الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وزوجه وصحبه.. وبعد:
فقد روى الإمام البيهقي في شعب الإيمان، والطبراني في معجمه الأوسط بسند صحيح عن سهل بن سعد رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها).
ومعالي الأمور: هي الأمور الجليلة، رفيعة القدر عالية الشأن، سميت بذلك لأنها في الأعمال من أجلها وأعلاها، أو لأنها تُعلي شأنَ أصحابها في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما جميعا.
والسفاسف أو السفساف: هي التوافه، والأمور الحقيرة والدنيئة التي تنبئ عن خسة نفس صاحبها وهمته، وهي الحقير والتافه من الأقوال والأعمال والمطالب والاهتمامات.
ولا يهتم الإنسان بالمعالي ويكره السفاسف إلا إذا علت همته وسمت نفسه وروحه؛ فتتطلع إرادته إلى طلب الكمالات والمراتب العالية.. فكلما عظمت الهمم علت المطالب.. كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب".
والناس في هذا متفاوتون تفاوتا عظيما: منهم من تعلو همته فترتفع به إلى السماء والجنة، ومنهم من تسفل همته فتنزل به إلى حضيض الأرض.. كما قال ابن القيم: "القلوب جوالة: منها ما يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحش"يعني القاذورات.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه وأمته على علو الهمة وطلب المعالي والسعي إلى المراتب الجليلة، وكان يحزنه أن يجد أحدا من أمته على خلاف ذلك..
روى أبو يعلى وابن حبان والحاكم عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم أَعْرَابِيّاً فَأَكْرَمَهُ، (وكان صلى الله عليه وسلم إذا أحسن إليه أحد أو أكرمه، رد الإحسان والإكرام بأكبر وأفضل منه)، فَقَالَ لَهُ: (ائْتِنَا) فَأَتَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم: (سَلْ حَاجَتَكَ)، قَالَ: نَاقَةٌ نَرْكَبُهَا، وَأَعْنُزٌ يَحْلِبُهَا أَهْلِي..
"لقد فتحت أمام هذا الأعرابي أبواب الخير كلها، فلو طلب من الدنيا لأعطاه النبي إن كان عنده، وإن طلب أمر الآخرة لسأل الله له أن يعطيه، ولكن المسكين قعدت به همته، فلم تبلغ به أكثر من ناقة وبعض أعنز، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كره ذلك"؛فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم: (أَعَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ) قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَمَا عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟! قَالَ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا سَارَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ ضَلُّوا الطَّرِيقَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ عُلَمَاؤُهُمْ: إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا مِنَ اللهِ أَنْ لاَ نَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ حَتَّى نَنْقُلَ عِظَامَهُ مَعَنَا، قَالَ: فَمَنْ يَعْلَمُ مَوْضِعَ قَبْرِهِ؟ قَالُوا: عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا فَأَتَتْهُ، فَقَالَ: دِلينِي عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ قَالَت: حَتَّى تُعْطِيَنِي حُكْمِي، قَال: ومَا حُكْمُكِ؟ قَالَتْ: أَكُونُ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَكَرِهَ أَنْ يُعْطِيَهَا ذَلِكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَعْطِهَا حُكْمَهَا، فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ إِلَى بُحَيْرَةِ مَوْضِعِ مُسْتَنْقَعٍ فِي مَاءٍ، فَقَالَتْ: أَنْضِبُوا هَذَا الْمَاءَ، فَأَنْضَبُوهُ قَالَتْ: احْتَفِرُوا فَاحْتَفَرُوا، فَاسْتَخْرَجُوا عِظَامَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَلَمَّا أَقَلُّوهَا إِلَى الأَرْضِ إِذَا الطَّرِيقُ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ).
إن الإنسان المسلم يجب أن يكون عالي الهمة صاحب هدف كبير، حتى إذا جاءت الفرصة اهتبلها فإن الفرص ربما لا تتكرر.
فهذ ربيعة بن كعب الأسلمي، شاب فقير كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، أعزب بلا زوجة، ولا يملك بيتا يؤوي إليه.. بينما هو يصب على النبي صلى الله عليه وسلم وضوءه يوما قال له النبي: يا ربيعة.. سل!! فلم يجد فرصة أعظم منها، لم يذكر فقره فيسأل مالا، ولا عزوبيته فيطلب زوجة جميلة، ولا حتى أنه لا بيت له فيطلب بيتا يسكنه، وإنما كانت همته أعلى من ذلك بكثير، فنال بها غاية الشرف الذي يمكن أن يناله إنسان؛ فقال: أسألك مرافقتك في الجنة.. يقول له النبي صلوات الله وسلامه عليه: أو غير ذلك؟ يقول: هو ذاك. يعني لا أريد ولا أطلب إلا هذا.
ومن شبابنا من لو أتيحت له مثل هذه الفرصة لطلب زوجة حسناء يتزوجها، أو شقة يسكن فيها، أو مالا ليغتني ويتمتع بمتع الحياة..
ومنهم من هو دون ذلك في همته فتتطلع نفسه إلى رؤية اللاعب الفلاني، أو الممثل العلاني، أو مشهور من المشاهير.. فسبحان من فاوت بين الهمم.
عكاشة بن محصن رضي الله عنه كان في مجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه يقول: (إن من أمتي سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب).. فتطلعت همته ليكون واحدًا منهم، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم.. قال: أنت منهم. ففاز بها ونجا من الحساب ببركة نيته وعلو همته.
أبو بكر رضي الله عنه يسمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (مَن أَنفَقَ زوجَينِ في سبيلِ اللهِ، نودِيَ من أبوابِ الجنةِ : يا عبدَ اللهِ هذا خيرٌ، فمَن كان من أهلِ الصلاةِ دُعِيَ من بابِ الصلاةِ، ومَن كان من أهلِ الجهادِ دُعِيَ من بابِ الجهادِ، ومَن كان من أهلِ الصيامِ دُعِيَ من بابِ الرَّيَّانِ، ومَن كان من أهلِ الصدقةِ دُعِيَ من بابِ الصدقةِ . فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه : بأبي وأمي يا رسولَ اللهِ، ما على مَن دُعِيَ من تلك الأبوابِ من ضرورةٍ، فهل يُدْعَى أحد من تلك الأبوابِ كلِّها ؟ . قال : نعم، وأرجو أن تكونَ منهم) [متفق عليه].
وفي يوم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي. فقال أبو بكر: وددت والله أني كنت معكم فأنظر إليه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل منه من أمتي)رواه أبو داوود.
لقد علت هممهم فانتفعوا بها، وورَّثوها أبناءهم. فعلت همم أبنائهم حتى شابهت هممهم:
هذا عمير بن أبي وقاص أخو سعد رضي الله عنهما، يراه أخوه سعد يوم أحد يتخفى، فيقول له: مالك؟ قال: أخشى أن يراني النبي صلى الله عليه وسلم فيستصغرني فيردني، وأنا أريد الشهادة. فرآه النبي فرده، فبكى، فقال سعد: والله يارسول الله إنه ليرجو أن يستشهد، فأجازه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقاتل ونال الشهادة التي كان يطلبها.. هذا وهو ابن خمس عشرة سنة، أو أبن ستة عشر عاما.
أسامة بن زيد يقود جيشا فيه أبو بكر وعمر، وهو ابن ثمان عشرة سنة.
محمد بن القاسم الثقفي، يفتح بلاد السند والهند وهو شاب ابن سبع عشرة سنة..
النفس على ما عودتها:
إن النفس إذا عودتها المعالي تعوَّدَتْها، وإذا نزلت بها إلى السفاسف ربما رضيتها وقبلتها.. فاسمُ إلى المعالي والقمم، وإياك والرضى بالدون فإن الراضي بالدون دنئ.
لو كانت النبوة مما ينال بالسعي، لكان على العاقل عالي الهمة أن يسعى لتحصيلها ولا يرضى بالولاية، ومن تيسرت له الكمالات فتركها لحقه الذم والعيب
ولم أر في عيوب الناس عيبا .. .. كنقص القادرين على الكمال
أعلى المطالب وأدناها
أعلى المطالب وأزكاها أن تطلب الله ورضاه، وتسعى لتحصيل جواره ليس في الجنة فحسب، بل في الفردوس الأعلى، فإنه أوسط الجنة وأعلاها، وسقفه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة.
وأحقر المطالب وأدناها ما كانت نهايته إلى المزابل والحشوش، شهوة بطن أو شهوة فرج، خاصة إذا كانت من حرام.. فإنما هذه همة الحيوانات والكفار.. وفي الأثر: "يأتي على الناس زمان همة أحدهم بطنُه، ودينُه هواه"، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}[محمد:12}.
المعالى لا تنال بالأماني
إنما تنال المعالي بالسعي والعمل، لا بالأماني والكسل، وإنما الأماني رأس مال المفاليس.
لما قال ربيعة للنبي صلى الله عليه وسلم: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: (أعني على نفسك بكثرة والسجود).
وقال لابن عمر: (نعم الرجل عبد الله.. لو كان يقوم الليل).
وإنما كان أبو بكر أفضل هذه الأمة؛ لأنه كان أعلاهم همةً وأحسنَهم عملا.
قال علي وعمر: ما سابقنا أبا بكر إلى خير إلا سبقنا إليه.
فإذا أردت أن يحبك الله فاطلب المعالى واسعَ إليها، ودعِ السفاسفَ وترفعْ عنها؛ فـ (إن الله تعالى يحب معالى الأمور ويكره سفسافها).