هو سعيدُ بن المسيب بن حَزْن بن أبي وهب، أبو محمد القرشي المخزومي، الإمام الحافظ الكبير، عالم أهل المدينة، وسيد التابعين في زمانه.
كانت ولادته بالمدينة المنورة لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل: لأربع مضين منها، وهو من ائمة التابعين فقد رأى عمر، وسمع عثمان، وعليا، وزيد بن ثابت، وأبا موسى، وسعدا، وعائشة، وابن عباس، ومحمد بن مسلمة، وأم سلمة، وخلقا سواهم. وقيل: إنه سمع من عمر. وزوَّجه أبو هريرة ابنتَه، فكان أعلم الناس بحديثه.
وقد كانت لجده "حَزْنٍ" صحبةٌ وقدم على النبي وكلمه، فعن سعيد بن المسيب: أن جده حزنا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: ما اسمك؟ قال: حزن. قال: بل أنت سهل. قال: يا رسول الله، اسم سماني به أبواي وعُرفتُ به في الناس، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم. قال سعيد: فما زلنا تُعرَف الحزونةُ فينا بعدُ.
نشأته
نشأ ابن المسيّب وترعرع وتعلم في المدينة، وظلَّ فيها طوال حياته لم يفارقها أبداً إلا لحجٍّ أو عمرة أو جهاد، وكانت المدينة مأرز الإيمان، ومنزل الصحابة الأعلام، تجمع فيها ثُلَّةٌ المهاجرين والأنصار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه رضوان الله عليهم، فاستغنى بالمدينة عن غيرها، واجتهد في طلب الحديث منذ صغره، وسمع من كبار الصحابة.
شيوخه
حدَّث سعيدُ بنُ المسيب عن عدد كبير من الصحابة، سبق ذكر بعضهم، وروى أيضا عن أبي ذر وأبي الدرداء وحكيم بن حزام، وعبد الله بن عمرو، وأبيه المسيب، وأبي سعيد، وحسان بن ثابت، وصفوان بن أمية، ومعاوية، وجبير بن مطعم وجابر، وسراقة بن مالك، وصهيب الرومي رضي الله عنهم أجمعين، وقد روى له أصحاب الكتب الستة.
تلاميذه
روى عنه خلق كثير وأئمة كبار منهم: الزهري، وقتادة، وعمرو بن دينار، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن المنكدر، وبكير بن الأشج، وداود بن أبي هند، وسعد بن إبراهيم، وعلي بن زيد بن جدعان، وشريك بن أبي نمر، وميمون بن مهران، وأبو سهيل نافع بن مالك، وعبد الرحمن بن حرملة، وبشر سواهم كثير.
مناقبه وثناء الأئمة عليه
كان عالمَ أهل المدينة، وسيدَ التابعين في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة، ولم يكن أحدٌ أعلم منه بأقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى قال عنه قدامة بن موسى: "كان ابن المسيب يفتي والصحابة أحياء".
ولشدَّة اهتمامه بالحديث أحبَّه الصَّحابة جميعاً، وأثنَوا عليه، وزوَّجه أبو هريرة رضي الله عنه من ابنته، واصطفاه بالرعاية والعناية، وحمل سعيد بن المسيِّب حديث أبي هريرة كلَّه - وهو الصحابيُّ الأكثر روايةً من بين الصَّحابة -، كما اختصَّ سعيد بن المسيِّب بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وحمل عنه علمَ أبيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، خاصَّة أقضيته الشهيرة، حتى برع فيها، وصار النَّاس يسألونه عنها حتى في وجود ابن عمر نفسه.
قال علي بن المديني: "لا أعلم في التابعين أحدا أوسع علما من ابن المسيب، هو عندي أجلُّ التابعين"، وعن مكحول قال: "طفتُ الأرض كلَّها في طلب العلم، فما لقيتُ أحداً أعلم من سعيد بن المسيِّب".
وقال محمد بن يحيى بن حبان: "كان المقدم في الفتوى في دهره سعيد بن المسيب، ويقال له فقيه الفقهاء". وعن مكحول، قال: "سعيد بن المسيب عالم العلماء".
وعن ميمون بن مهران قال: "أتيت المدينة فسألت عن أفقه أهلها، فدُفِعت إلى سعيد بن المسيب". وعن نافع أن ابن عمر ذكر سعيد بن المسيب فقال: "هو -والله- أحد المفتين".
عبادته وحرصه على الجماعة
كان سعيد بن المسيب صاحبَ عبادة وعفة وقناعة، وكان كاسمه بالطاعات سعيداً، وعن المعاصي والجهالات بعيداً.
كان ناسكا مُتعبدا مُحافظا على صلاة الجماعة حتى قال عنه بُرْد مولاه: "ما نودي للصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد"، وقال عن نفسه: "ما فاتتني الصلاة في الجماعة منذ أربعين سنة، وما دخل علي وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها، ولا دخل علي قضاء فرض إلا وأنا إليه مشتاق"، وكان يُكثر أن يقول في مجلسه: "اللهم سلِّم سلِّم".
وأما عن صيامه فيقول يزيد بن أبي حازم: "كان سعيد بن المسيب يسرد الصوم، ويقول ابن حرملة عن حجه: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "لقد حججت أربعين حجة".
سعيد وتعبير الرؤيا
قال الواقدي: كان سعيد بن المسيب من أعبر الناس للرؤيا، أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأخذته أسماء عن أبيها، ثم ساق الواقدي عدة منامات، منها:
عن شريك بن أبي نمر، قلت لسعيد بن المسيب: رأيت كأن أسناني سقطت في يدي، ثم دفنتها. فقال: إن صدقت رؤياك، دفنت أسنانك من أهل بيتك.
وعن مسلم الحناط قال رجل لابن المسيب: رأيت أني أبول في يدي. فقال: اتق الله؛ فإن تحتك ذات محرم، فنظر فإذا امرأة بينهما رضاع.
سلام بن مسكين: عن عمران بن عبد الله، قال: رأى الحسن بن علي كأن بين عينيه مكتوب: قل هو الله أحد فاستبشر به، وأهل بيته، فقصوها على سعيد بن المسيب، فقال إن صدقت رؤياه فقلما بقي من أجله، فمات بعد أيام.
تزويجه ابنته بدرهمين:
ومن عجائب ما وقع من سعيد بن المسيب: أنه زوج ابنة له على درهمين من أحد طلابه وهو كثير بن أبي وداعة، بل وأعطاه عشرين ألف درهم، وكانت من أجمل النساء، وأعلمهن وأحفظهن لعلم أبيها.. والأعجب من ذلك أنه كان قد خطبها الخليفة لابنه فأبى سعيد أن يزوجها له.
قال أبو بكر بن أبي داود: كانت بنت سعيد قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه، فلم يزل يحتال عبد الملك عليه حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء، وألبسه جبة صوف.
ذكر صفته ولباسه
كان سعيد رحمه الله أبيض الرأس واللحية، يحفي شاربه شبيها بالحلق، وربما يصفر لحيته أحيانا. وكان يعتم بعمامة سوداء، وأحيانا بيضاء لها علم أحمر، يرسلها خلفه شبرا.. وربما لبس قميصا إلى نصف ساقه، وكماه إلى أطراف أصابعه، ورداء فوق القميص، وكان يلبس السراويل، وكان الغالب عليه لبس البياض.
كان رحمه الله يحب أن يسمع الشعر، ولكن لا ينشده، ويصافح كل من لقيه، وكان يكره كثرة الضحك.
مرضه ووفاته
عن عبد الرحمن بن حرملة، قال: دخلت على سعيد بن المسيب وهو شديد المرض، وهو يصلي الظهر، وهو مستلق يومئ إيماء، فسمعته يقرأ بالشمس وضحاها.
ولمّا اشتدَّ وجعُ سعيد بن المسيِّب، دخل عليه نافع بن جبير يعودُه فأُغمي عليه، فقال نافع: وجِّهوه، ففعلوا، فأفاق، فقال: مَن أمركم أن تُحوِّلوا فراشي إلى القبلة، أنافع؟ قال: نعم، فقال له سعيد: "لئن لم أكن على القِبلة والمِلَّة، والله لا ينفعُني توجيهكم فراشي".
وكان أوصى أهله بثلاث: "أن لا يتبعني راجز ولا نار، وأن يعجلوا بي، فإن يكن لي عند الله خير، فهو خير مما عندكم". وأوصى ابنه محمدا: ألا يؤذن به أحدا، وقال: حسبي أربعة يحملوني إلى ربي".
وعن يحيى بن سعيد قال: لما احتضر سعيد بن المسيِّب ترك دنانير، فقال: "اللهمَّ إنك تعلم أنِّي لم أتركها إلا لأصونَ بها حسبي وديني".
توفي الإمام سعيد بن المسيب بالمدينة النبوية سنة أربع وتسعين من الهجرة، في خلافة الوليد بن عبد الملك، وعمره خمسٌ وسبعونَ سنة، وكان يُقال لهذه السنة التي مات فيها سعيد: سنة الفقهاء؛ لكثرة من مات منهم فيها.
فرضي الله عنه، وغفر له، ورحمه الله رحمة واسعة.