تصرفات الأعراب ومعالجة السنة النبوية لها

20/06/2023| إسلام ويب

التنوع في المجتمع يؤدي إلى تنوع الخبرات، وتوافر المهارات، وكل بيئة بشرية لا تقوم إلا على هذا التنوع المؤدي إلى تكافؤ الفرص، واكتمال التركيبة البشرية القائمة على تبادل المنافع، وتوزيع المواقع، فهم بين غني وفقير، وعالم وجاهل، وحاضر وباد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معنيا باستصلاح الجميع، ومعالجة أحوالهم، وتوجيه سلوكياتهم، وكان من جملة التنوع في المجتمع النبوي وجود ما يسمى بالأعراب، وهم كبقية شرائح المجتمع فيهم من الخصال ما يمدحون عليه، وفيهم من السلوكيات التي تحتاج إلى المعالجات التربوية، والتوجيهات السلوكية. 

من هم الأعراب؟

 الجواب: هم ساكنو البادية من العرب، الذين لا يقيمون في الأمصار، قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: لفظ الأعراب هو في الأصل اسم لبادية العرب، فإن كل أمة لها بادية وحاضرة، فبادية العرب الأعراب، وبادية الروم الأرمن، وبادية الفرس الأكراد، وبادية الترك التتار.

 ولما كان الأعراب بهذا الحال فقد اجتمع فيهم من الصفات ما يذمون عليه، كما أن فيهم من الخصال ما يمدحون عليه من الشجاعة والكرم والوفاء، وغيرها، ولذلك روي عن ابن سيرين كما في الدر المنثور للسيوطي: من قرأ آية (الأعراب أشد كفرا ونفاقا...) فليقرأ بعدها: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول...) [التوبة 97-99] 

 لكن طبيعة عيشهم القائمة على التنقل في البوادي، والبحث عن مواقع القطر والكلأ ولد عندهم من الجفوة والقسوة، قال ابن كثير في تفسيره: ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي، لم يبعث الله منهم رسولا، وإنما كانت البعثة من أهل القرى، كما قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) [يوسف 109]

إضافة إلى ما لحق بهم من الجهل بأمور كثيرة يعلمها أهل الحواضر القريبين من مصادر العلم، وكان ذلك ظاهرا في روايات السنة، والسؤال كيف تعامل معهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف عالج سلوكياتهم التي كانت تظهر منهم من حين لآخر؟

 الاهتمام بهم وعدم إهمالهم:

 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وقد أبرزت لنا الروايات من اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالأعراب، والتلطف بهم الشيء الكثير، فقد كان يعلم صلى الله عليه وسلم جودة معادنهم، ورغبتهم في الخير، وتمسكهم به إذا هم علموه ودخلوا فيه.

 فكان يعرض عليهم الإيمان بالله، ويحثهم على الدخول في الإسلام، ويعرض عليهم الأركان والفرائض دون التفاصيل التي لا تتناسب مع طبيعة تفكيرهم.

 ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: «تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا، فلما ولى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا».

 وفي مسند الدارمي بسند صحيح عن ابن عمر، رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا منه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين تريد؟» قال: إلى أهلي قال: «هل لك في خير؟» قال: وما هو؟ قال: «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله» فقال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال: «هذه السلمة» فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بشاطئ الوادي فأقبلت تخد الأرض خدا حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا، فشهدت ثلاثا أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها ورجع الأعرابي إلى قومه، وقال: إن اتبعوني أتيتك بهم، وإلا رجعت، فكنت معك.

 وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجههم بما يتناسب وفق بيئتهم، ويقبل منهم ما لا يقبل من غيرهم، ففي الصحيحين عن أبي سعيد، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الهجرة، فقال: «ويحك إن الهجرة شأنها شديد، فهل لك من إبل؟» قال: نعم، قال: «فتعطي صدقتها؟» ، قال: نعم، قال: «فهل تمنح منها شيئا؟» ، قال: نعم، قال: «فتحلبها يوم وردها؟» ، قال: نعم، قال: «فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئا».

 استقبال أسئلتهم والجواب بما ينفعهم:

 ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: «أين - أراه - السائل عن الساعة» قال: ها أنا يا رسول الله، قال: «فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» ، قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة».

 احتمال أخطائهم والتجاوز عن تصرفاتهم مهما كبرت:

 ففي صحيح البخاري أيضا أن أبا هريرة، قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين».

 وفي الصحيحين أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أخبر: أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة وعلق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: " إن هذا اخترط علي سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله، - ثلاثا - " ولم يعاقبه وجلس.

 وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، «فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء».

 إكرامهم وعدم التفريق بينهم وبين بقية الصحابة:

 ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنها حلبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة داجن، وهي في دار أنس بن مالك، وشيب لبنها بماء من البئر التي في دار أنس، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم القدح، فشرب منه حتى إذا نزع القدح من فيه، وعلى يساره أبو بكر، وعن يمينه أعرابي، فقال عمر: وخاف أن يعطيه الأعرابي، أعط أبا بكر يا رسول الله عندك، فأعطاه الأعرابي الذي على يمينه، ثم قال: «الأيمن فالأيمن».

وفي ذلك ما يكشف من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو قدم أبا بكر على الأعرابي مع كونه يمينه لكان ذلك مشعرا بقلة المبالاة به، ولفهم منه التمييز ضده مع كونه الأحق بالدور المعتاد، وربما أدى ذلك إلى نفوره، وقد كان كل ذلك متفهما لدى النبي صلى الله عليه وسلم فقدمه بالجهة على من له التقدم في الرتبة؛ إيناسا له وإكراما.

 مخاطبتهم بالأساليب التي يعقلونها:

 في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال: «هل لك من إبل» قال: نعم، قال: «ما ألوانها» قال: حمر، قال: «هل فيها من أورق» قال: نعم، قال: «فأنى كان ذلك» قال: أراه عرق نزعه، قال: «فلعل ابنك هذا نزعه عرق».

 الإنصات لهم لأجل تعليمهم:

 في صحيح البخاري عن أنس بن مالك، يقول: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أجبتك» . فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك؟ فقال: «سل عما بدا لك» فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: «اللهم نعم» . قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: «اللهم نعم». قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: «اللهم نعم» . قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم نعم» . فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر

وقد ورد في الصحيح أنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فترك خطبته حتى انتهى إليه قال: فجعل يعلمني مما علمه الله.

 التعليم بالفعل:
 
وربما كان يفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أحد الأعراب يسأله عن المسألة من العلم فيعلم أنه يحتاج إلى التعليم بالتطبيق العملي فيطبق له أمام عينيه حتى يعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله وفعله.

ففي سنن النسائي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثا ثلاثا، ثم قال: «هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم».

وبذا يتبين من مجموع هذه الروايات -وهي غيض من فيض- مدى اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالمعالجات التربوية والتعليمية لكل من كان محتاجا إليها، ويتضح بجلاء معالم الحكمة النبوية في استخدام الأسلوب الأمثل مع كل إنسان بما يتناسب مع معارفه وتركيبته العقلية والاجتماعية، فهو لا يتعامل مع القادم من البادية كما يتعامل مع من أتيحت له الظروف أن يكون ساكنا في الحاضرة، سواء في الأسلوب أو في نوعية المعرفة التي يوجهها إليه، وهو منهج في غاية الأهمية يلزم من يعمل على استصلاح المجتمع وتوجيهه.

www.islamweb.net