السكينة في السنة النبوية
29/10/2023| إسلام ويب
معنى السكينة: السكينة كما قال ابن القيم في مدارج السالكين هي: الطمأنينة والوقار، والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده، عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوة اليقين والثبات.. وهي التي نزلت على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وقلوب المؤمنين، وهي شيء يجمع قوة وروحا، يسكن إليه الخائف، ويتسلى به الحزين والضجر... فالسكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارح، وخشعت، واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش، واللغو والهجر، وكل باطل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقلبه.
وهذا جانب مفقود في حياة البعض من المسلمين؛ لتقصيرهم في البحث عنها وفق أسبابها الجالبة لها، أو في ارتكابهم لما يذهبها من الآثام الجالبة للقلق والاضطرابات النفسية، وقد ورد في السنة النبوية ذكر السكينة في مواضع كثيرة يمكن التأمل فيها بصورة إجمالية لاستخراج مواطنها، وأسباب الحصول عليها، فهي وإن كانت هبةً ربانيةً، لكن جزءًا منها كسبيٌ يمكن تحصيله.
مواطن السكينة وأسبابها الجالبة لها:
أولا: عند تنزل الوحي، ففي سنن أبي داود عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة، فوقَعَتْ فخذُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سري عنه، فقال: «اكتب» فكتبت في كتف: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} [النساء: 95] {والمجاهدون في سبيل الله} [النساء: 95] إلى آخر الآية.
ثانيا: عند تلاوة القرآن من مواطن السكينة وأسباب تحصيلها، فقد ثبتت الروايات التي تدل على أن الملائكة يحبون سماع القرآن، وتتنزل معهم السكينة، وهي الطمأنينة والرحمة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»
وفي صحيح ابن حبان عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: إن رجلا كان يقرأ سورة الكهف ودابته موثقة، فجعلت تنفر، ترى مثل الضبابة أو الغمامة قد غشيته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: «اقرأ يا فلان، تلك السكينة أنزلت عند القرآن، أو للقرآن». وفي رواية البخاري: «السكينة تنزلت بالقرآن»، أي: بسبب القرآن. والقارئ هو أسيد بن حضير كما في بعض الروايات الأخرى، وقد كان حسن الصوت بالقرآن.
وقد ثبت في بعض الروايات أن الملائكة هي التي تنزلت، قال ابن بطال: في هذا الحديث أن أسيد بن الحضير رأى مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، وقال صلى الله عليه وسلم: "تلك الملائكة تنزلت للقرآن" فمرة أخبر عن نزول السكينة، ومرة أخبر عن نزول الملائكة، فدل على أن السكينة كانت في تلك الظلة، وأنها تتنزل أبدًا مع الملائكة، وهو طبق ترجمة البخاري. باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن.
ثالثا: الجهاد في سبيل الله من مواطن تنزل السكينة، وقد أخبر الله تعالى بتنزل السكينة على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قلوب المؤمنين في مواطن الجهاد والهجرة، وفي أشد الأحوال وأحلك الظروف، فتثبت قلوبهم، وتطمئن لنصر الله وتمكينه، ففي مسند الإمام أحمد قال عبد الله بن مسعود: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، قال: فولى عنه الناس، وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار، فنكصنا على أقدامنا نحوا من ثمانين قدما، ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عز وجل عليهم السكينة، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته يمضي قدما، فحادت به بغلته، فمال عن السرج، فقلت له: ارتفع رفعك الله، فقال: «ناولني كفا من تراب» فضرب به وجوههم، فامتلأت أعينهم ترابا، ثم قال: «أين المهاجرون، والأنصار؟» ، قلت: هم أولاء، قال: «اهتف بهم» فهتفت بهم، فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، وولى المشركون أدبارهم.
رابعا: الدعاء بإنزال السكينة، كما في الصحيحين عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل معنا التراب، ولقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول: والله لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا، إن الألى قد أبوا علينا - قال: وربما قال: إن الملا قد أبوا علينا - إذا أرادوا فتنة أبينا، ويرفع بها صوته.
خامسا: الحياء من أسباب الحصول على السكنة، ففي الصحيحين عن عمران بن حصين، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحياء لا يأتي إلا بخير» فقال بشير بن كعب: " مكتوب في الحكمة: إن من الحياء وقارا، وإن من الحياء سكينة".
وقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن القرطبي قال في معنى كلام بشير بن كعب: إن من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار بأن يوقر غيره ويتوقر هو في نفسه، ومنه ما يحمله على أن يسكن عن كثير مما يتحرك الناس فيه من الأمور التي لا تليق بذي المروءة.
المواضع التي ورد الأمر فيها بالسكينة:
أولا: عند الإتيان إلى الصلاة، والقيام إليها، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ثوب بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم، ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار، صل ما أدركت، واقض ما سبقك».
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث ونحو ذلك، والوقار في الهيئة وغض البصر وخفض الصوت والأقبال على طريقة بغير التفات ونحو ذلك والله أعلم.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني».
ثانيا: ورد الأمر بالسكينة في الحج عند الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة، كما في صحيح مسلم من حديث جابر الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: «ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام [ص:891]، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى «أيها الناس، السكينة السكينة» كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا، حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة»
وعند رمي الجمرات أمرهم كذلك بالسكينة، كما في سنن الترمذي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص يحدث عن أمه قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو على بغلة وهو يقول: «أيها الناس عليكم السكينة لا يقتل بعضكم بعضا، وعليكم مثل حصى الخذف».
ثالثا: عند الذكر، كما في صحيح مسلم عن أبي موسى، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم» وفي رواية الطبراني في المعجم الكبير «عليكم السكينة، فإن الذي تدعونه ليس بأصم، والذي نفسي بيده لهو أقرب إليكم من رءوس دوابكم، وأقرب إليكم من حبل الوريد».
رابعا: عند حمل الجنازة، ففي سنن الترمذي عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه رأى جنازة يسرعون بها، فقال: «لتكن عليكم السكينة». والحديث محمول على أن يسرعوا بها إسراعاً كثيراً يخشى على الجنازة أو يشق على الحاملين، والسنة أن يمشي بها بين السرعة والبطء، ومن السكينة المطلوبة عند الجنازة التفكر والتأمل، قال النووي في الأذكار: " واعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف من السكون حال السير مع الجنازة فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك والحكمة فيه ظاهرة وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره ".
فهذه النصوص النبوية الواردة في السكينة تبعث المسلم على طلب السكينة، والتماسها في مواطنها، وفعل الأسباب المؤدية إليها، وامتثال الأوامر النبوية في التزام السكينة حيث طلبت منه، فقد فقدت السكينة والطمأنينة من الكثير، وعلى المسلم أن يدعو ربه تعالى بأن ينزل عليه سكينته، فإذا ظفر بذلك فقد ظفر بعطاء عظيم، ومنحة كبيرة.
وقراءة آيات السكينة الست من الأمور التي ثبتت بالتجربة، قال ابن القيم في مدارج السالكين: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة، وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها - من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة - قال: فلما اشتد علي الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرءوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قلبة. يقول ابن القيم: وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه. فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه وطمأنينته.