الحالة الاجتماعية والخُلُقية للعرب في الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية انطوت على الجهل والشِرك، والفساد الأخلاقي والاجتماعي، فقد تفشت فيهم عِلل وأدْواء أخلاقية كثيرة، كشرب الخمر والميسر، وانتشار الرِّبَا بشكل كبير، وشاعت فيهم الغارات وقطع الطريق على القوافل، والعصبية والظلم، وسفك الدماء، واغتصاب الأموال، وأكل مال اليتامى، كما كان للزِّنا الكثير من الصور في المجتمعات العربية قبل الإسلام.. وعلى الرّغم من تلك الصّفات الذّميمة، وهذا السوء والفساد الأخلاقي والاجتماعي عند العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنّ العرب كانت لهم بعض الخصال الحسنة مثل: احترام وتوقير الحَرم والأشهر الحُرُم، والصدق والوفاء بالعهد، والجود والكرم، والصبر والتحمل، والشجاعة والنجدة، وعدم قبول الذل والمهانة، وتقرير مبدأ الحماية والأمان لمن يطلبهما، وهي خصال امتازت بها العرب، وفي أشعارهم وأقاصيصهم شواهد على ذلك.
ويصف لنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أحوال الناس في مكة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فيقول للنجاشي ملك الحبشة: "أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصِلة الرَحِم، وحُسن الجوار".
ولا شيء أوضح في وصف الحالة الاجتماعية والخُلقية للجزيرة العربية فبل البعثة النبوية من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بين يدي "يَزْدَجْرِد" ملك الفرس الذي قال للمغيرة في معركة القادسية ـ كما ذكر ذلك ابن كثير في "البداية والنهاية": "إني لا أعلم في الارض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكِل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، لا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم. فإن كان عددكم كُثر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجَهد (الفقر) دعاكم فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملَّكْنا عليكم ملكا يرفق بكم. فأسكت القوم فقام المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فقال: أيها الملك، إن هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الاشرافَ الأشرافُ، ويعظم حقوق الاشرافِ الأشراف، وليس كل ما أرسلوا له جمعوه لك، ولا كل ما تكلمتَ به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك، فجاوبني فأكون أنا الذي أبلغك ويشهدون على ذلك. إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالما، فأما ما ذكرتَ مِن سوء الحال فما كان أسوأ حالا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجُعلان والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الارض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الابل وأشعار الغنم.. ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه، وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرتُ لك، فبعث الله إلينا رجلاً معروفاً (محمداً صلى الله عليه وسلم) نعرف نسَبَه ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته خير بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو نفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا".
ويتمثل الفساد الأخلاقي والاجتماعي الذي كان موجوداً في الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية في مظاهر وصور كثيرة، منها:
حال المرأة قبل البعثة النبوية:
لم يحترم العرب المرأة في الجاهليّة، بل عاملوها كما يعامل متاع الرّجل، فهي عندهم لا ترث، وقد تعرضت المرأة لأبشع صنوف الإهانة والتحقير في الجاهلية، إذ كانوا يحرمونها من الميراث مطلقاً، فلا نصيب لها فيما يتركه ولدها، أو والدها، أو أمها من مال، ولو عَظم، بل كانوا يعاملونها على أنها سلعة تورث. وكانوا يجبرونها على الزواج بمن تكره، أو يمنعونها من الزواج، وإذا مات الرجل منهم كان أولياؤه أحقّ بامرأته (زوجته) من أهلها، إن أراد أحد منهم أن يتزوجها تزوجها، وإن أرادوا تزويجها زوّجوها، وإن لم يريدوا تزويجها لم تتزوج، وإلى ذلك الإشارة في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً}(النساء:19). قال ابن كثير: "قال ابن عباس: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك". وفي رواية: "إن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها".
وكانت المرأة إذا مات عنها زوجها أهملت نفسها ومرّغت نفسها بالتّراب. قالت زينب بنت أبي سلمة: "كانت المرأة إذا تُوُفِّىَ عنها زَوْجُهَا دخلتْ حِفْشاً (بيتا صغيرا)، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثيابها، ولم تمَسَّ طِيباً حتى تمر بها سنة، ثم تُؤْتَى بِدَابَّةٍ ـ حِمَار أَوْ شَاة أو طَائر ـ فتفْتضُّ بِه (تمسح به جلدها)، فَقَلَّما تَفْتَضُّ بِشَىْء إِلاَّ مات، ثمَّ تخْرُجُ فَتُعْطَى بَعَرَةً (روثة من الحيوان) فترْمِى" رواه البخاري. وفي ذلك ما كان عليه أهل الجاهلية من الجهل العظيم، وكيف كانت المرأة تمكث سنة حدادا على زوجها بهذه الطريقة السيئة.
ومن المعروف ـ في الجاهلية وقبل البعثة النبوية ـ أنهم كانوا يعددون بين الزوجات من غير حد معروف ينتهي إليه، وكانوا يجمعون بين الأختين، ويتزوجون بزوجة آبائهم إذا طلقوها أو ماتوا عنها، وكانت فاحشة الزنا سائدة في جميع الأوساط، إلا القليل من الرجال والنساء ممن كان تعَاظم نفوسهم يَأْبَى الوقوع في هذه الرذيلة. وكان النكاح (الزواج) عندهم على صورٍ أربعة، لا يعيب بعضهم على بعض إتيانها. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن النكاح في الجاهلية كان على أربع أنحاء (أنواع): فنكاح منها نكاح اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها (المهر) ثم ينكحها. ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها (حيضها): أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه (اطلبي منه المُباضعة وهي المجامعة)، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد (ليكون نفيساً في نوعه)، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع. ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها (يجامعها)، فإذا حملت، ووضعت، ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل. والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها، وهنَّ البغايا (جمع بغي وهي الزانية) كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا (علامة)، فمن أرادهنَّ دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة (الذي ينظر في الملامح ويُلحق الولد بمن يرى أنه والده)، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه (فالتحق) به، ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك. فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هَدَمَ نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم) رواه البخاري.
وقد غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصور والعادات والأحكام الجاهلية التي كانت تهين المرأة ولا تعرف قدْرها ومنزلتها، وأبدلهم خيراً منها.. فأصبحت المرأة في ظل الإسلام لها مكانة عظيمة، فهي عِرْضٌ يصان، ومخلوق له قدْره وكرامته. والناظر والمتأمل في سيرة وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه أعطى المرأة جانبا كبيرا من اهتمامه وأحاديثه ووصاياه، وأحاطها بالرعاية والعناية، وخصَّها بالتكريم وحُسْن المعاملة ـ أُمًّا وزوجة وابنة ـ، وقد بلغ من شدة اهتمامه صلوات الله وسلامه عليه وسلم بالمرأة أن أوصى بها في خطبته في حجة الوداع قبيل وفاته بقوله: (استوصوا بالنساء خيرا).
وأْدِ البنات:
وأد البنات وهو دفنهن وهُنَّ أحياء، كان عادة وجريمة بشعة، موجودة عند العرب قبل البعثة النبوية، لأنهم في الجاهلية كانوا لا يحبون البنات، ويترقبون الأولاد، للوقوف إلى جانبهم ومساندتهم في حياتهم وحروبهم، وكان عدم حبهم للبنت والخوف من عارها يحمل بعضهم على كراهتها، بل وعلى قتلها ووأْدِها، كما قال الله تعالى عن ذلك: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}(النحل: 59:58)، وقال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}(التكوير:9:8).
ولما بعث الله عز وجل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، جرَّم وحرَّم هذه الفِعلة الشنعاء وهي وأد البنات، بل وأمر بإكرام البنت والعناية والاهتمام بها. عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات، وَمَنْعاً وهات، ووَأد البنات، وكَرِهَ لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ وُلِدَتْ له ابنةٌ فلم يئِدْها ولم يُهنْها، ولم يُؤثرْ ولَده عليها ـ يعني الذكَرَ ـ أدخلَه اللهُ بها الجنة) رواه أحمد.. بل وأصبحت البنات في ظل البعثة النبوية نعمة من نعم الله تعالى علينا، متى ما قمنا بما افترضه الله علينا من الإحسان إليهن، وحُسْن تربيتهن.. فلم يكتفِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالنهي الشديد عن وأد البنات، بل جاء معتنياً بهن، بغية تصحيح مسار البشرية وإعادتها إلى طريق الإنسانية والرحمة، وتكريماً للبنات وحماية لهن، وحفظاً لحقوقهن، بل ووعد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يرعاهن ويحسن إليهن بالأجر الجزيل والمنزلة العالية. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(مَنْ عال (قام بتربية) جاريتين (بنتين) حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه) رواه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن كان له ثلاثُ بناتٍ أو ثلاثُ أخَوات، أو ابنتان أو أُختان، فأحسَن صُحبتَهنَّ واتَّقى اللهَ فيهنَّ َفلهُ الجنَّةَ) رواه الترمذي.
هذا بعض ما كانت عليه الحالة الاجتماعية والأخلاقية قبل البعثة النبوية، فإذا ما اجتمع لذلك عبادة الأصنام، وانتشار الربا، والميسر، وشرب الخمور، والظلم، وسفك الدماء، واغتصاب الأموال، وأكل مال اليتامى، عُلِم عِظم وقدْر النعمة الربانية على البشرية عامة وعلى الجزيرة العربية خاصة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(الجمعة:2). قال السعدي: "امتن الله تعالى عليهم منَّةً عظيمة، أعظم مِن مِنته على غيرهم، لأنهم عادمون للعلم والخير، وكانوا في ضلال مبين، يتعبّدون للأشجار والأصنام والأحجار، ويتخلّقون بأخلاق السباع الضارية، يأكل قويهم ضعيفهم، وقد كانوا في غاية الجهل بعلوم الأنبياء، فبعث الله رسولا منهم، يعرفون نسبه وأوصافه الجميلة وصدقه، وأنزل عليه كتابه". وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107).. قال ابن كثير: "يخبر تعالى أن الله جَعَل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلَّهم، فمن قَبِل هذه الرحمةَ وشكَر هذه النعمةَ، سَعد في الدنيا والآخرة، ومن رَدَّها وجَحَدَها خَسِر في الدنيا والآخرة". وقال الشنقيطيّ: "ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما أرسل هذا النَّبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى الخلائق إلا رحمة لهم، لأنه جاءهم بما يُسعدهم، وينالون به كل خيرٍ مِن خير الدنيا والآخرة إنِ اتبعوه، ومَنْ خالف ولم يتبع فهو الذي ضيَّع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة العظمى".
لقد كانت الجزيرة العربية قبل مجيء الإسلام في شرِّ حالٍ، فلما امتنَّ الله عز وجل عليهم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وصاروا من أهله وأبنائه: أصبحوا على خير حال، وسادوا الأمم، وأصبحوا خير أمة أخرجت للناس..