار عن إرسال موسى بالآيات، والثاني تنبيهه لقومه على نعم الله، فيقوى معنى العطف يذبحون ؛ لأنه هو وما عطف عليه داخل في جملة معطوفة على غيرها، فالمقام مقام الفصل، بخلاف آية البقرة، فإنه أخبر فيها بخبر واحد، وهو إخباره عن نفسه بإنجاء بني إسرائيل، فلذلك لم يعطف، وأخبر في إبراهيم بخبرين معطوفين، فلذلك عطف، يريد: والجملة المتقدمة في سورة البقرة إنما هي طلبية، وهي قوله: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم [البقرة: 47] ، والمشاكلة تقتضي الإخبار، وتجرى مجرى واحدا في الفصل والوصل، بخلاف الخبر والطلب، فإنه لا يعامل أحدهما معاملة الآخر، ألا ترى أن المشهور عند النحويين أنه لا يجوز عطف الجملة الخبرية على الطلبية ولا العكس.
وإذ تأذن ربكم [إبراهيم: 7]: قيل: أذن ربك، ونظيره توعد وأوعد، وتفضل وأفضل، ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنه قيل: وإذ تأذن ربكم إيذانا بليغا ينفي عنه الشكوك، ولأجل أن تفعل يقتضي التكلف والمشقة حمله -والله أعلم- على أن التضعيف للتأكيد والمبالغة في الإذن. الزمخشري
[ ص: 312 ] فإن قلت: لأي شيء أضاف الرب للمخاطب، والأصل إضافته إلى المتكلم.
فيقال: ربنا؟
والجواب: أنه لما طلب منهم الشكر أتاهم بأحد موجباته، وهو اللفظ الدال على الترقي والحنان، وأضافه إليهم ليكون آكد في الشكر.
وأما هو فشكره حاصل، ومعرفته بذلك مستقرة ثابتة.
وإنا لفي شك [إبراهيم: 9]: قد قدمنا في قصة صالح أن الشك هو التردد بين أمرين.
فإن قلت: قد قال في سورة هود: قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا [هود: 62] ، فلم حذفه هنا؟
والجواب: لتكرارها في: تدعوننا ، ولم يحذفها لعدم تكرارها في تدعوننا؛ لأنه خطاب لصالح وحده، فهو ضمير مفرد.
فإن قلت: كيف جزموا أولا بالكفر، ثم قالوا: وإنا لفي شك [إبراهيم: 9] ، والشاك غير حاكم بشيء فضلا عن أن يكون جازما به؟
والجواب: أن بعضهم قالوا: إنا كفرنا، وبعضهم قالوا: إنا لفي شك.
أو يجاب باحتمال أن يريدوا بالأول قسم التوحيد، وبالثاني قسم الشرائع والأحكام.
أو باحتمال العكس.
أو يراد: إنا كفرنا بما أرسلتم به من حيث الجملة.
وإننا لفي شك في الرسل بدليل قوله: أفي الله شك [إبراهيم: 10] ، فهم كفروا بالله وكفروا بما جاءت به الرسل من عنده.
وقد قدمنا أن قول الرسل: أفي الله شك إشارة إلى تقليل الشك، أي: لا يتصور أن يقع شك في الله بوجه وإن قل، فإذا أنكروا أن يكون أمر الله حيزا للشك مع قلته فأحرى أن يكون الشك حيزا مع كثرته.
ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [إبراهيم: 11]: لما كان وجود الله أمرا نظريا ليس بضروري، وكون الرسل مثلهم أمرا ضروريا لا يحتاج إلى [ ص: 313 ] نظر لظهوره قالوا لهم هذا لا لغيرهم.
ومعناه يمن على من يشاء بالإيمان والخروج عن دين آبائه، فلما سمعوا هذا منهم آذوهم فقالوا لهم: ولنصبرن على ما آذيتمونا [إبراهيم: 12]: وما موصولة بمعنى الذي، أو مصدرية، والعائد محذوف تقديره آذيتموناه أو آذيتمونا به.
وقال الذين كفروا لرسلهم [إبراهيم: 13].
قد قدمنا في حرف الكاف أن الرسل لم يكونوا في ملة قومهم قبل الرسالة.
وما ذلك على الله بعزيز [إبراهيم: 20] ، أي: بمتعذر ولا صعب.
وأحسن منه بمتعسر؛ لأن قوله: إن يشأ يذهبكم [إبراهيم: 19] ، أفاد إمكانه، فإنه غير متعذر.
وبرزوا لله جميعا [إبراهيم: 21]: قد قدمنا معنى البروز وحرف الباء، وحينئذ فيقول الضعفاء.
فإن قلت: لم عبر هنا وفي غافر [47] بالاسم، وفي سبأ [31]: يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا ؟
والجواب: أن الاسم يقتضي الثبوت، وكلما ثبت الأخص ثبت الأعم، فإذا كان مطلق الاستكبار يمنع من إيمان من اتصف بأخص الضعف فأحرى أن يمنع من إيمان من اتصف بأعمه.
وأما سورة سبأ فالمراد فيها تبعية من اتصف بمطلق الضعف لمن اتصف بمطلق الكفر، فإذا كان وجود مطلق الاستكبار لا ينفع لمن اتصف بمطلق الضعف فأحرى ألا ينفع لمن اتصف بأخصه ولا ينعكس.
وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات [إبراهيم: 23]: هذا إما على التوزيع، فلكل واحد جنة أو لكل واحد جنات، و: خالدين فيها [إبراهيم: 23] حال من الذين آمنوا مقدرة؛ لأن الدخول غير مقارن لزمن الدخول.
فإن قلت: ما فائدة ذكر الأنهار في كل موضع يذكر فيه الجنة مع أن الجنة معلومة بالماء؟ [ ص: 314 ] والجواب: أن التمدح بالماء معلوم عند الناس؛ لأنه أصل كل شيء.
وحكي أن بعض ملوك الروم كان يهدي ويهاديه لمعاوية فطلب مرة من معاوية، أن يبعث له بأصل كل شيء، فاستشار معاوية خواصه، فأشار إليه معاوية بأن يبعث له قارورة مملوءة بالماء، فلما بعثها له قال له الرومي: ما أشار عليك بهذا الأمر إلا من فيه عضو من النبوءة. عبد الله بن عباس
واستفتحوا [إبراهيم: 15]: الضمير للرسل، أي استنصروا بالله.
وأصله طلب الفتح، وهو الحكم.
ويسقى من ماء صديد [إبراهيم: 16]: معطوف على محذوف، تقديره: من ورائه جهنم يلقى فيها ويسقى، وإنما ذكر السقي تجريدا بعد ذكر جهنم؛ لأنه من أشد عذابها، ألا ترى كيف علله بقوله: ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت [إبراهيم: 17]؛ لأن الله قضى عليهم ألا يموتوا، فسبحان من حبس أرواحهم مع هذه الكربات.
وفرعها في السماء [إبراهيم: 24]: الضمير يعود على الشجرة التي أصلها ثابت.
وقرئ: ثابت أصلها، والقراءة المشهورة أبلغ؛ لأن " ثابت أصلها" صفة رفعت الفاعل، فهي في معنى الفعل، وأصلها ثابت مبتدأ وخبر، فليس في معنى الفعل، والإخبار بالاسم عندهم أبلغ من الإخبار بالفعل، فلذلك كان زيد أبوه قائم أبلغ من: زيد قائم أبوه.
فإن قلت: كيف عبر عن الكلمة الطيبة بالفعل، وعبر عن الكلمة الخبيثة بالاسم فرفع؟
والجواب: المؤمن له حالتان: انتقل من الكفر إلى الإيمان، والكافر له حالة واحدة ثبت عليها، ولم ينتقل عنها، فلذلك عبر عن مثله بالاسم.
وقد قدمنا أن أصحاب الشجرة أربعة.
وأنزل من السماء ماء [إبراهيم: 32]: كل ما علاك يسمى سماء، وسمي [ ص: 315 ] السحاب سحابا لعلوه، وهذا جار على الخلاف في المياه على ما قدمنا، هل هي من السماء، أو هي من بخار لطيف يصعد من البحار فيتكون منه السحاب، والصحيح الوقف.
وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره [إبراهيم: 32]: هذا مثل: ولا طائر يطير بجناحيه ؛ لأن جريها ليس إلا في البحر، وجريها في البحر لا يقع إلا بإذن الله.
فإن قلت: ما فائدة قوله: بأمره مع أنه معلوم؟
والجواب: لما كان لجريها أسباب في محاولة البحر وخدمة النواتية ربما يتوهم أن جريها بسبب ذلك، فاحترس منه بقوله: بأمره ، وبهذا تفهم الحكمة في إدخال اللام في قوله في الواقعة: لو نشاء لجعلناه حطاما [الواقعة: 65] ، دون إدخالها في قوله: لو نشاء جعلناه أجاجا [الواقعة: 70] ، لأن الأول فيه لابن آدم تسبب ومحاولة، فقد يتوهم أن ذلك من فعلهم، بخلاف الماء فإنهم لا تسبب لهم في كونه حلوا.
وآتاكم من كل ما سألتموه [إبراهيم: 34]: من للتبعيض، و: " كل " للعموم، ومتعلقهما مختلف، فالعموم في الأنواع، والتبعيض في أنواع تلك الأشخاص، أي: وآتاكم بعض كل نوع مما سألتموه.
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [إبراهيم: 34]: إفراد النعمة من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، بمعنى أن الإنسان لا يستطيع إحاطة جزئيات النعمة الواحدة، فأحرى ما هو أكثر.
و: " نعمة " مصدر محدود بالتاء، فليس المراد به الجنس، بل هو مفرد حقيقة، بدليل أن المصدر المحدود بالتاء يجوز تثنيته وجمعه، بخلاف المبهم.
فإن قلت: الشرط لا يكون مناقضا للجزاء، فلا تقول: إن قام زيد لم يقدر على القيام، والعد هو عين الإحصاء؟ [ ص: 316 ] والجواب: معناه: إن أردتم أن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، مثل: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم .
وانظر كيف وصف الإنسان بالظلم وجحد النعمة، والمراد به العموم، إلا إن استثنى، كقوله تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات [العصر: 1، 2، 3].
وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق [إبراهيم: 39]: حمد إبراهيم ربه على أن ولد له إسماعيل وهو ابن مائة وسبعة عشر عاما.
والحمد مشتق من التثنية، فهو إنما يصدق على من حمد مرة بعد أخرى، وكذلك هذا؛ لأن وجود إسماعيل مقدم على إسحاق، فقد صدق أنه حمد مرتين.
قال على بمعنى مع، أو بمعنى في، والأول أولى، لإفادتها زمن الكبر كله على الجملة. الزمخشري:
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون [إبراهيم: 42]: هذه الآية بجملتها فيها وعيد للظالمين وتسلية للمظلومين.
والخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: هو -صلى الله عليه وسلم- غير غافل، وعطف هنا بالواو وفيما بعدها بالفاء؟
والجواب: أن معناها الثبوت على علمك يا محمد، ومن اعتبر من أمتك وغيرهم أن الله لا ينجز ميعاده في أخذ الظالم حين ظلمه، فإن الله يمهله، ولذا عطف الآية بعدها بالفاء، وقد يعجل العقوبة على بعض الظالمين لرحمته بهم، وإن أخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار فسيعلمون ما يلحقهم.
فإن قلت: لم تعلق النفي هنا بالأخص، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم؛ لأن الحسبان المنفي مؤكد بالنون الشديدة، فهو أخص من مطلق الحسبان؟
والجواب: بأن النون دخلت على الفعل المنفي فأكدته؛ لأن النفي دخل على الفعل المؤكد فنفاه، فهو تأكيد للنفي لا نفي للفعل المؤكد، فهو نفي أخص لا نفي أعم.
[ ص: 317 ] فإن قلت: ما فائدة شدة الوعيد على الظالم؟ فالجواب: أن الله لما ذكر الإنسان أنه ظلوم جحود لنعمة الله لا يستغني بما أحل له عما حرم عليه، وكان الواجب في حقه أن يشكر الله على ما آتاه، ولو لم يشكره على نعمه كلها فالواجب عليه الشكر على بعضها؛ إذ لا يقدر أحد على إحصائها، كما قال تعالى، فلما كفر نعم الله عليه وتعدى كفره إلى ظلم أخيه الضعيف بالغ بهذا التهديد العظيم، لعله يرجع، كما جرى لبعضهم لما ظلم، فقال له المظلوم: أشكوك إلى السلطان.
فقال له: السلطان يعرفني، فقال: أشكوك إلى الله، فلما لقيه بعد أيام قال له كالمستهزئ به: ما قال لك الله، فقرأ عليه الآية، فاسترجع الظالم وأناب.
وهكذا حال من أراد الله هدايته.
فإن قلت: ما مناسبة هذه الآية لقوله تعالى: إن الإنسان لظلوم كفار [إبراهيم: 34] ، وختم آية النحل بقوله: إن الله لغفور رحيم [النحل: 18]؟
والجواب: أنه تقدم آية إبراهيم: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا .
.. إلى قوله: وآتاكم من كل ما سألتموه [إبراهيم: 28، 34] ، فناسبه ما ذكره تعالى من توالي إنعامه ودرور إحسانه، ومقابلة ذلك من العبيد بالتبديل، وجعل الأنداد - وصف الإنسان بأنه ظلوم كفار.
وأما آية النحل فلم يتقدمها غير ما نبه سبحانه لعباده المؤمنين من توالي آلائه وإحسانه وما ابتدأهم به من نعمه من لدن قوله: خلق الإنسان من نطفة [النحل: 4].، فذكر بضعا وعشرين من أمهات النعم إلى قوله - منبها وموقظا من الغفلة والنسيان: أفمن يخلق كمن لا يخلق [النحل: 17] ، فناسب ختام: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [النحل: 18] بالغفران.
فانظر هذا اللطف الجميل بعباده والتناسب الواضح.
وتبين لكم كيف فعلنا بهم [إبراهيم: 45]: يفهم من هذه الآية أن التواتر يفيد العلم؛ لأنهم لم يتبين لهم ذلك إلا بالإخبار عن الأمم السابقة.
[ ص: 318 ] وليعلموا أنما هو إله واحد [إبراهيم: 52] ... الآية.
الآية... تفيد أن الوحدانية تثبت بالسمع، وهو أحد القولين عند الأصوليين، وأتت هذه الآية بالتعري من تاء التفعل لتقدمها قوله تعالى: ولينذروا به وليعلموا [إبراهيم: 52] ، وقد عريت الكلمتان من حروف الشدة، فعطف عليه: وليذكر ؛ لأن جميعها من الرخوة بخلاف آية "ص" [29] ، فإن قبلها: ليدبروا [ص: 29] ، وفيه حرفان من حروف الشدة، فناسبهما: "وليتذكر".
والتناسب واضح.
وما بكم من نعمة فمن الله [النحل: 53]: نبه الله عباده بهذه الآية مؤمنهم وكافرهم على أن يشكروه ويتأدبوا معه.
ويؤخذ منها أن الكافر منعم عليه، وقيل: غير منعم عليه، للآية: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما [آل عمران: 178].
وقيل: منعم عليه في ظاهر حاله في الدنيا، وغير منعم عليه في عاقبته ومآله، وتنكير: نعمة للعموم لا للتقليل؛ إذ لا يوصف عطاء الله بالقلة، وقوله: ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [النحل: 53]: المهلة معلومة، لبعد ما بين غفلة الإنسان وذهوله من النعمة، وما بين تضرعه وذلته زمن الضر، كقوله:
وما يكشف الغمراء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها
واتبع أدبارهم [الحجر: 65] ، أي: كن خلفهم وفي ساقتهم حتى لا يبقى منهم أحد، وليكونوا قدامه، فلا يشتغل قلبه بهم، ولو كانوا وراءه لاشتغل لخوفه عليهم، وبهذا يظهر لك رحمة لوط بقومه الذين آمنوا معه.
والله يعلم ما تسرون وما تعلنون [النحل: 19]: لما تقدم هذه الآية: [ ص: 319 ] إن الله لا يؤاخذ عباده بعدم القيام بشكر النعم لذكره المغفرة والرحمة عقب قوله بهذه الآية، أي: ما تحدثون به أنفسكم، وليس المراد السر في اصطلاح الفقهاء.
وتضمنت الآية الإشعار باتصاف الله تعالى بالقدرة والعلم، فالقدرة بقوله: أفمن يخلق كمن لا يخلق [النحل: 17] ، وهذا للعلم.
وعطف: ما يسرون وما يعلنون للتسوية، فهو أمر استأثر الله به، كما قال: إن الله عنده علم الساعة [لقمان: 34].
وإن لكم في الأنعام لعبرة [النحل: 66]: لما كان التفكر منفعة عامة في العاقل وغيره أعقبه بالمنفعة الخاصة بالعاقل، وأكده بأن واللام لغفلة المخاطب عن الاعتبار والتذكر، لا لكونه منكرا لذلك.
وقد قدمنا في حرف الفاء أن زيادة لكم تنبيه على العبرة، والعبرة يراد بها الاتعاظ، لقوله: فاعتبروا يا أولي الأبصار [الحشر: 2].
ومما يعرشون [النحل: 68]: قد قدمنا أن الله تعالى أوحى إلى النحل أن تتخذ البيوت في الجبال والشجر وبيوت الناس حيث يعرشون، أي: يبنون العروش، فلا ترى للنحل بيوتا في غير هذه الثلاثة ألبتة.
وتأمل كيف كان أكثر بيوتها في الجبال، وهو المتقدم في الآية، وفي الأشجار وهي دون ذلك، ومما يعرش الناس، وهي أقل بيوتها.
وانظر كيف رآها حسنة الامتثال إلى أن اتخذت البيوت قبل المرعى فهي تتخذها أولا، فإذا استقر لها بيت خرجت منه ورعت، فأكلت من كل الثمرات، ثم أوت إلى بيوتها؛ لأن ربها سبحانه أمرها باتخاذ البيوت أولا، ثم بالأكل بعد ذلك.
قال في عجائب المخلوقات: يقال ليوم عيد الفطر يوم الرحمة؛ إذ فيه أوحى الله إلى النحل صنعة العسل.
قال لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار واحترازها من النجاسات والأقذار وطاعتها لواحد من جملتها، وهو أكبرها شخصا، وهو أميرها، ثم ما سخر الله له من أمرها من العدل [ ص: 320 ] والإنصاف بينها حتى إنه ليقتل منها على باب المنفذ كل ما وقع على نجاسة لقضيت من ذلك العجب إن كنت بصيرا في نفسك، وفارغا من هم بطنك وفرجك وشهوات نفسك في معاداة أقرانك وموالاة إخوانك، ثم دع عنك جميع ذلك وانظر إلى بنيانها من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال المسدس، فلا تبني بيتها مستديرا ولا مربعا ولا مخمسا، بل مسدسا لخاصية في ميل المسدس يقصر فهم المهندسين عن درك ذلك، وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير، وما يقرب منه؛ فإن المربع يخرج منه زوايا ضائعة، وشكل النحل مستدير مستطيل، فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة؛ فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة، ولا شكل من الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير، ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس وهذه خاصية هذا الشكل. الغزالي:
فانظر كيف ألهم الله تعالى هذا النحل على صغر جرمه لطفا به وعناية بوجوده فيما هو محتاج إليه ليتهنأ عيشه، فسبحانه! ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه! ولو ذكرنا منافع النحل، وما أودع فيها لاحتاج إلى مجلد، ولذلك مثل -صلى الله عليه وسلم- المؤمن بالنحلة إن صاحبته نفعك، وإن ساررته نفعك، وإن جالسته نفعك.
وكذلك النحلة على ما فيها من منافع.
قال وجه المشابهة من المؤمن في النحلة حذق النحل في فطنته وقلة أذاه وحقارته ومنفعته وقناعته وسعيه في الليل وتنزهه عن الأقذار، وطيب أكله؛ لأنه لا يأكل من كسب غيره، وتحوله وطاعته لأميره، وإن للنحل آفات تقطعه عن عمله، منها الظلمة، والغيم، والريح، والدخان، والماء، والنار، وكذلك المؤمن له آفات تفتره عن عمله ظلمة الغفلة، وغيم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، وماء السعية، ونار الهوى. ابن الأثير:
[ ص: 321 ] وفي مسند عن الدارمي، رضي الله عنه، قال: كونوا في الناس كالنحلة في الطير؛ إنه ليس في الطير شيء إلا وهو يستضعفها، ولو تعلم الطير ما في أجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك بها، خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم، فإن للمرء ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب. علي بن أبي طالب
والمعروف من قول أنه قال: إنما الدنيا ستة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومركوب، ومنكوح، ومشموم. علي بن أبي طالب
فأشرف المطعوم العسل، وهو قيء ذباب، وأشرف المشروبات الماء يستوي فيه البر والفاجر.
وأشرف الملبوسات الحرير، وهو نسج دودة.
وأشرف المركوبات الخيل، وعليها يقتل الرجال.
وأشرف المشمومات المسك وهو دم حيوان.
وأشرف المنكوحات المرأة وهو مبال في مبال.
وروى الكواشي في تفسيره الأوسط: أن العسل ينزل من السماء فينبت في أماكن، فتأتي النحل فتشربه، ثم تلقيه في الشمع المهيأ للعسل في الخلية، لا كما يتوهمه بعض الناس أن العسل من فضيلات الغذاء وأنه قد استحال في المعدة عسلا، هذه عبارته.
ومما يدلك على كمال قدرته سبحانه أنه جمع في النحلة السم والعسل، دليل على كمال قدرته، وأخرج منها العسل ممزوجا بالشمع، كذلك عمل المؤمن ممزوج بالخوف والرجاء. وفي العسل ثلاثة أشياء: الشفاء، والحلاوة، واللين، كذلك المؤمن، قال تعالى: ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [الزمر: 23] ، يخرج من الشاب خلاف ما يخرج من الكهل والشيخ، كذلك حال المقتصد والسابق، أمرها الله تعالى بأمر حتى صار لعابها شفاء، ودواء الأطباء مر، ودواء الله حلو، وهو العسل، وهي تأكل من كل الشجر، ولا يخرج منها إلا حلو، ولا يعتريها اختلاف بأكلها، والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه .
[ ص: 322 ] وشاركهم في الأموال [الإسراء: 64]: بكسبهم للربا والحرام، وإنفاقها في المعاصي، وغير ذلك، والأولاد باستيلاد أولاد الزنى، وتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وشبه ذلك.
وعدهم [الإسراء: 64]: من المواعدة الكاذبة من شفاعة الأصنام وغير ذلك.
وكيلا [الإسراء: 65]: قدمنا أن الوكيل هو القائم بالأمور الكافي.
"وصيد" [الكهف: 18]: باب الكهف، وقيل: عتبته.
وليتلطف [الكهف: 19]: أي: في اختفائه، وتخيله؛ لأنهم خافوا على أنفسهم في بعث أحدهم إلى المدينة، وكانت الورق التي أعطوها فضة تزودوها حين خروجهم إلى الكهف، وأخذ من قضيتهم: تزود المسافر أفضل من تركه.
فإن قلت: كيف اتصل بعث أحدهم بتذكر مدة لبثهم؟ فالجواب كأنهم قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم [الكهف: 19] ، ولا سبيل لكم إلى العلم بذلك، فخذوا فيما هو أهم من هذا وأنفع لكم، فابعثوا أحدكم إلى المدينة.
قيل إنها طرسوس.
ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا [الكهف: 25]: في هذه الآية قولان: أحدهما أنه حكاية حال عن أهل الكهف، يدل على ذلك ما في قراءة وقالوا: لبثوا في كهفهم، وهو معطوف على قوله: ابن مسعود: سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم [الكهف: 22] ، فقوله: قل الله أعلم بما لبثوا [الكهف: 26].
رد عليهم في هذا العدد المحكي عنهم.
والقول الثاني أنه من كلام الله تعالى وأنه بيان لما أجمل في قوله: فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا [الكهف: 11] ، ومعنى قوله: قل الله أعلم بما لبثوا [الكهف: 26] ، أي: أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم.
وقد أخبر بمدة لبثهم، فإخباره هو الحق؛ لأنه أعلم من الناس، فكان قوله: قل الله أعلم [ ص: 323 ] احتجاج على صحة ذلك الإخبار، وانتصب: سنين على البدل، أو عطف البيان، أو على التمييز، وذلك على قراءة التنوين في ثلاث مائة.
وقرئ بغير تنوين على الإضافة ووضع الجمع موضع المفرد.
وأحيط بثمره [الكهف: 42]: عبارة عن هلاكه.
وأعز نفرا [الكهف: 34] ، يعني الأنصار والخدم.
ودخل جنته [الكهف: 35]: أفرد الجنة هنا لأنه إنما دخل الجنة الواحدة من الجنتين؛ إذ لا يمكن دخولها معا في دفعة واحدة.
ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا [الكهف: 42]: قال ذلك على وجه التمني لما هلك بستانه، أو على وجه التوبة من الشرك.
وترى الأرض بارزة وحشرناهم [الكهف: 47] ، أي: ظاهرة لزوال الجبال عنها.
وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا [الكهف: 59]: الإشارة إلى عاد وثمود وغيرهم من المتقدمين.
والمراد أهل القرى، وفي ضمن هذا الإخبار تهديد لكفار قريش.
وراءهم [الكهف: 79]: قيل: قدامهم.
وقرأ أمامهم. ابن عباس:
وقال إن وراءهم على بابه، ولكن روعي به الزمان، فالوراء هو المستقبل، والأمام هو الماضي. ابن عطية:
ويسألونك عن ذي القرنين [الكهف: 83]: الإشارة إلى قريش بإشارة اليهود لهم على اختلاف الروايات، وذلك أنهم سألوه عن الروح، وفتية أهل الكهف، وذي القرنين، وقد ذكرنا أن الله مكن له في الأرض ودانت له ملوكها.
وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا [الكهف: 99] .
المعنى أن الناس تموج يوم القيامة كموج البحر.
[ ص: 324 ] وقيل: إن الضمير يعود على يأجوج ومأجوج، والأول أرجح، لقوله بعد ذلك: ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا .
وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا [مريم: 4]: قد قدمنا أن هذا استعارة للشيب، من اشتعال النار، وهذا القول من زكرياء حين ضعف فطلب من الله أن يهب له الولد.
ولم أكن بدعائك رب شقيا [مريم: 4]: أي: قد سعدت بدعائي لك فيما مضى.
فاستجب لي في هذا، فتوسل إلى الله بإحسانه القديم إليه، ولذلك قيل:
إذا أثنى عليك المرء يوما كفى من تعرضه الثناء
قيل: خاف أن يرثه أقاربه دون نسله.
وقيل: خاف أن يضيعوا الدين من بعده، فطلب من الله إقامة دينه، ولهذا قال: واجعله رب رضيا [مريم: 6] ، فاستجاب الله دعاءه وبشره بيحيى الذي لم يجعل له من قبل سميا.
واهجرني مليا [مريم: 46]: عطف "اهجرني" على محذوف تقديره: احذر رجمي لك حينا طويلا.
وقال هذا لإبراهيم لما أيس من اتباعه.
وفدا [مريم: 85]: قد قدمنا أن الوفد هو الراكب، وسر تخصيص المتقين بالوفد لإكرامهم.
وقد صح أنهم يحشرون ركبانا.
وأما الكفار ف: على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم .
وزيرا [طه: 29].
أي: معينا، وإنما طلب موسى أخاه ليشد به أزره، أي: يقويه.
ويؤخذ منه الاستعانة على الأمور بمن هو أقوى، ولذلك قال موسى: وأخي هارون هو أفصح مني لسانا [القصص: 34].
وإن لك موعدا لن تخلفه [طه: 97]: يعني العذاب في الآخرة زيادة على عذاب الدنيا، وكان عذابه في الدنيا كما قال: فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس [طه: 97].
[ ص: 325 ] والصحيح أن الله تاب على السامري وغفر له لسخائه.
ورضي له قولا [طه: 109]: إن أريد بمن أذن له الرحمن المشفوع له فاللام في له بمعنى من أجله، أي: رضي من المنافع من أجل المشفوع فيه.
وإن أراد الشافع فالمعنى رضي قوله في الشفاعة.
ولا يحيطون به علما [طه: 110]: قيل المعنى: لا يحيطون بمعلوماته، كقوله: ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء [البقرة: 255].
والصحيح عندي أن المعنى: لا يحيطون بمعرفة ذاته، إذ لا يعرف الله على الحقيقة إلا الله، ولو أراد المعنى الأول لقال: ولا يحيطون بعلمه، ولذلك استثنى هناك. إلا بما شاء ، ولم يستثن هنا.
ولولا كلمة سبقت من ربك [طه: 129]: الكلمة هنا القضاء السابق بتأخير العذاب عنهم.
لكان لزاما [طه: 129]: أي: واقعا بهم.
ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله [طه: 134].
أي: قبل مبعثك يا محمد لاحتجوا وقالوا: لولا أرسلت إلينا رسولا، فبعثتك لتكون لنا الحجة عليهم ببعثك لهم.
وأسروا النجوى [الأنبياء: 3]: الواو في أسروا ضمير فاعل يعود على ما قبله، و: الذين ظلموا [الأنبياء: 3] ، بدل من الضمير.
ولا يستحسرون [الأنبياء: 19] ، أي: لا يعيون ولا يملون.
والضمير يعود على الملائكة، وكيف يملون وقد أعانهم الله وقواهم على عبادته، فأين عبادتك منهم، وماذا يخطر ببالك من مزاحمتهم.
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [الأنبياء: 28].
أي: لمن ارتضى الله بالشفاعة له ويحتمل أن تكون شفاعة الملائكة للعاصي في الدنيا بالاستغفار له أو في الآخرة.
" وسوس " [طه: 120]: قد قدمنا أنه يقال: لا يقع في النفوس وسواس.
[ ص: 326 ] ولا يقع من عمل الخير إلهام من الله.
ولا يقع من التقدير الذي لا على الإنسان ولا له خاطر.
ومن يقل منهم إني إله من دونه [الأنبياء: 29].
أي: على فرض أن قالوا ذلك، ولكنهم لا يقولونها، وإنما مقصود الآية الرد على المشركين.
وقيل: إن الذي قال: إني إله إبليس.
وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون [الأنبياء: 33]: التنوين في كل عوض من الإضافة، أي: كلهم في فلك يسبحون، يعني الشمس والقمر دون الليل والنهار، إذ لا يوصف الليل والنهار بالسبح في الفلك، فالجملة في موضع الحال من الشمس والقمر، أو مستأنفة.
فإن قيل: لفظ كل ويسبحون جمع، يعني الشمس والقمر وهما اثنان؟ فالجواب: أنه أراد جنس مطلعها كل يوم وليلة.
وهي كثيرة، قاله الزمخشري.
وقال الغزنوي: أراد الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة، وعبر عنها بضمير الجماعة العقلاء في قوله: يسبحون؛ لأنه وصفهم بفعل العقلاء، وهو السبح.
فإن قلت: كيف قال في فلك وهي أفلاك كثيرة؟
والجواب: أنه أراد كل واحد يسبح في فلك، وذلك كقولك: كساهم الأمير حلة، أي: كسى كل واحد منهم حلة.
ومعنى الفلك جسم مستدير.
وقال بعض المفسرين: إنه مذموم؛ وذلك بعيد.
ومعنى يسبحون، أي: يجرون أو يدورون، وهو مستعار من السبح بمعنى العوم في الماء.
وقد قدمنا أن مجاري القمر ثمانية وعشرون؛ لأنه يقطع الفلك في شهر، ومجاري الشمس مائة وثمانون لأنها تقطع الفلك في سنة.
ووجهه أن السنة ثلاثمائة وستون يوما ونصفها مائة وثمانون فهي تقطع في نصف السنة ستة بروج، ثم ترجع صاعدة أو هابطة فتمشي في نظائر تلك البروج.
فما مجاريها في الحقيقة إلا ستة بروج، فسبحان من دبر الأشياء كيف شاء وأتقنها بحكمته، فلا يعلم أحد بحقيقتها إلا من اطلع عليها.
[ ص: 327 ] وكنا لهم حافظين [الأنبياء: 82] ، أي: حفظنا أمر سليمان وما صنع من الفساد.
وقيل: معناه: عالمين بعددهم.
وكذلك ننجي المؤمنين [الأنبياء: 88] ، أي: مطلقا من همومهم، أي: إذا دعوا بدعاء يونس: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .
وقد قدمنا في قصة الحديث: "دعوة أخي ذا النون ما دعا بها مكروب إلا استجيب له، ومن دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات غفر له".
والتي أحصنت فرجها [الأنبياء: 91]: ضمير التأنيث يعود على الصديقة المطهرة، لقولها: " لم يمسسني بشر " ، فأحصنته عن الحلال والحرام، حتى أراد الله فيها ما أراد، وقد قدمنا قصتها.
وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [الأنبياء: 95]: قرئ بكسر الحاء بمعنى حرم.
واختلف في معنى الآية، فقيل: حرام بمعنى ممتنع على قرية أهلكها الله أن يرجعوا إلى الدنيا، ولا زائدة في الوجهين.
وقيل: حرام بمعنى: حتم لا محالة، ويتصور فيه الوجهان، وتكون لا نافية فيهما، أي: حتم عدم رجوعهم إلى الله بالتوبة، أو حتم عدم رجوعهم إلى الدنيا.
وقيل: المعنى ممتنع على قرية أهلكها الله أنهم لا يرجعون إليه في الآخرة "ولا" على هذا نافية أيضا، ففيه رد على من أنكر البعث.
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر [الأنبياء: 105]: فيه قولان: أحدهما أنه كتاب داود، والذكر هنا التوراة التي أنزل الله على موسى، أو ما في الزبور من حكم الله تعالى.
والقول الآخر أن الزبور جنس الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء، وذلك خمسين صحيفة على شيث، وثلاثين لإدريس، وعشرين لإبراهيم، والتوراة لموسى، والزبور لداود، والإنجيل لعيسى، والفرقان لمحمد صلوات الله عليهم أجمعين.
والذكر على هذا اللوح المحفوظ، أي: كتب الله هذا في الكتاب الذي أفرد له بعد ما كتبه في اللوح المحفوظ، حين كتب الأمور كلها.
والأول أرجح؛ لأن إطلاق الزبور على كتاب واحد أظهر وأكثر [ ص: 328 ] استعمالا، ولأن الزبور مفرد فدلالته على الواحد أرجح من دلالته على الجمع، ولأن النص قد ورد في زبور داود بأن الأرض يرثها الصالحون، والأرض على الإطلاق في مشارق الأرض ومغاربها.
وقيل: الأرض المقدسة.
وقيل: أرض الجنة: والأول أظهر.
والعباد الصالحون في الآية أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ففي الآية ثناء عليهم، وإخبار بظهور غيب مصداقه في الوجود؛ إذ فتح الله لهذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها.
وأن الله يهدي من يريد [الحج: 16]: قال أن في موضع خبر الابتداء، والتقدير الأمر أن الله، وهذا ضعيف؛ لأن فيه تكلف إضمار وقطعا للكلام عن المعنى الذي قبله. ابن عطية:
وقال التقدير: أن الله يهدي من يريد أنزلناه كذلك آيات بينات، فجعل أن تعليلا للإنزال، وهذا ضعيف للفصل بينهما بالواو، والصحيح عندي أن قوله: وأن الله معطوف على آيات بينات؛ لأنه مقدر بالمصدر، فالتقدير: أنزلناه آيات بينات، وهذا لمن أراد الله أن يهديه. الزمخشري:
وكثير من الناس [الحج: 18]: إن جعلنا سجود من في السماوات والأرض بمعنى الانقياد للطاعة فيكون " كثير من الناس " معطوفا على ما قبله من الأشياء التي تسجد، ويكون قوله: وكثير حق عليه العذاب ، مستأنفا يراد به الانقياد للطاعة، ويوقف على قوله: وكثير من الناس ، وهذا القول هو الصحيح.
وإن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لقضاء الله وتدبيره فلا يصح تفصيل الناس على ذلك إلى من يسجد وم لا يسجد؛ لأن جميعهم يسجد بذلك المعنى، وقيل: إن قوله: وكثير من الناس معطوف على ما قبله، ثم عطف عليه: "كثير حق عليه العذاب"، فالجميع على هذا يسجد، وهذا ضعيف؛ لأن قوله: حق عليه العذاب يقتضي ظاهرة أنه إنما حق عليه العذاب بتركه السجود.
وتأوله على هذا المعنى بأن إعراب "كثير من [ ص: 329 ] الناس" فاعل بفعل مضمر تقديره: يسجد له كثير من الناس سجود طاعة، أو مرفوعا بالابتداء وخبره محذوف تقديره مثاب، وهذا تكلف بعيد. الزمخشري
وذوقوا [الحج: 22]: التقدير يقال لهم: ذوقوا.
ولؤلؤا [الحج: 23] - بالنصب - مفعول بفعل مضمر، أي: يحلون لؤلؤا أو معطوف على موضع "من أساور"، إذ هو مفعول، وبالخفض معطوف على أساور أو على ذهب.
وأذن في الناس بالحج [الحج: 27]: خطاب لإبراهيم.
وقيل: لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، والأول أصح لوروده في الصحيح أنه لما بنى البيت أمره أن ينادي الناس، فقال: يا رب، وأين يبلغ أذاني، فقال: يا إبراهيم، منك الأذان وعلينا الإبلاع، فصعد على جبل أبي قبيس، ونادى: أيها الناس، إن الله أمركم بحج هذا البيت، فحجوا، فسمعه كل من يحج إلى يوم القيامة، وهم في أصلاب آبائهم، وأجاب في ذلك الوقت كل شيء من جماد أو غيره، لبيك اللهم لبيك، فجرت التلبية على ذلك.
وقيل: من لبى مرة حج مرة، ومن لبى غير ذلك حج على عدد التلبية.
وجبت جنوبها [الحج: 36] ، أي: سقطت إلى الأرض عند موتها.
يقال: وجب الحائط وغيره إذا سقط.
وقد قدمنا أن هذه اللفظة تطلق على معان كثيرة.
وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه [الحج: 73].
بين الله في هذه الآية عجز الأصنام بحيث لو اختطف الذباب منهم شيئا لم يقدروا على استنقاذه حال ضعفه.
وقد صح أنهم كانوا يجعلون على أصنامهم الطيب وغيره من ألوان الأطعمة، فيأتي الذباب فيخطفه، ولا يقدرون على خلاصه منه، وهو أقل الخلق.
وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله في تجهيل قريش وركاكة عقولهم، [ ص: 330 ] وكيف لا وقد وصفوا آلهتهم بالقدرة والعلم، ولا يقدرون على هذا الخلق الضعيف، ولا ينتبهون لعمايتهم وضلالهم، فهم أضل من البهائم، ولذا ورد الحديث: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليلقه؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء".
فإن قلت: كيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة، وكيف تعلم ذلك في نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء، وما حملها على ذلك؟
والجواب: أن هذا غير منكر، لأنا نجد في أنفسنا وفي أنفس عامة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت، ثم إن الله تعالى قد ألف بينها وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان التي فيها بقاؤها وصلاحها لجدير ألا يذكر اجتماع الداء والشفاء في جزأين من حيوان واحد، وإن الذي ألهم النحلة لاتخاذ البيت العجيب الصنعة، وألهم الذرة أن تدخر قوتها، وتدخره لأوان حاجتها إليه هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تؤخر جناحا وتقدم جناحا لما أراد من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد، والامتحان الذي هو مضمار التكليف، وله في كل شيء حكمة وعنوان، وما يتذكر إلا أولو الألباب.
وقد تأملت الذباب فوجدته يتقي بجناحه الأيسر، وهو مناسب للداء، كما أن الأيمن موافق للدواء، واستفيد من الحديث أنه إذا وقع في المائع أنه يموت فيه ولا يتنجس، وفي ذلك يخرج أن ما يعم وقوعه كالذباب والبعوض لا ينجس، وما لا يعم كالخنافس والعقارب تنجس، وهو متجه لا محيد عنه.
وحرم ذلك على المؤمنين [النور: 3] ، أي: حرم الزنى.
وقيل: حرم تزوج الزانية لغير الزاني، فإن قوما منعوا أن يتزوجها أحد، وهذا على القول الثاني في الآية قبلها، وهو بعيد لجواز تزوج الزانية.
وروي كراهة تزوجها.
وأنكحوا الأيامى منكم [النور: 32]: معناه الذين لا أزواج لهم رجالا كانوا أو نساء أبكارا أو ثيبا.
والخطاب هنا للأولياء والحكام، أمرهم الله بتزويج [ ص: 331 ] الأيامى، فاقتضى ذلك النهي عن عضلهن من التزويج.
وفي الآية دليل على عدم استقلال النساء بالنكاح، واشتراط الولاية فيه، وهو مذهب الشافعي خلافا ومالك لأبي حنيفة.
والصالحين من عبادكم وإمائكم [النور: 32]: يعني الذين يصلحون للتزويج من ذكور العبيد وإناثهم، والمخاطبون هنا ساداتهم.
ومذهب أن السيد يجبر على تزويج عبيده لهذه الآية خلافا الشافعي لمالك.
ومذهب أن السيد يجبر أمته وعبده على النكاح خلافا مالك للشافعي.
وأعانه عليه قوم آخرون [الفرقان: 4].
هذا من قول الكفار، ويعنون قوما من العبيد منهم عداس ويسار وأبو فكيهة الرومي.
وعدا مسؤولا [الفرقان: 16].
أي: سأله المؤمنون أو الملائكة في قولهم: وأدخلهم جنات عدن .
وقيل: معنى وعدا واجب الوقوع؛ لأنه قد حتمه.
ولكن متعتهم وآباءهم [الفرقان: 18]: معناه متعتهم بالنعم في الدنيا.
وكان سبب نسيانهم لذكر الله وعبادته.
ويوم يعض الظالم على يديه [الفرقان: 27]: المراد بالظالم هنا عقبة بن أبي معيط؛ لأنه جنح إلى الإسلام، فنهاه أبي بن خلف.
والآية تعم كل ظالم سواء كان كافرا أو مؤمنا ظالما؛ إذ كل عاص يعض على أنامله من الندم، وإذا كان المطيع يتحسر على ما فاته من زيادة الطاعة، فما بالك بالعاصي.
وكان الشيطان للإنسان خذولا [الفرقان: 29]: يحتمل أن يكون هذا من قول الظالم، أو ابتداء إخبار، من قول الله تعالى.
ويحتمل أن يكون الشيطان إبليس، أو الخليل المذكور.
وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [الفرقان: 30]: يحتمل أن يكون قال هذا في الدنيا أو في الآخرة أو مجموعهما.
[ ص: 332 ] وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين [الفرقان: 31]: العدو هنا جمع، والمراد تسلية النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتأسي بغيره من الأنبياء.
وقرونا بين ذلك كثيرا [الفرقان: 38]: يقتضي التكثير والإبهام، والإشارة بذلك إلى أصحاب الرس وثمود وغيرهم.
وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا [الفرقان: 53]: قد قدمنا في حرف الباء والحاء أن معناه الحاجز، وضمير التثنية يعود على البحرين، لا يختلط أحدهما بالآخر، وأغرب منه وجود اللبن من بين فرث ودم، ووجود الشهد والسم في النحل، فالسم سبب هلاك الأحياء، والشهد سبب شفاء المرضى، وجعل بينهما حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر، وكذلك جعل في المؤمن النفس والقلب، فالنفس تميل إلى الدنيا، والقلب يميل إلى العقبى، فأعطى له الدين مع الدنيا، وجعل بينهما حاجزا، فلا تضر الدنيا مع الدين بفضله وكرمه.
وتوكل على الحي الذي لا يموت [الفرقان: 58].
لأن ما سواه يموت، والاعتزاز بمن يموت لا يبقى، فكيف يعتز مخلوق بعد هذه الآية بمخلوق مثله، أف لقالب بلا قلب! لقد عميت بصيرتنا، وأظلمت سريرتنا فظهرنا بالصلاح والتوكل للمخلوقين، وقلبنا خلي عن رب العالمين.
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [الشعراء: 227]: هذا وعيد لمن ظلم أحدا من خلق الله.
وعمل ينقلبون في أي.
وقيل: إن العامل في أي سيعلم.
وسبحان الله رب العالمين [النمل: 8]: نزه الله نفسه مما عسى يكون ببال السامع في معنى النداء، وفي قوله: بورك من في النار [النمل: 8].
إذ قال بعض الناس فيه ما يجب تنزيه الله عنه.
وأوتينا من كل شيء [النمل: 16]: عموم معناه الخصوص.
وقد قدمنا أن المراد بقول سليمان هذا التكثير، كقولك: فلان يقصده كل أحد.
ويحتمل أن يريد نفسه وأباه، أو نفسه خاصة على وجه التعظيم؛ لأنه كان ملكا.
[ ص: 333 ] وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس [النمل: 17] الآية.
اعتبر بما أعطى الله سليمان من الجند، واختلف في عسكره اختلافا كثيرا، فقيل: كان مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن فسطاطا من ذهب وإبريسم فرسخ في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه، وهو من ذهب، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الإنس والجن على الكراسي وحولهم الناس، وتظلهم الطير بأجنحتها، وترفع ريح الصبا البساط، فتسير مسيرة شهر.
ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ويأمر الرخاء تسيره، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إني قد زدت في ملكك، لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك.
فيحكى أنه مر بحراث، فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما، فألقى الريح في أذنه، فنزل ومشى إلى الحراث، وقال: إنما مشيت إليك لكيلا تتمنى ما لا تقدر عليه! ثم قال: لتسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتي آل داود.
وروي أنه سمع قول النملة من ثلاثة فراسخ، وكان يفهم كلام الطيور ومعانيها وأغراضها، وهذا نحو ما كان نبينا ومولانا محمد -صلى الله عليه وسلم- يسمع أصوات الحجارة بالسلام.
ويحكى أن سليمان مر على طائر في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول، قالوا: الله ونبيه أعلم.
قال: يقول: أكلت نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء.
فإن قلت: الظاهر من قول نبينا ومولانا محمد -صلى الله عليه وسلم- في خبر سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي [ص: 35] ، فأرسلته، أنه لم يبلغ هذا الملك؟ فالجواب أن لفظة ينبغي إنما هي لفظة محتملة ليست بقطع في أنه لا يعطي الله عز وجل نحو ذلك الملك لأحد، ونبينا ومولانا العفريت الذي عرض له في صلاته فأخذه وأراد أن يوثقه في سارية من سواري المسجد، فقال: [ ص: 334 ] ذكرت قول أخي محمد -صلى الله عليه وسلم- لو ربط الجني لم يكن ذلك نقصا لما أوتيه سليمان عليه السلام، لكن لما كان فيه بعض الشبهة تركه جريا منه -صلى الله عليه وسلم- على اختياره أبدا أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع، ألا ترى لما عرض عليه أن يكون نبيئا عبدا أو نبيئا ملكا فاختار العبودية، وقال: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، فعوضه الله بتواضعه الشفاعة العظمى، والوسيلة التي لا ينالها غيره.
وهذا مع ما كان عليه من تسخير الكونين والثقلين.
وقد ألف بعض العلماء في موازاة معجزاته عليه السلام لمعجزات الأنبياء على جميعهم السلام تأليفا عجيبا، وكذلك نظم بعضهم قصيدة في معجزاته عليه السلام موازيا لمعجزاتهم.
فإن قلت: كيف يتعرض الشيطان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد إفساد صلاته، ويفر من لقاء كما قال -صلى الله عليه وسلم-: عمر، فجا لسلك الشيطان فجا غير فج عمر عمر"؟ "لو سلك
والجواب: أنه ليس بمنكر أن يتعرض العفريت له إظهارا لمعجزته وغلبته له.
وأيضا فأين يفر منه -صلى الله عليه وسلم- وهو مالك الأرض كلها، بل والآخرة بأسرها، فإلى أين يفر من ملاقاته، لا يملك إلا الفج الذي هو فيه، فكان يفر منه لغير ملكه، ولقد علم اللعين - أنه لو ظفر به لقتله لشدة وعمر وغلظته في الله ونصرة دينه، ونبينا ومولانا عمر محمد -صلى الله عليه وسلم- في غاية الشفقة والرحمة على من يؤذيه.
وقد حكى ولي الله أبو محمد المهدوي أن أبا مدين قال لتلامذته يوما: أيما أفضل أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أو أمة سليمان، فأجيب بأن الفضل بينهما معروف.
فقال لهم: ما بال آصف أوتي علما من الكتاب تمكن به من الإتيان بعرش بلقيس، وأنت يا محمدي أوتيت علم الكتاب، ولم تتمكن من الإتيان برغيف، قال: [ ص: 335 ] فلم يذكر أحد جوابا عن هذا.
قال: فألقي علي في النوم، فرأيت قائلا يقول لي: لو خص أحد بسر الخفاء، لعد في حق غيره خفاء، وأمة محمد من أهل الصفاء والاصطفاء، وحين استيقظت لاح لي سر ما رأيته، وعلمت أن آصف خص بمزية عن كل أمة سليمان عليه السلام لرفعة مرتبته، وليس لتلك الأمة من العناية ما لهذه الأمة، فلو عم ما هم محتاجون إليه لبطلت حكمة الله في طلب الجد والسعي الذي عليه يثابون، فلو خص واحد من هذه الأمة بدرجة قالوا: إن من سواه منحط عن حصول الاعتناء به في تناول معاشه دون سبب لهم.
بهذا الاعتبار قد تساووا في الكسب، لا فضل لواحد منهم عن صاحبه في تطلبه، فهم متحدون في الاقتداء، فما شرفوا إلا من أجله صلوات الله وسلامه عليه.
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم [النحل: 61].
أي: بظلمهم أنفسهم، أو بظلم بعضهم بعضا، فهو للفاعل والمفعول؛ لأن الناس عام في الظالم والمظلوم.
وإنما أضاف الظلم إليهم لأجل الكسب الذي لهم فيه، ألا ترى أنك تقول: عبد فلان، وثوب فلان، وليس لهم فيه إلا المنافع.
وأما الأعيان فما يملكها إلا الله.
وذكر هنا آثارا عن الزمخشري أبي هريرة تقتضي عموم الهلاك في بني آدم وغيرهم بسبب شؤم ظلم الإنسان، وكذا نقل وابن عباس أن الطير والحوت يهلكان بسبب ظلم الإنسان، وهذا مما لا يتم الاستدلال به إلا مع ضميمة ما قاله الأصوليون في أن ابن عطية لأنه حينئذ لم يكن قاله من عنده، بل يكون سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم. قول الصحابي إذا كان دليله مخالفا للقياس فإنه يكون حجة؛
وأما إن وافق القياس فهو مذهب صحابي، فلا يحتج به.
وهذا مخالف للقياس.
قال تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " [الأنعام: 164، الإسراء 15، فاطر: 18، الزمر: 7].
وأجاب بأن هلاك من لم يظلم إنما هو لكونه لم يغير على الظالم. ابن عطية
ويعضده ما تقدم في قوله تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء [الأعراف: 165] ، وفي قوله: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه [المائدة: 79].
[ ص: 336 ] وأجاب بعضهم أن هلاك الظالم بظلمه وهلاك من لم يظلم إنما هو ابتلاء له ليصبر، فيعظم بذلك أجره ومثوبته، فهو رحمة به بهذا الاعتبار.
قال الفخر: واستدل بعضهم بالآية على عدم واستدل بها من جوز الردة على جميع الخلق لنسبة الظلم فيها لجميع الناس. عصمة الأنبياء،
ورد بأن العموم في الآية إنما هو بالمؤاخذة، وأما الظلم فإنما ذكر على سبيل الفرض والتقدير، أي: لو فرض وقوع الظلم من الجميع وأوخذوا به لم يبق أحد، ولا يلزم من فرض الشيء وقوعه، كما قال: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [الأنبياء: 22].
فإن قلت: يفهم من قوله تعالى: لا يستأخرون ساعة [النحل: 61].
نفي تأخرهم عن أجلهم؛ لأنه كان متوهما، وأما تقدمهم على أجلهم إذا حضر بمستحيل؛ إذ الماضي لا يعود، فلم احتيج إلى نفيه، وجعل جوابا للشرط؟
والجواب أنه على معنى التأكيد لذلك، وإشارة إلى تسوية الأمر الضروري بالمشكوك فيه؛ لأن استحالة تقدمهم عن أجلهم إذا حضر أمر ضروري.
وتأخرهم عنه مشكوك فيه، ألا ترى من حل عليه دين مؤجل يمكن أن يؤخره ربه عنه، ولا يمكن أن يقدمه هو عن أجله بعد حلوله بوجه، فكأنه يقول: كما يستحيل تقدمهم عن أجلهم إذا حل كذلك يستحيل تأخرهم عنه؛ لأن ما علمه الله وقدره لا بد من وقوعه.
وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي [النمل: 19]: هذا من قول سليمان لما أنعم الله تعالى عليه بالملك، وعلم أنه رخاء لا ينفعه عند الله إلا بإلهامه الشكر.
وحقيقة: أوزعني اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأكفه وأربطه، لا ينفلت عني، حتى لا أنفك شاكرا لك.
وأدخل والديه في الدعاء؛ لأن النعمة عليهما للولد منها نصيب بالوراثة، فيجب شكر الوالد على ذلك؛ لأن موجب [ ص: 337 ] الشكر مشترك بين الولد والوالدين، ومن رؤية النعمة عند سليمان أنه أمر أن يعمل حول كرسيه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح يصرخون بالشكر دائما ويقول لجنده إذا ركب: سبحوا الله إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه قال: هللوا إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه قال: كبروا إلى ذلك العلم الآخر، فلج الجنود بالتسبيح والتهليل والتكبير لجة واحدة، شكرا لما أعطاه الله، فاستعملوه من أجله.
وقد صح أن الله يحتج على الأغنياء يوم القيامة بسليمان؛ لأنه لم يشغله ما أعطاه الله عن القيام بحقه، وعلى العبيد بيوسف، وعلى المرضى بأيوب، لما هلك جميع ما ملك دخل بيته وألقى ثيابه، وقال: هكذا خرجت إلى الدنيا، وعلى الفقراء بعيسى، كان له إناء يشرب فيه، ومشط يمتشط به، فألقاهما وصار يتخلل بأصابعه، ويشرب في يديه، فقال له قومه: ألا تتخذ لك حمارا تركب عليه إذا أعياك المشي، فقال: أنا أكرم على الله من أن يجعلني خادم حمار.
وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد [النمل: 20] - بضم الهاءين وإسكان الدال بينهما: طائر معروف ذو خطوط وألوان.
قال وهو وفاء حفوظ، وذلك أنه إذا غابت أنثاه لم يأكل ولم يشرب ولم يشتغل بطلب طعم، ولا يقطع الصياح حتى تعود إليه، فإن حدث حدث أعدمه إياها لم يسفد بعدها أنثى أبدا، ولم يزل صائحا عليها ما عاش، ولم يشبع بعدها من طعم، بل ينال منه ما يمسك رمقه إلى أن يشرف على الموت، فعند ذلك ينال منه يسيرا. الجاحظ:
فإن قلت: قد طلب سليمان الشكر من الله تعالى على هذا الملك، وإنه لم يكن في باله ولا له به تعلق، فما باله تفقد الهدهد حين كان يظله وتوعده بالعذاب الشديد أو بالذبح، وهذا الفعل يقتضي العناية بالمملكة والتهمم بكل جزء منها؟
والجواب ما في الكامل وشعب الإيمان أن للبيهقي: نافعا سأل ابن عباس.
فقال: سليمان عليه السلام، مع ما خوله الله من الملك وأعطاه، كيف عني بالهدهد مع صغره، فقال له إنه احتاج إلى الماء، والهدهد كانت له الأرض كالزجاج. ابن عباس:
فقال ابن الأزرق لابن نافع: قف يا وقاف، كيف يبصر الماء من تحت الأرض، ولا يرى الفخ إذا غطي له بقدر أصبع من تراب، [ ص: 338 ] فقال إذا نزل القدر عمي البصر. ابن عباس:
قال وكان السبب في تخلفه عن الزمخشري: سليمان عليه السلام أنه حين نزل سليمان عليه السلام حلق الهدهد، فرأى هدهدا واقعا، فوصف له ملك سليمان وما سخر له، وذكر له ملك بلقيس، وأن تحت يدها اثني عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف، فذهب له لينظر فما رجع إلا بعد العصر، فدعا سليمان عريف الطير وهو النسر، فلم يجد عنده علمه، ثم قال لسيد الطير - وهو العقاب: علي به، فارتفع ونظر فإذا هو مقبل، فقصده، فناشده وقال له: بالذي قواك علي وأقدرك إلا رحمتني، فتركه، وقال: ثكلتك أمك، إن نبي الله حلف ليعذبنك.
قال: وما استثنى، قال: بلى.
قال: أو ليأتيني بسلطان مبين.
فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ رأسه فمده إليه، فقال: يا نبي الله، اذكر وقوفك بين يدي الله خاضعا ذليلا.
فارتعد سليمان وعفا عنه، ثم كان تعذيبه لمن خاف أمره من الطير أن ينتف ريشه ويشمسه.
وقيل: يلقيه للنمل يأكله.
وقيل: إيداعه القفص.
وقال الهدهد: يا نبي الله، كنت تعذبني العذاب الشديد، قال: أفارقك من إلفك وأجعلك تعاشر الأضداد.
فإن قلت: لم أبيح له تعذيب الهدهد؟ قلت: يجوز أن يبيح الله له ذلك كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من النافع.
قال إنما صرف عكرمة: سليمان عن ذبح الهدهد للخبر الذي أتى به من أمر بلقيس.
وقيل: لأنه كان بارا بأبويه ينقل الطعام إليهما فيزقهما.
وحكى القزويني أن الهدهد قال لسليمان: أريد أن تكون في ضيافتي.
فقال: أنا وحدي، قال: لا، أنت وعسكرك في جزيرة كذا في يوم كذا، فحضر [ ص: 339 ] سليمان وجنوده، وطار الهدهد، فاصطاد جرادة وخنقها ورمى بها في البحر، وقال: يا نبي الله، من فاته اللحم ناله المرق، فضحك سليمان من ذلك عاما كاملا.
وجدت امرأة تملكهم [النمل: 23]: هي بلقيس بنت شراحيل كان أبوها ملك اليمن، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت بعده على الملك.
والضمير يعود على قومها.
ولها عرش عظيم [النمل: 23]: يعني سرير ملكها، ووقف بعضهم على "عرش"، تم ابتدأ: عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس.
وهذا خطأ وغير منكر عليه وصف العرش بالعظمة.
وأتوني مسلمين [النمل: 31] ، يحتمل أن يكون من الانقياد، بمعنى مستسلمين، أو يكون من الدخول في الإسلام.
وكذلك يفعلون [النمل: 34]: من كلام الله تعالى، تصديقا لقول بلقيس: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، أو هو من قولها تأكيدا للمعنى الذي أرادته، أو يعني كذلك يفعل هؤلاء بنا.
فإن قلت: كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ فالجواب: أنه استعظم عرشها بالنظر إلى حالها وأمثالها، وأنه وصفه بالعظم إغراء له عليها، ووصفه له بأنه ثمانين ذراعا في ثمانين، وأنه مكلل بأنواع الجواهر وأن قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودر وزمرد، وغرابة ما فيه من البناء، وفي ذلك تقوية لعذره عن غيبته، ورفع للعقاب عنه، ولعظمه عندهم أراد سليمان أن يريهم قدرة الله، وبعض ما خصه به من العجائب على يده، ويشهد بنبوءته.
وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض [النمل: 48]: يعني الفساد العام في كل ما فيه مضرة لأبناء جنسهم.
وقيل: كانوا يقرضون الدنانير والدراهم.
والمراد بالمدينة مدينة ثمود، فانظر رحمة الله بعباده حيث لا يريد [ ص: 340 ] مضرة أحد منهم، وبعث الله إليهم صالحا ينهاهم عن الفساد، فجرى لهم ما قدمناه.
ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله [النمل: 87]: قد قدمنا أن إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع وهو في الحياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر.
ونفخة الصعق.
ونفخة القيام من القبور.
وانظر كيف عبر هنا ب: ينفخ و: " فزع " ، وهو أمر لم يقع بعد إشعارا بصحة وقوعه.
وخصت هذه السورة بالفزع موافقة لقوله تعالى: وهم من فزع يومئذ آمنون [النمل: 89].
وخصت سورة الزمر بالصعق موافقة لما قبله؛ لأن معناه: مات وقد تقدم قوله: إنك ميت وإنهم ميتون .
" وهم لا يشعرون " [القصص: 9، 11] ، أي: قوم فرعون لا يشعرون بأن إهلاكهم يكون على يد موسى، أو لا يشعرون أن الذي دلت على إرضاعه أخته.
" وكزه " [القصص: 15] ، أي: ضربه بأطراف الأصابع، وقيل: بجمع الكف فقتله، ولم يرد أن يقتله، لكن وافقت وكزته الأجل.
فإن قلت: لم يعمل عملا يوجب له الاستغفار منه؛ لأن المقتول كافر؟ فالجواب: أن الله لم يأذن له في قتله، ألا تراه يقول يوم القيامة: قتلت نفسا لم آذن بقتلها.
ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون [القصص: 51]: الضمير لقريش.
وقيل: لليهود.
والأول أظهر؛ لأن الكلام من أوله معهم.
والعموم أحسن لهم ولغيرهم ممن يأتي بعدهم، يعني بلغنا لهم القرآن، وبينا لهم الحلال والحرام، ووعظناهم بحكاية من تقدم من الأمم، لعلهم يتذكرون.
وهذا مثل قوله: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [الذاريات: 55].
فكيف يكون للعاصي حجة مع هذه المواعظ والحر من العبيد تكفيه الملامة.
[ ص: 341 ] وأكثر جمعا [القصص: 78]: معطوف على الهلاك.
يعني من يرى إهلاك من كان أشد منه قوة وأكثر جمعا للمال كيف يغتر بالدنيا وهذا حالها! نشاهد إهلاك قوم بعد قوم، ولا نرعوي عن قبيح، "ولا نزدجر من رذيلة".
ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [القصص: 78]: يحتمل أن يكون متصلا بما قبله، والضمير في ذنوبهم يعود على الأمم المتقدمة، والمجرمون من بعدهم، أي: لا يسأل المجرمون عن ذنوب من تقدمهم من الأمم الهالكة؛ لأن كل أحد إنما يسأل عن ذنوبه خاصة.
ويحتمل أن يكون إخبارا عن حال المجرمين في الآخرة، وأنهم لا يسألون فيها عن ذنوبهم؛ لأنهم يدخلون النار من غير حساب.
ورد بقوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين [الحجر: 92].
وأجاب بعضهم عن هذا بأن السؤال المنفي على وجه الاستخبار وطلب التعريف؛ لأنه لا يحتاج إلى سؤالهم على هذا الوجه، ولكن يسألون على وجه التوبيخ، وحيثما ورد في القرآن إثبات القول في الآخرة فهو على معنى المحاسبة والتوبيخ، وحيثما ورد نفيه فهو على وجه الاستخبار والتعريف، ومنه قوله: فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [الرحمن: 39].
وادع إلى ربك [القصص: 87]: يحتمل أن يكون من الدعاء بمعنى الرغبة، أو من دعوة الناس إلى الإيمان بالله، فالمفعول محذوف على هذا، تقديره: ادع الناس.
فانظر كيف أمر الله رسوله بدعاء الناس إليه، وخصص الهداية لإجابته، فالدعوة عامة، والهدى خاص.
وقد دعا الله عباده في الدنيا بقوله: والله يدعو إلى دار السلام [يونس: 25].
يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم [إبراهيم: 10].
وفي الآخرة بقوله: يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده [الإسراء: 52].
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم [الإسراء: 71].
فما هذا التقاعس بعد هذا الدعاء إلا من العمى، وأعظم من العمى.
وأعظم من المخالفة والاستجابة غفلتنا عن الاستغفار، والضحك والاغترار [ ص: 342 ] والتهاون والاستكبار، قال تعالى: وكنتم منهم تضحكون [المؤمنون: 110].
وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم [النور: 15].
وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور [الحديد: 14].
وقد أخبر الله عن نوح أنه قال: وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [نوح: 7] .
وهذه كلها موجودة فينا، وما خفي عن الخلق أكثر، اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا.
وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها [القصص: 60]: هذا الضمير لكفار قريش؛ لأنهم كانوا يفخرون بالأموال والأولاد على الضعفاء من المؤمنين، ويسخرون منهم لقلة ما أعطوا من الدنيا، فأخبرهم الله أن ما أعطوا منها إنما هو متاع قليل وزينة وتفاخر يشغل بها كالصبي تعطيه أمه خشاشة تشغله عنها، ولو علم الله فيهم خيرا لتنبهوا لمآلها، لكن الله طمس بصائرهم، وأكبوا عليها، وليس العجب منهم، وإنما العجب منكم، حض الله رسوله على الفرار منها، والإعراض عنها، فلم تزيدوا إلا طغيانا وكفرا، ولو لم يقع الحض على الفرار منها لكان الواجب عدم الالتفات إليها لما نرى من سرعة تقلبها، يقول الله تعالى في بعض الكتب المنزلة: "طلبت من خلقي الطاعة لي، والزهادة في أعدائي، فلم يفعلوا، ثم طلبت منهم إعانة الزهاد من أهل طاعتي فلم يفعلوا، فقلت لهم: ارضوا عنهم فلم يفعلوا، فقلت لهم: لا تمنعوهم منها إذا، فمنعوهم.
فقلت لهم: لا تدعوهم إلى ما لا يرضيني، ولا تعادوهم عليها، إن لم يتابعوكم، ففعلوا وصاروا عندهم أنتن من جيفة حمار، فكيف أقدس أمة هذه أفعالهم!" اللهم اعف عنا بفضلك.
فإن قلت: ما وجه زيادة الزينة في هذه الآية على آية الشورى [36]؟
والجواب لتقدم ذكرها في قوله تعالى: فخرج على قومه في زينته [القصص: 79] ، فالتحمت الآية بتلك القصة، ولم يرد في سورة الشورى من [ ص: 343 ] أولها إلى آخرها ذكر حال دنيوي لأحد، بل تضمنت حقارة الدنيا ونزارة رزقها، وأنه مقدور غير مبسوط، وتلك حال الأكثر.
وقيل: في الجواب غير هذا حذفناه لطوله.
ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون [القصص: 62]: قد قدمنا أن هذا النداء من الله تعالى قديم متعلق بالذات القديمة، وإنما يسمعهم الله ذلك الخطاب من غير واسطة مبالغة في توبيخهم وتعذيبهم، ولذلك أدخل فيه همزة الاستفهام ونسب الشركاء تعالى إلى نفسه على زعمهم.
والمجيبون بقولهم: قال الذين حق عليهم القول [القصص: 63] ، هو كل مقول داع إلى الكفر من الجن والإنس، والنداء إنما وقع للتابعين والمتبوعين، لكن لما كان السؤال مسكتا لهم مبهتا فكأنه لا تعلق لجمهور الكفرة إلا بالمغوين لهم والرؤوس والأعيان منهم، فلذلك سارعوا إلى الجواب طمعا في التبري من متبعيهم، وفي هذا الموطن صدر منهم الإقرار بربوبيته تعالى؛ إذ هو موطن ظهور الحق وانكشافه.
فإن قلت: قد قلتم: إن دعاء الشركاء على جهة التعجيز، والمشركون يعلمون أن الشركاء لا يجيبون؛ لأن الموطن ظهور الحق وانكشاف الأمور فلم دعوا شركاءهم؟
والجواب: ليظهر عجزهم عن إجابة الدعوة على رؤوس الأشهاد، وتقوم عليهم بذلك الحجة، فسبحانه ما أعظمه من لطيف يحب المعاذير وإظهار الحق، ينطق الجمادات والجوارح على المخلوقات حتى لا يجد الإنسان فرارا من قضائه وقيام الحجة عليه.
فإن قلت: كيف الجمع بين قولهم: أغويناهم [القصص: 63] ، وبين قولهم: تبرأنا إليك [القصص: 63] ، فإنهم اعترفوا بإغوائهم وتبرأوا مع ذلك منهم؟
والجواب أن إغواءهم لهم هو أمرهم لهم بالشرك.
والمعنى: أنا حملناهم على [ ص: 344 ] الشرك كما حملنا أنفسنا عليه، ولكن لم يكونوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون الأصنام وغيرها، فتبرأنا إليك من عبادتهم لنا، فتحصل من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم أغووا الضعفاء وتبرءوا من أن يكونوا هم آلهتهم، فلا تناقض في الكلام.
ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما [العنكبوت: 8].
اختلف في سبب نزول هذه الآية على أقوال، والظاهر منها عمومها فيمن كان بمكة من المؤمنين يشقى بجهاد أبويه في شأن الإسلام أو الهجرة، فكان القصد بهذه الآية النهي عن طاعة الأبوين في مثل هذا لعظم الأمر، وكثرة الخطر فيه، مع الله تعالى، ثم إنه لما كان بر الوالدين وطاعتهما من الأمر الذي قررته الشريعة، وأكدت فيه، وكان من القوي عندهم الملتزم قدم الله تعالى النهي عن طاعتهما في قوله تعالى: ووصينا على معنى أنا لا نخل ببر الوالدين، لكنا لا نسلط على طاعة الله تعالى، لا سيما في معنى الإيمان والكفر.
و: حسنا : يحتمل أن ينتصب على المفعول، وفي ذلك تجوز، ويسهله كونه عاما لمعان، كما تقول: وصيتك خيرا، وصيتك شرا، عبر بذلك عن جملة ما قلت له، ويحسن ذلك "دون حرف الجر في قوله: بوالديه؛ لأن المعنى: ووصينا الإنسان بالحسنى في فعله مع والديه.
والجمهور على ضم الحاء وسكون السين.
وقرئ "إحسانا"، ويحتمل أن يكون مصدرا من معنى وصينا، أي: وصينا وصية حسنة، وعبر عن أمر الوالدين بالجهاد مبالغة، فمن أمره أحد أبويه بفعل شيء فيه رضا الله، فيقدم أمرهما إذا لم يخل بشيء من طاعة الله، فإن أخل فأمر الله مقدم؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وإنما قال في هذه السورة: لتشرك [العنكبوت: 8]؛ لأنه وافق ما قبله لفظا، وهو قوله: ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه [العنكبوت: 6].
وفي لقمان [15] محمول على المعنى؛ لأن التقدير وإن حملاك على أن تشرك.
وقيل: إن هذه الآية مبنية على الإيجاز، فناسب ذلك الاكتفاء باللام، وآية [ ص: 345 ] لقمان مبنية على الإطالة، فناسب ذلك التعدية بعلى، وإنما أمره بالرفق في آية لقمان بقوله: وصاحبهما في الدنيا معروفا [لقمان: 15]؛ لأن مبنى الآية على الأمر بما يفعل بهما ومعهما من غير تقدم مطلب لهما، ووجه ختم هذه الآية بالرجوع إلى الله تحذير من طاعتهما في الشرك، وإبلاغ في النهي عن الصغو إليهما في ذلك إلى الغاية لئلا يظن أن ذلك كآية الإكراه كما تقدم، ولما لم يقع في آية الأحقاف [17] ذكر الشرك وكانت فيمن كان على الإيمان، وقد علم المؤمن رجوعه إلى ربه، لم يرد فيها ذكر ذلك.
وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون [العنكبوت: 47].
أي الجاحدون من كل أمة قد أمن سلفها في القديم والحادث، وأسند الجحد في هذه إلى الكافرين وفيما بعدها إلى الظالمين، فقيل: ليعم لفظهما كل مكذب بمحمد عليه الصلاة والسلام، ولكن عظم الإشارة بهما إلى كفار قريش، لأنهم الأهم.
فإن قلت: الظلم يصح إطلاقه على ما دون الكفر فلو ورد وسمهم أولا بالظلم، ثم ثانيا بالكفر لكان أنسب؟
والجواب: أن الظلم وإن كان يطلق على الكفر وعلى ما دونه، قال تعالى: والكافرون هم الظالمون [البقرة: 254] ، فإنه إذا ذكر بعد الكفر وصف به من وصف بالكفر لفهم زيادة تترتب على الكفر، قال تعالى: إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم [النساء: 168].
وعلى هذا ورد في القرآن، فقد وضح ما وردت عليه هاتان الآيتان، وليس من المشكل في شيء.
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض [العنكبوت: 61].
الضمير في الموضعين لأهل مكة والسؤال لإقامة الحجة على الكفار؛ لأنهم أقروا بأنه سبحانه هو الخالق لهذه المخلوقات العظيمة كما قدمناه في غير ما موضع، ولذلك أنكر الله عليهم جحد عبادته بقوله: فأنى يؤفكون [العنكبوت: 61].
أي: يصرفون عن توحيده ومعرفته.
ووجه تعقيب هذه الآية بالإفك، والثانية بعدها [ ص: 346 ] بعدم العقل، وآية لقمان [15] بكثرة الجهل وقلة العلم؛ لأن المراد منها الاستدلال بهذا الخلق العظيم وما هو عليه من جليل التناسب، وإتقان الصنعة وإحكامها من غير تفاوت ولا فطور.
والذين جاهدوا فينا [العنكبوت: 69].
يعني جهاد الأنفس في الصبر على إذاية الكفار، واحتمال الخروج عن الأوطان، وغير ذلك.
وقيل: يعني القتال، وذلك ضعيف؛ لأن القتال لم يكن مأمورا به حين نزول الآية.
وإن الله لمع المحسنين [العنكبوت: 69].
أي: بنصره ومعونته، وانظر كيف أكده بأن واللام ليعلمك أنه سبحانه لا يسلمه لمن أراده بسوء، وكيف لا وقد أكرمه الله بالمحبة بقوله: إن الله يحب المحسنين، والأمن: ما على المحسنين من سبيل [التوبة: 91] ، وهو محسن.
والرحمة: إن رحمت الله قريب من المحسنين [الأعراف: 56].
فإن قلت: ما معنى الإحسان؟ فالجواب أن هذا المقام لم يحصل إلا لأرباب العقول.
وفي الحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء".
والإحسان ثالث المقامات.
وقد فسره -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
فيا ليت شعري، هل بقي منهم في هذا الربع أنيس به أو ملجأ يسند إليه! ما أرى النفوس إلا قد ماتت بحب الدنيا، ويا ليتنا نلناها، والقلب مات من حب المولى، فمتى يحيا أهل الإحسان أحيا الله قلوبهم بحبه، وأماتوا نفوسهم من حب ضده، ونحن على الضد.
قيل ما علامة حياة القلب؟ قال: وجدان اللذة من الطاعة، ووجدان الألم من المعصية، فزن بهذا الميزان نفسك وقلبك يتضح لك ما ذكرت. لحاتم الأصم:
قال نفس المؤمن ضيعته، وقلبه أرضه، والإخلاص ماؤه، والحكمة بذره، والشهوات حشيشته التي تغيره، والعبودية غلته، والدنيا سفره، والأيام منازله، والقيامة سوقه، والملك مشتراه، والجنة ثمنه، فنحن بعنا ونقضنا، حاتم الأصم: فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما .
[ ص: 347 ] أما علمت أن من أحب شيئا طلبه، ومن طلبه وجده، ومن خاف من شيء هرب منه، ومن أراد سفرا اهتم له، ومن أحب اللحوق بقوم اقتدى بفعالهم، وسلك سبيلهم، ومن فضل قوما بالعلم يحق أن يفضلهم بالعمل، ونحن لا علم ولا عمل؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون! أشمتنا أهل الآخرة من أحبابنا، وأرضينا الشيطان عدونا، فمن رأى مصرعي فليبك معي. وهنا على وهن [لقمان: 14]: يعني كلما عظم خلق الإنسان في بطن أمه زادها ضعفا على ضعفها.
ولا يستخفنك [الروم: 60]: الخطاب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أمره الله بعدم الاضطراب لكلام الكفار، وقولهم القبيح.
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم [الأحزاب: 7]: أي: أخذنا عليهم الميثاق بتبليغ الرسالة إلى الخلق وتعليم الشرائع.
وقيل: أخذ الميثاق يوم: ألست بربكم .
والأول أرجح؛ لأنه هو المختص بالأنبياء.
وقلن قولا معروفا [الأحزاب: 32]: الخطاب لأمهاتنا وأزواج سيدنا -صلى الله عليه وسلم-، نهاهن الله عن الكلام اللين الذي يعجب الرجال ويميلهم إلى النساء، أو الذي ليس فيه شيء مما نهى عنه، ويعم جميع الأمة؛ لأن الله أمر بالاقتداء بهن.
وطرا [الأحزاب: 37]: حاجة، يعني لما لم يبق لزيد حاجة في زينب زوجناكها.
وقد قدمنا قصتها في حرف الزاي.
ولا بالذي بين يديه [سبأ: 31]: يعني الكتب المتقدمة، كالتوراة والإنجيل، وإنما قال هذه المقالة حين وقع الاحتجاج بما في التوراة من ذكر محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا يلتفت لمن قال بين يديه يوم القيامة؛ لأن الذي بين يدي الشيء هو ما يتقدم عليه.
وجعلنا ذريته هم الباقين [الصافات: 77]: أهل الأرض كلهم من [ ص: 348 ] ذرية نوح؛ لأن الله أمات من نجا معه في السفينة، وتناسلت الخلق من سام وحام ويافث.
" وتركنا عليه في الآخرين " [الصافات: 78، 108]: معناه أبقينا له ثناء جميلا في الناس، فيقال له آدم الأصغر.
وقد قدمنا أن الله أمره بالدعوة إلى التوحيد، وأرسله إلى الناس كافة، وعمر ما لم يعمر غيره، وقرنه الله بالذكر مع نبينا في قوله: ومنك ومن نوح .
ولا تبطلوا أعمالكم [محمد: 33].
أي: بالكفر بعد الإيمان، وقيل: بالرياء والعجب.
وقيل: لا تبطلوا أعمالكم بأن تقطعوها قبل تمامها.
وبهذه الآية استدل الفقهاء على وجوب النافلة، وهو بعيد.
وأبعد منه من قال: لا تبطلوا حسناتكم بفعل السيئات، وهذا مذهب معتزلي؛ لأن السيئات لا تبطل الحسنات.
والأول أظهر.
لقوله قبل ذلك في الكفار والمنافقين: وسيحبط أعمالهم [محمد: 32] ، فكأنه قال: يا أيها المؤمنون لا تبطلوا أعمالكم مثل هؤلاء الذين أحبط الله أعمالهم بكفرهم وصدهم عن سبيل الله، ومشاقتهم للرسول.
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها [محمد: 21].
يعني فتح مكة.
وقيل: بلاد فارس والروم.
وقيل: مغانم هوازن في حنين.
والمعنى: لم تقدروا أنتم عليها قد أحاط الله بها ووهبها لكم وذكرهم بالنعم ليشكروا عليها.
وإعراب أخرى معطوف على: " عجل لكم هذه " [الفتح: 20] ، أو مفعول بفعل مضمر تقديره: أعطاكم أخرى، أو مبتدأ.
وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات: 18]: قد قدمنا أن الاستغفار يطلق على الصلاة، والمراد هنا الاستغفار، هو طلب المغفرة للذنوب.
وقد ذكرنا مرارا أن الله يقول في هذا الوقت: هل من مستغفر، هل من داع، هل من تائب، ولما أكرم الله خمسة من الأنبياء بخمس: ليلة نودي موسى من الشجرة، وليلة النجاة للوط، نجيناهم بسحر [القمر: 34].، وليلة المغفرة [ ص: 349 ] ليعقوب، سوف أستغفر لكم ربي [يوسف: 98].
وليلة المعرفة للخليل: فلما جن عليه الليل [الأنعام: 76] ، وليلة المؤانسة والمحبة: ليلة الإسراء: سبحان الذي أسرى بعبده [الإسراء: 1] ، أكرمك الله يا محمدي بسحر كل ليلة تناجي فيها ربك، فقم على قدم الاعتذار كاشف رأس الافتقار.
مخاطبا بلسان الفقر والاضطرار، ملقيا عن ظهرك حمل السيئات والأوزار، مقنعا بقناع الرجاء والندم والاستغفار: إن لم تغفر لي فمن يغفر لي! إن لم تتب علي فمن يتوب علي، إن لم ترحمني فمن يرحمني إذا غضبت علي؟ ومن يأويني إذا أعرضت عني، أنت العزيز، وأنا الذليل، أنت الغني وأنا الفقير، وأنت القوي وأنا الضعيف، وعزتك ما يزيد في خزانتك ما منعتني، ولا ينقص منها ما أعطيتني، إن تعف عني فأنت أهل لذلك، وإن تعاقبني فبما قدمت يداي، وما أنت بظالم للعبيد.
فيا أكرم من أقر له بذنب، ويا أعز من خضع له بذل.
بكرمك أقررت لك بذنبي، بعزتك خضعت لك بذلي، فلك المنة علي يا من قل له شكري فلم يحرمني، ويا من قل له صبري فلم يخذلني، ويا من تقويت بنعمته على المعاصي فلم يعاقبني، ويا من رآني على الخطايا فلم يفضحني، أقل عثرتي بجاه نبيك الكريم عليك، صلى الله عليه وسلم.
وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون [الزخرف: 88]: هذا الضمير عائد عليه - صلى الله عليه وسلم.
وقرئ بالخفض والنصب في السبع، فأما الخفض فهو معطوف على لفظ: الساعة [الحجر: 85] ، ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله: بالحق [الحجر: 86].
وأما النصب فهو معطوف على: سرهم ونجواهم [الحجر: 80].
وقيل: هو معطوف على موضع "الساعة"، لأنها مفعول أضيف إلى المصدر.
وقيل: معطوف على مفعول: يكتبون [الحجر: 80].
وهو محذوف تقديره: يكتبون أقوالهم، وقيله.
وقرئ في غير السبع بالرفع على أنه مبتدأ: وخبره ما بعده.
وضعف ذلك كله، وقال: إنه من باب القسم، فالنصب والخفض على إضمار حرف القسم، كقولك: الله لأضربن زيدا. الزمخشري
أو الرفع كقولهم: أيم الله، ولعمرك، وجواب القسم - قوله: إن هؤلاء قوم لا يؤمنون [الزخرف: 88] ، [ ص: 350 ] كأنه قال: أقسم بقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون.
وفي السماء رزقكم وما توعدون [الذاريات: 22].
أي: من الوعد أو الوعيد، أو الجنة أو النار.
أو الخير أو الشر.
قال لا أعلم في السماء رزقا غير المطر، وهو كذلك؛ لأن المطر أصل للرزق، والماء الذي في الأرض منه، فلو انقطع المطر انقطع الرزق. ابن عباس:
وفي أموالهم : معطوف على قوله: في جنات [الذاريات: 15] ، أو على: آتاهم ربهم [الذاريات: 16] ، أو تكون الواو للحال.
وأن سعيه سوف يرى [النجم: 40].
بالبناء للمفعول، فعلى هذا يراه الخلق يوم القيامة، أو يراه صاحبه الذي فعله، وهو الأصح؛ لأن الله يضع ستره عليه حين قراءته، لقوله بعد ذلك: ثم يجزاه الجزاء الأوفى [النجم: 41].
وردة كالدهان [الرحمن: 37].
ذكر الجواليقي أنها غير عربية.
ومعناه أحمر كالوردة، وقيل: هو من الفرس الورد.
ولمن خاف مقام ربه جنتان [الرحمن: 46].
أي القيام بين يديه للحساب.
ومنه: يوم يقوم الناس لرب العالمين [المطففين: 6].
وقيل: قيام الله بأعماله، ومنه: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [الرعد: 33].
وأفهم المقام، كقولك: خفت جانب فلان.
واختلف هل الجنتان لكل خائف على انفراد، أو لصنف الخائفين، وذلك مبني على قوله: لمن خاف، هل يراد به واحد أو جماعة، وقال إنما قال: جنتان لأنه خطاب الثقلين، فكأنه قال: جنة للإنس وجنة للجن، والأظهر هنا قول الصوفية: إنها جنة معجلة؛ وهي التلذذ بمناجاتهم مع مولاهم، وهي ألذ عندهم من كل نعيم، وجنة مؤجلة وهي المعلومة. الزمخشري:
فإن قلت: ما معنى الحديث: إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنة، وهل هو موافق للآية؟ [ ص: 351 ] والجواب معناه نصف جنته المدخرة له، فيفتح له في قبره من ريحها ونعيمها.
والتلذذ برؤيتها.
وقد وافق الآية، ولا مضادة بينهما، وقد وصف الله الجنان في الواقعة، والرحمن، وهل أتاك حديث الغاشية، وهل أتى على الإنسان، وبين ذلك سيدنا ومولانا محمد -صلى الله عليه وسلم- أوضح بيان.
قال ترجمان القرآن: الجنات سبع: دار الجلال، ودار السلام، وجنة عدن، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة الفردوس، وجنة النعيم. ابن عباس
وفي بعض الروايات ثمان، وذكر دار القرار.
وقيل: الجنان أربع؛ لأنه ذكر أولا جنتان، ثم قال بعد: ومن دونهما جنتان [الرحمن: 62].
ولم يذكر جنة خامسة.
فإن قلت: قد قال تعالى: عندها جنة المأوى [النجم: 15]؟
والجواب: أن جنة المأوى اسم لجميع الجنان، يدل عليه قوله تعالى: فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون [السجدة: 19].
والجنة اسم الجنس، فمرة يقال: جنة، ومرة يقال: جنات، فكذلك جنات عدن، وجنة عدن.
وقعت الواقعة [الواقعة: 1]: اسم من أسماء القيامة، وقد قدمنا جملة أساميها، وهي الواقعة، الصيحة، وهي النفخة في الصور، وقيل: الواقعة صخرة بيت المقدس تقع يوم القيامة، وهذا بعيد.
وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم [الواقعة: 60، 61].
هو المغلوب عليه بحيث لا يقدر عليه.
ونبدل أمثالكم معناه نهلككم ونستبدل قوما غيركم.
وقيل: نمسخكم قردة وخنازير.
وننشئكم [الواقعة: 61]: معناه نبعثكم بعد هلاككم.
في ما لا تعلمون [الواقعة: 61].
أي: في خلقة لا تعلمونها على وجه لا تصل عقولكم إلى فهمه.
ومعنى الآية أن الله قادر على بعثهم بعد هلاكهم، ففيها تهديد واحتجاج على البعث.
[ ص: 352 ] وكلا وعد الله الحسنى [الحديد: 10]: أي: كل واحد من الطائفتين الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح وبعده.
وغرتكم الأماني [الحديد: 14].
الإشارة إلى الكفار والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتمنون وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، أو هزيمتهم، إلى غير ذلك من الأماني الكاذبة.
ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل [الحديد: 16]: معطوفة على: أن تخشع [الحديد: 16].
ويحتمل أن يكون نهيا.
والمراد بها تحذير المؤمنين من أن يكونوا كالمتقدمين من اليهود والنصارى في طول أملهم وقسوة قلوبهم.
وقد وقعنا فيما حذرنا منه، فلا يخفاك ذلك، وإن طول الأمل يقسي القلب، ويبعد عن الآخرة، ويكثر الحرص، ويقل القناعة، وهذه موجودة فينا ظاهرا وباطنا.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه".
وهل هذا كله إلا من خلطتهم والتقرب منهم؛ لأن المرء على دين خليله.
وانظر حكاية المحمدي في زمان لما أن ألقت الريح مركبهم في جزيرة من جزائر... معاوية
نزلوا في البر، فأتى ملكهم وعليه كساء ملبد ورجلاه حافيتان عاري الرأس، فنزل معهم، وقال: ما لكم أيها العرب تطئون القمح والشعير تحت أقدامكم، وتغلفون سيوفكم بالذهب والفضة، وتتزيون بزي اليهود والنصارى في أواني الذهب والفضة، فقال أحدهم: هذا كله من مخالطتهم.
فقال: اذهبوا عني لئلا يصيبني ما أصابكم، وزودهم وأمرهم بالانصراف.
فقال له أحدهم: أنت ملك هذه الجزيرة، وأنت على هذه الهيئة، فقال: يحق لمن رفعه الله بالنعمة أن يزداد تواضعا، وإني قد ملكني الله أهل هذه الجزيرة فيحق لي ألا أتكبر عليهم، ثم انصرف عنهم وتركهم.
وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله [المجادلة: 8]: ضمير الجمع [ ص: 353 ] يعود على اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا يحيونه بقولهم: السام عليك يا محمد.
فيرد عليهم بعليكم.
ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول [المجادلة: 8]: يعني قولهم: لو كان نبيا لعذبنا الله بإذايته، فقال الله: حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير [المجادلة: 8].
ولا نطيع فيكم أحدا أبدا [الحشر: 11]. أي: لا نسمع فيكم قول قائل، ولا نطيع من يأمرنا بخذلانكم، ثم كذبهم الله في هذه المواعد التي وعدوا بها.
فإن قلت: كيف قال: ولئن نصروهم ليولن الأدبار [الحشر: 12] بعد قوله: لا ينصرونهم [الحشر: 12]؟
والجواب: يعني على الفرض والتقدير، أي: لو فرضنا أن ينصروهم لولوا الأدبار.
وأحصوا العدة [الطلاق: 1]: أمر بذلك لما ينبني عليها من الأحكام في الرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك.
وأشهدوا ذوي عدل منكم [الطلاق: 2]: هذا خطاب للأزواج، والإشهاد المأمور به هو على الرجعة عند الجمهور وقد اختلف فيه: هل هو واجب أو مستحب على قولين في المذهب.
وقال هو ابن عباس: وذلك أظهر؛ لأن الإشهاد يرفع الإشكال والنزاع، ولا فرق في هذا بين الرجعة والطلاق. الشهادة على الطلاق وعلى الرجعة،
ويفهم من الآية أنه لا يشهد إلا من المسلمين والرجال.
وقيل: من الأحرار، فيؤخذ من ذلك رد شهادة العبيد.
وأقيموا الشهادة لله [الطلاق: 2]: يحتمل أن يريد به القيام بها، فإذا استشهد وجب عليه أن يشهد، وهو فرض كفاية، وإلى هذا المعنى أشار ابن الغرس.
ويحتمل أن يريد إقامتها بالحق دون ميل ولا غرض، وبهذا فسره [ ص: 354 ] وهو أظهر، لقوله: " لله " ، فهو كقوله: الزمخشري، كونوا قوامين بالقسط شهداء لله [النساء: 135].
واختلف في وعلى كتب الوثائق. أخذ الأجرة عليها
والمشهور عدم الجواز.
أما من انتصب لها وترك التكسب المعتاد لأجلها فجائز له أخذ الأجرة عليها.
وإلا لم يجد الإنسان من يشهد له بيسير، وأخذها ممن يحسن كتب الوثيقة كتابا وعبارة على كتبه وشهادته لا يختلف فيه ويكون له أخذ الأجرة بما اتفقا عليه من قبل.
وروي أن بعض الشيوخ أهدى له صهره أبو زوجته الفقيه أبو علي بن القداح لبنا فشربه، ثم اجتمع به بعد ساعة من شربه فتحدثا، فأخبره صهره أن ذلك اللبن أهداه له فلان بعض الشهود الذين يأخذون الأجر في شهادتهم، فقام وقاء ذلك اللبن، هكذا كانت حالهم رضي الله عنهم، ونحن على الضد منهم، فأين حالنا من حالهم، نأخذ على كتب الوثائق ما لا يجوز، وندعي أنه أجرة على الكتب، وهل هذا إلا من تحليل ما حرم الله، ورضي الله عن الشيخ الأبي أبي القاسم حيث قال: لأن تغزو على بلاد المسلمين، وتأخذ متاعهم ورقابهم وتبيعه خير من أخذ الأجرة على كتب الشهادة.
وصدق؛ لأن الغازي يعتقد التحريم فتجد قلبه منكسرا، والله عند المنكسرة قلوبهم، والكاتب يدعي أنه حقه، فصاحب المكس أفضل منه لما ذكرناه، فبالله أيها الأخ تعال نندب على أنفسنا فيما وقع منا لعلنا تهب علينا نفحات القبول، والله المعين على ما نقول.
ويدعون إلى السجود [القلم: 42]: قد قدمنا تفسيره.
واهية [الحاقة: 16].
أي: مسترخية ساقطة القوة، ومنه قولهم: دار واهية، أي: ضعيفة الجدران.
"وتين" [الحاقة: 46]. عرق متعلق بالقلب إذا انقطع مات صاحبه.
وبيلا [المزمل: 16]: مفعول به، وناصبه: تتقون [المزمل: 17] ، أي: كيف تتقون يوم القيامة وأهواله إن كفرتم.
وقيل: هو مفعول به على أن [ ص: 355 ] يكون كفرتم بمعنى جحدتم.
وقيل: هو ظرف، أي: كيف لكم بالتقوى يوم القيامة.
ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوفا تقديره: اذكروا.
وقوله: السماء منفطر به [المزمل: 18].
أي اليوم الذي تنفطر السماء بشدة هوله، ويحتمل أن يعود على الله، أي: تنفطر بأمره وقدرته.
والأول أظهر.
والسماء مؤنثة، وجاء: منفطر بالتذكير؛ لأن تأنيثها غير حقيقي أو على الإضافة.
" وزر " [القيامة: 11]: ملجأ، بالنبطية.
وهاجا [النبإ: 13]: وقادا شديد الإضاءة.
وقيل: الحار الذي يضطرم من شدة لهبه.
واجفة [النازعات: 8]: شديدة الاضطراب.
والوجيف والوجيب بمعنى واحد.
وارتفع: قلوب [النازعات: 8] ، بالابتداء، وواجفة خبره.
وقال واجفة صفة والخبر: " الزمخشري: أبصارها خاشعة ".
وأذنت لربها وحقت [الانشقاق: 5]: هذه الآية مخبرة أن السماوات في انقيادها لله حين يريد انشقاقها تفعل فعل المطواع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنصت له وأذعن ولم يمتنع، كقوله: أتينا طائعين [فصلت: 11] ، فجميع المخلوقات منقادة لخالقها إلا نحن، قال تعالى: "أوحيت إلى البحر أن انفلق لموسى، فبات يضطرب من خوفي تلك الليلة، وأنتم خاطبتكم بكلامي وأمرتكم بأوامري فلم تمتثلوا، قلوبكم كالحجارة أو أشد قسوة".
فإن قلت: ما فائدة تكرير هذه الآية في هذه السورة؟ فالجواب: أن كل واحد من الإخبارين معقباته غير ما أخبر به الآخر.
فالأول إخبار عن السماء في طاعتها وانقيادها، والآخر إخبار عن الأرض بمثل ذلك، وأن كل واحدة منهما سمعت وانقادت فانفطرت السماء وتشققت، وانتثرت نجومها، وانقادت وأزيلت الجبال عن الأرض فامتدت وألقت ما تحمله من الأموات وغير ذلك مما استودعته من المعادن والكنوز، وتخلت عنها [ ص: 356 ] سامعة مطيعة، وإن كان الإخبار الأول عن السماء والآخر عن الأرض فلا تكرار.
والليل وما وسق [الانشقاق: 17] ،: أقسم الله بالليل وما جمع فيه لأنه يضم الأشياء ويسترها بظلامه.
ومنه الوسق.
والقمر إذا اتسق [الانشقاق: 18] ، أي امتلأ نوره، مشتق من الوسق.
ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى [الأعلى: 11، 12].
الضمير عائد على النار، يعني أن من تنفعه الذكرى وتؤثر فيه لا تحرقه النار الكبرى، وسماها بذلك بالنظر إلى نار الدنيا وقيل: بالنظر إلى غيرها من نار جهنم؛ فإنها تتفاضل بالنظر إلى من فيها، وكلا القولين صحيح، إلا أن الأول أظهر للحديث: "ناركم هذه التي توقد جزء من سبعين جزءا من نار جهنم".
ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة، أو عتبة بن ربيعة، وضمير المفعول للذكرى.
والفجر وليال عشر [الفجر: 1، 2].
أقسم الله بهذه المخلوقات.
وقد أكثر علماؤنا رضي الله عنهم الأقوال فيها، فقيل: إن الفجر الصبح، وقيل: بانفجار الماء من أصابع نبينا ومولانا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: بانفجار الصخرة، وإخراج الناقة لقوم صالح، وقيل: بانفجار دموع العاصين، وقيل: بانفجار الموتى من القبور، وقيل: بانفجار الملائكة من السماء في قوله: ويوم تشقق السماء بالغمام [الفرقان: 25] ، وقيل: بانفجار المعرفة من قلوب المطيعين، لقوله: أفمن شرح الله صدره للإسلام [الزمر: 22] ، وانفجار المعصية من قلوب العاصين، لقوله تعالى: يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [الأنعام: 125].
وكذلك الليالي العشر، قيل: هي الليالي العشر من أول ذي الحجة، وقيل: أوائل المحرم، وقيل: أوائل رمضان، وقيل: العشر المذكورة في قوله تعالى: وأتممناها بعشر [الأعراف: 142].
وقيل: بالعشر الآيات [ ص: 357 ] المذكورة في قوله تعالى: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات [هود: 13].
وهذا بعيد لعدم دخول الليالي فيها.
وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة [البلد: 17].
أي: وصى بعضهم بعضا بالصبر على قضاء الله ورحمة المساكين وغيرهم من المخلوقات.
وفي هذه الآية إشارة إلى صبر المسلمين على إذاية الكفار، وعلى هذا فهي منسوخة بآية السيف.
والظاهر أنها عامة بالتحذير من الانزعاج والصبر على من أوذي من المسلمين، ورحمتهم بالدعاء لهم بالهداية والتوفيق.
والشمس وضحاها [الشمس: 1].
بالفتح والمد ارتفاع الضوء وكماله إلى الزوال، وقيل: الضحى النهار كله، والأول هو المعروف في اللغة.
والقمر إذا تلاها [الشمس: 2].
أي: تبعها، والضمير للشمس، واتباعه لها بكثرة ضوئه؛ لأنه أضوأ الكواكب بعد الشمس ولا سيما ليلة البدر، أو يتبعها في طلوعه؛ لأنه يطلع بعد غروبها، وذلك في النصف الأول من الشهر، أو يتبعها في أخذه من نورها، لقوله تعالى: وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة [الإسراء: 12].
وقد صح أن جبريل مسحها فأذهب بعض ضوئها، وبهذا احتجت الشمس بتفضيلها على القمر.
والنهار إذا جلاها [الشمس: 3].
أي: كشفها وأظهرها، وضمير المفعول للشمس، وضمير الفاعل للنهار؛ لأن الشمس تنجلي بالنهار، فكأنه هو جلاها.
وقيل: ضمير الفاعل لله.
وقيل: الضمير المفعول للظلمة أو للأرض أو للدنيا.
وهذا كله بعيد؛ لأنه لم يتقدم ما يعود الضمير إليه.
فإن قلت: النصب في: " إذا " معضل؛ لأنك لا تخلو إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها فتخير في العطف على عاملين، وفي نحو مررت أمس بزيد واليوم عمرو.
وإما أن تجعلهن للقسم، فتقع فيما اتفق الخليل على استكراهه. والجواب فيه: أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل اطراحا كليا، فكان لها [ ص: 358 ] شأن حيث أبرز معها الفعل، وأضمر، فكانت الواو قائمة مقام الفعل، والباء سادة مسدهما جميعا، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو، فحقيقته: أن تكون عوامل على الفعل والجار جميعا، كما تقول: ضرب زيد عمرا وبكر خالدا، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملها. وسيبويه
والتين والزيتون وطور سينين [التين: 1، 2].
هذا من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وقال يجوز أن يعرب إعراب الجمع المذكر بالواو والياء. الزمخشري:
وأن يلزم الياء ويحرك النون بحركات الإعراب، وهذه أقسام، أقسم الله بالتين والزيتون وبجبل الطور الذي كلم عليه موسى.
والبلد الأمين، من الأمانة أو الأمن، لقوله: اجعل هذا بلدا آمنا [البقرة: 126].
وقد استجاب الله دعاءه فجعله آمنا من كل شيء، لقوله تعالى: أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [العنكبوت: 67].
واسجد واقترب [العلق: 19].
أي: تقرب إلى الله بالسجود، وهذه الآية موضع سجدة عندنا خلافا لمالك.
والعاديات ضبحا [العاديات: 1].
اختلف في العاديات والموريات والمغيرات، هل يراد بها الخيل، وعلى هذا فهل هي خيل المجاهدين أقسم الله بها، أو الخيل على الإطلاق.
وعلى القول بأنها الإبل اختلف: هل هي إبل غزوة بدر، أو إبل المجاهدين مطلقا، أو إبل الحاج، أو الإبل على الإطلاق.
ومعنى العاديات التي تعدو في مشيها.
والضبح: هو تصويت جهير عند العدو الشديد ليس بصهيل، وهو مصدر منصوب على تقدير: يضبحن ضبحا، أو هو مصدر في موضع الحال، تقديره العاديات في حال ضبحها.
والموريات من قولك: أوريت النار، إذا أوقدتها.
وقد قدمنا أن القدح صك الحجارة فيخرج منها شعلة نار، وذلك عند ضرب الأرض بأرجل الخيل أو الإبل.
وإعراب: قدحا كإعراب: ضبحا .
والمغيرات من قولك: أغارت الخيل إذا خرجت للإغارة على أعدائها.
[ ص: 359 ] و: صبحا [العاديات: 3]: ظرف زمان؛ لأن عادة أهل الغارة في الأكثر أن يخرجوا في الصباح.
فوسطن به جمعا [العاديات: 5] ، أي: توسطن.
واختلف هل المراد بالجمع جمع الناس، أو المزدلفة؛ لأن اسمها جمع.
والضمير المجرور للوقت، أو للمكان، أو للعدو، أو للنقع.
وقد قدمنا معناه في حرف النون.
وإنه على ذلك لشهيد [العاديات: 7].
معطوف على الإنسان، يعني هو شهيد على نفسه بكنوده.
وقيل: هو الله تعالى، على معنى التهديد.
والأول أرجح؛ لأن الضمير الذي بعده للإنسان باتفاق، فيجري الكلام على نسق واحد.
وإنه لحب الخير لشديد [العاديات: 8].
المعنى: إن الإنسان شديد الحب للمال، فهو ذم لحبه والحض عليه.
وقيل: الشديد البخيل.
والمعنى على هذا: إنه لبخيل لأجل حب المال.
والأول أظهر.
وحصل ما في الصدور [العاديات: 10].
أي: جمع في الصحف وأظهر محصلا، أو ميز خيره من شره.
وآمنهم من خوف [قريش: 4].
أي: من خوف أصحاب الفيل، أو آمنهم في بلدهم، أو في أسفارهم؛ لأنهم كانوا في رحلتهم آمنين لا يتعرض لهم أحد بسوء لبركة البيت، ويطلب منهم الدعاء لمجاورتهم له، وكان غيرهم تؤخذ أموالهم وأنفسهم.
وقيل: آمنهم من الجذام والطاعون والدجال.
قال التنكير في: الزمخشري: جوع و: خوف لشدتهما، ولا ترى مجذوما بمكة.
" وسعها " [البقرة: 233، 286].
بضم الواو: طاقتها، وهذا إخبار من الله ووقوع أنه لا يكلف النفس إلا طاقتها، الأشعرية محال عقلا عند المعتزلة، واتفقوا على أنه لم يقع في الشريعة. تكليف ما لا يطاق جائز عقلا عند
[ ص: 360 ] "والموسع" [البقرة: 236]: الغني؛ أي: واسع الحال، وهو ضد المقتر.
وإنا لموسعون [الذاريات: 47]: قيل: أغنياء، وقيل: قادرون.
" وارى ، يواري " ، أي: ستر، ومنه: يواري سوءة أخيه [المائدة: 31].
و: ما ووري عنهما من سوآتهما [الأعراف: 20].
وتوارى، أي استتر واستخفى.
"وعى" العلم يعني حفظه؛ ومنه: وتعيها أذن واعية [الحاقة: 12].
قال صلى الله عليه وسلم لما نزلت: اللهم اجعلها أذن علي، فاستجاب الله له، وجعله الباب لمدينة العلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: بابها". وعلي "أنا مدينة العلم
هذا ما خص به من الفضائل، وقد شهد الله في كتابه بإبراهيم في قوله: وإبراهيم الذي وفى [النجم: 37] ، وقال فيه: يوفون بالنذر [الإنسان: 7] ، وبالخوف بالملائكة: يخافون ربهم من فوقهم [النحل: 50].
وقال فيه: ويخافون يوما كان شره مستطيرا [الإنسان: 7].
وبالصبر بأيوب: إنا وجدناه صابرا [ص: 44].
وقال: وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا [الإنسان: 12] .
وذكر الله أنه يطعم ولا يطعم، وقال فيه: ويطعمون الطعام على حبه [الإنسان: 8].
ولما نزلت: يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة [المجادلة: 12] ، قال كانت لي عشرة دراهم فتصدقت بها، وسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عشر كلمات، ولم يعمل بهذه الآية غيري، ورفق الله بالأمة. علي:
قلت: يا رسول الله، كيف أدعو؟ قال: بالصدق والوفاء.
قلت: ما أسأل الله؟ قال: العافية في الدارين.
قلت: ما أصنع لنجاتي؟ قال: كل حلالا وقل صدقا.
قلت: فما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة.
قلت: فما أمر الله ورسوله؟ قال: الحق.
قلت: فما الحق؟ قال: الإسلام والقرآن وولاية من انتهى إليك.
قلت: فأين الراحة؟ قال: في الجنة.
قلت: فما السرور؟ قال: الرؤية.
قلت: فما العبودية؟ قال: إظهار الوفاء.
قلت: فما الوفاء؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله.
[ ص: 361 ] وأما أوعى بالألف يوعي فجمع المال في وعاء، ومنه: وجمع فأوعى [المعارج: 18].
وجدكم [الطلاق: 6].
بضم الواو وفتحها: سعتكم، والضم أكثر وأشهر، وبكسر الواو لكنه قليل، ومعناه: أسكنوا المرأة مسكنا تقدرون عليه.
وإعرابه عطف بيان، لقوله: حيث سكنتم [الطلاق: 6].
وقعت بالواو والألف بمعنى جمعت لوقت، وهو يوم القيامة.
" وجه ": قد قدمنا تقسيم الوجه على أوجه، ووجه الله طلب رضاه، وقدمنا أنه من المتشابه، ويراد به الجهة، ومنه: وجهة ترضاها، ولم تحذف الواو لأنه ظرف مكان وقيل: إنه مصدر ثبتت فيه الواو على غير قياس.
وردا [مريم: 86]: مصدر: عطاشا؛ لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش.
" وزر " ، بكسر الواو وإسكان الزاي له معنيان: الذنب، ومنه: ولا تزر وازرة وزر أخرى [الأنعام: 164].
والحمل الأصل، ومنه: أوزارا من زينة القوم [طه: 87] ، أي: أحمالا.
ولدان مخلدون [الواقعة: 17]: الولدان صغار الخدم.
وقد قدمنا أن "المخلدون" الذين لا يموتون أو المقلدون بالخلدات، وهي ضرب من الأقراط.
وقد ورد في الحديث: "إن الولدان يطوفون على أهل الجنة بكأس من معين".
وهو الإناء الواسع الفم الذي ليس له مقبض سواء كان فيه خمر أم لا.
الواو: جارة وناصبة وغير عاملة: فالجارة واو القسم، نحو: والله ربنا ما كنا مشركين [الأنعام: 23].
والناصبة واو: " مع " فتنصب المفعول معه في رأي قوم، نحو: فأجمعوا أمركم وشركاءكم [يونس: 71].
ولا ثاني له في القرآن.
والمضارع في جواب النفي أو الطلب عند الكوفيين، نحو: ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [آل عمران: 142].
[ ص: 362 ] يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين [الأنعام: 27].
وواو الصرف عندهم، ومعناها أن الفعل كان يقتضي إعرابا فصرفته عنه إلى النصب، نحو: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء [البقرة: 30].
في قراءة غير النصب.
وغير العاملة أنواع: واو العطف، وهي لمطلق الجمع، فتعطف الشيء على مصاحبه، نحو: فأنجيناه وأصحاب السفينة [العنكبوت: 15].، وعلى سابقه، نحو: أرسلنا نوحا وإبراهيم [الحديد: 26].
ولاحقه نحو: يوحي إليك وإلى الذين من قبلك [الشورى: 3].
وتفارق سائر حروف العطف في اقترانها بإما، نحو: إما شاكرا وإما كفورا [الإنسان: 3].
وبلا بعد نفي، نحو: وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى [سبأ: 37].
و: " لكن " ، نحو: ولكن رسول الله وخاتم النبيين [الأحزاب: 40].
وتعطف العقد على النيف، والخاص على العام، وعكسه، نحو: وملائكته ورسله وجبريل [البقرة: 98].
رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات [نوح: 28].
والشيء على مرادفه، نحو: صلوات من ربهم ورحمة [البقرة: 157].
إنما أشكو بثي وحزني إلى الله [يوسف: 86].
والمجرور على الجوار، نحو: برءوسكم وأرجلكم [المائدة: 6].
وقيل: وترد بمعنى أو، وحمل عليه مالك: إنما الصدقات للفقراء والمساكين [التوبة: 60] الآية.
وللتعليل، وحمل عليه الواو الداخلة على الأفعال المنصوبة. الخوارزمي
ثانيها: واو الاستئناف، نحو: ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده [الأنعام: 2] ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى [الحج: 5].
[ ص: 363 ] واتقوا الله ويعلمكم الله [البقرة: 282].
من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم [الأعراف: 186] - بالرفع؛ إذ لو كانت عاطفة لنصب: "ونقر".
ولجزم ما بعده ونصب "أجلا".
ثالثها: واو الحال الداخلة على الجملة الاسمية، نحو: ونحن نسبح بحمدك [البقرة: 30].
يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم [آل عمران: 154].
لئن أكله الذئب ونحن عصبة [يوسف: 14].
وزعم أنها تدخل على الجملة الواقعة صفة، لتأكيد ثبوت الصفة للموصوف، ولصوقها به، كما تدخل على الحالية، وجعل من ذلك: الزمخشري ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم [الكهف: 22].
رابعها: واو الثمانية، ذكرها جماعة كالحريري وابن خالويه وزعموا أن والثعلبي، العرب إذا عدوا يدخلون الواو بعد السبعة إيذانا بأنها عدد تام، وأن ما بعده مستأنف، وجعلوا من ذلك قوله: سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم [الكهف: 22].
وقوله: التائبون العابدون [التوبة: 112] ... إلى قوله: والناهون عن المنكر ؛ لأنه الوصف الثامن.
وقوله: مسلمات [التحريم: 5]...، إلى قوله: وأبكارا .
والصواب عدم ثبوتها، وأنها في الجميع للعطف.
خامسها: الزائدة، وخرج عليه واحدة في قوله: وتله للجبين وناديناه [الصافات: 103، 104].
سادسها: واو ضمير المذكور في اسم أو فعل، نحو: " المؤمنون " .
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه [القصص: 55].
قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة [إبراهيم: 31].
سابعها: واو علامة الذكرين في لغة طيئ، وخرج عليه: وأسروا النجوى الذين ظلموا [الأنبياء: 3].
[ ص: 364 ] ثم عموا وصموا كثير منهم [المائدة: 71].
ثامنها: الواو المبدلة من همزة الاستفهام المضموم ما قبلها، كقراءة قنبل: "وإليه النشور وأمنتم " [الملك: 15].
"قال فرعون وآمنتم به" [الأعراف: 123].
ويكأن : قال كلمة تندم وتعجب، وأصله ويلك، فالكاف ضمير مجرور. الكسائي:
وقال وي اسم فعل بمعنى أعجب، والكاف حرف خطاب، وأن على إضمار اللام: والمعنى أعجب لأن الله. الأخفش:
وقال وي وحدها، وكأن كلمة مستقلة للتحقيق لا للتشبيه. الخليل:
وقال يحتمل: ابن الأنباري: ويكأنه ثلاثة أوجه: أن تكون ويك حرفا، وأنه حرف.
والمعنى: ألم تر.
وأن تكون كذلك، والمعنى: ويلك.
وأن تكون وي حرفا للتعجب، وكأنه حرف.
ووصلا خطا لكثرة الاستعمال، كما وصل يبنؤم.
" ويل " : قال ويل تقبيح. الأصمعي:
قال تعالى: ولكم الويل مما تصفون [الأنبياء: 18].
وقد توضع موضع التحسر والتفجيع، نحو: يا ويلتنا [الكهف: 49].
يا ويلتا أعجزت [المائدة: 31].
أخرج الحربي في فوائده من طريق عن إسماعيل بن عياش، عن أبيه، هشام بن عروة، عن قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ويحك" فجزعت منها، فقال لي: يا حميراء، إن "ويحك" أو "ويسك"، رحمة، فلا تجزعي منها، ولكن اجزعي من "الويل". عائشة،