أسلوب الوصف في الحديث النبوي
27/03/2024| إسلام ويب
الوصف في اللغة أحد الأساليب البلاغية التي تستعمل للبيان والإيضاح، ولا سيما في تصوير المعاني الغامضة، بحيث يجعل المستمع يبصر بسمعه، ويتمثل الغائب في صورة الحاضر، وقد عرفه قدامة بن جعفر بقوله: "هو: ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات". كتاب نقد الشعر.
ويقول ابن القيم: "وأحسن الوصف ما يكاد يمثل الموصوف عياناً، ولأجل ذلك قال بعضهم: أحسن الوصف ما قلب السمع بصراً، ومن هذا الباب في القرآن كثير لا يحصى، وكذلك السنة النبوية". كتاب الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان.
قال ابن رشيق في العمدة: "والفرق بين الوصف والتشبيه أن الوصف إخبار عن حقيقة الشيء، وأن التشبيه مجاز وتمثيل".
ويتعالى الوصف في الحديث النبوي عن الوصف في النثر والشعر؛ إذ هو قول صادق، بل هو أعلى درجات الصدق، وحق لا باطل فيه، فلا يتجاوز الحقيقة إلى الخيال، سيتضح من خلال بعض الأمثلة وجود هذا الأسلوب البلاغي في الحديث النبوي، كما أشار ابن القيم آنفا.
مميزات الوصف النبوي:
لما كانت السنة النبوية مرتبطة بالقرآن الكريم، تشرحه، وتبينه، وتوضحه، فإن الوصف النبوي يأتي شارحا لما ورد في القرآن موجزا.
مثال ذلك: ما ورد في صحيح البخاري عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي» فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله قال: «هي النخلة».
وقد روى ابن حبان عن أبي رزين مرفوعا: «مثل المؤمن مثل النخلة: لا تأكل إلا طيباً، ولا تضع إلا طيباً».
فهذا توضيح لما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) إبراهيم: 29.
ويتميز الوصف النبوي بأنه وصف جامع، ولا غرابة فقد أوتي جوامع الكلم، ومقاليد الألفاظ والمعاني، وناصية الفصاحة والبيان.
ويتميز أيضا بعلو الأغراض، ووضوح الأهداف، فأغراض الوصف النبوي توضيح المعاني الشرعية، بحيث يزيد في إيمان السامع، وقوة يقينه بالغيب، وتشويقه إلى نعيم الجنة، والترغيب بما يقرب منها، فليس المقصود هو التحسين اللفظي، والترف البلاغي، بل هي كلمات هادفة، ومنسجمة مع المقصود من الخلق، وهي التعبيد لله تعالى.
من نماذج أسلوب الوصف في الحديث النبوي:
ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على إثرهم كأشد كوكب إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض، لكل امرئ منهم زوجتان: كل واحدة منهما يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن. يسبحون الله بكرة وعشياً، لا يسقمون، ولا يمتخطون ولا يبصقون، آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوة-قال أبو اليمان: يعني العود-ورشحهم المسك».
فهذا الوصف النبوي المشتمل على التشبيه في بعض العبارات للداخلين للجنة بحسب تراتيبهم ومقامات أعمالهم، فيقف المستمع أمام مشهد يسمعه بأذنه، لكنه يراه بعيون عقله، فيرى النور الذي يشع من وجوه الزمرة الأولى، مستحضرا نور البدر، ويتصور جمال وجوههم وحسنها، وهو يتصور اكتسابهم لهذا النور من أعمالهم، وجهادهم، وصبرهم، فصارت تلك الأعمال مصدر نورهم وجمالهم، وهناء عيشهم الذي يدخلون عليه.
وهذا الوصف النبوي لوجوههم وظواهرهم، يتبعه النبي صلى الله عليه وسلم بوصف قلوبهم، وأنهم «أول على قلب رجل واحد».
ثم ينتقل إلى وصف بعض النعيم الذي يتناسب مع جمالهم وصفاء قلوبهم، فذكر الحور العين، فقال: «ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن»، وهذا الوصف النبوي لزوجات المؤمنين في الجنة، وإن كان فوق تصور العقل البشري، إلا أن المشهد الوصفي يرسم صورة عالية الجمال في الذهنية المؤمنة، ويتصور كمال النعيم حين تمتزج أنوار الأزواج بصفاء الزوجات وعلو حسنهن.
ويستمر الوصف النبوي لأحوال أهل الجنة، حتى لا تقع العقول بقياس الحياة الآخرة على الحياة الدنيا بخوف المرض أو الفناء، بل يصف الكمالات الأخرى بقوله: « لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك» . وهذا وصف بالغ الأثر في نفوس المؤمنين الذي يسمعون هذا الوصف ولم يروه بأعينهم، لكن لبلاغة الوصف النبوي فقد تحولت آذانهم إلى أعين مبصرة للتصوير الدقيق لأحوال أهل الجنة ظاهرا وباطنا.
ومن نماذج أسلوب الوصف في الحديث النبوي:
وصف النبي صلى الله عليه وسلم عذاب أهل البرزخ في حديث الرؤيا التي قصها، وهي رؤيا طويلة مروية في صحيح البخاري عن سمرة بن جندب، فقد صور النبي صلى الله عليه وسلم تلك المشاهد المرعبة، بأحسن وصف وأوجز عبارة، وكأن السامع أمام مشهد معروض أمامه، ينتقل من ضفة إلى أخرى، ومن تلك المشاهد الموصوفة:
مشهد الزناة والزواني: حيث قال: «قالا لي _أي: الملكان_ انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على مثل التنور _الفرن_ فإذا فيه لغط وأصوات، فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا _أي صاحوا وضجوا_».
ومشهد آكل الربا: قال: «فانطلقنا فأتينا على نهر أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر أي الرجل السابح له فاه فيلقمه حجرًا، فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر له فاه، فألقمه حجرًا».
وهكذا مشهد الرجل الذي ينام عن الصلاة المكتوبة، وقد أعطاه الله القرآن فترك العمل به، ومشهد الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق، ومشهد الجنة ومشهد النار، حيث يتجلى أسلوب الوصف النبوي بأكمل عبارة، وأصدق لهجة، وهو وصف مطابق للواقع، معصوم عن الزلل، أو الزيادة والنقصان.
فأسلوب الوصف أسلوب بلاغي، وله شواهده التطبيقية في الحديث النبوي، وهي أكثر من أن تحصر، ويكفي لفت الانتباه إلى أن البيان النبوي يتضمن الأساليب البلاغية بأعلى مستوياتها، وذلك لتحقيق أعظم غرض، وهو هداية الخلق، وتعبيدهم لله تعالى.