الإيمان بالله عز وجل ووجوده، أمر لا شك ولا جدال فيه عند أصحاب العقول السليمة والفِطَر السوية، ومع ذلك فالمجتمعات الإنسانية لا تخلو من وجود فئة قليلة مُلْحِدة، تنكر وجود الله تعالى، متمردة على الفطرة الثابتة في نفوس البشر والخَلق جميعاً بوجود الله عز وجل.. وما يظهر مِن بعض الملحدين من الكفر بالله، والاستهزاء بالعقائد والغيْبيات والأديان، لا يعني أنه مَبْني على يقين عندهم بعدم وجود إله واحد خالق ومدبر لهذا الكون، ومصرف لأموره، وإنما هو مُكابَرة منهم وتحويل للفطرة التي فطر الله الناس عليها من الإيمان به سبحانه، وكل ما يفعله هؤلاء الملحدون هو إلقاء شبه وأدلة واهية واضحة البطلان لِمَن كان له عقل سليم وفِطْرة سوية.
والمقصود بالفِطْرة ما جَبَل اللهُ عز وجل الإنسانَ عليه في أصل الخِلقة من معرفته بربه سبحانه، والإيمان به، ومحبته للخير وكراهيته للشر، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(الروم:30). قال عبد الله بن عباس: "{فِطْرَتَ اللَّهِ} دين الله {الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا} الَّتِي خلق النَّاس عَلَيْهَا فِي بطُون أمهاتهم". وقال ابن كثير: "..لازِم فطرتك السليمة، التي فطر الله الخَلْقَ عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره"، وقال ابن عطية: "والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أي: (الفطرة) أنها الخِلقة والهيئة التي في نفس الإنسان، التي هي مُعَدَّة ومهيئة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه". فكلّ مخلوقٍ فُطِر على الإيمان بالله عز وجل، ووجوده سبحانه من غير تفكير أو تعليم، ولا يجهل أو ينكر وجود الله إلا من انتكست فطرته، إذْ ما مِنْ شيء إلا وهو أثر من آثار قدرته.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما مِن مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه) رواه البخاري. قال السيوطي والقاضي عياض وغيرهما: المراد بالفطرة المذكورة في الحديث: ما أُخِذ عليهم وهم في أصلاب آبائهم.
وقال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}(الأعراف:172): "يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو. كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(الروم:30). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)". وقال السعدي: "أي: قرَّرَهم بإثبات ربوبيته، بما أودعه في فِطرهم من الإقرار، بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم. قالوا: بلى قد أقررنا بذلك، فإن الله تعالى فطر عباده على الدين الحنيف القيم. فكل أحد فهو مفطور على ذلك، ولكن الفطرة قد تغير وتبدل بما يطرأ عليها من العقائد الفاسدة".
إن وجود الله عز وجل من الأمور المتعمقة في الفطَرة البشرية السوية، فكل إنسان يشعر ويوقن داخل نفسه بأنّ له ربَّاً وخالقاً، ويشعر بعظيم الحاجة إليه، فيتجه بيديه وعينيه وقلبه إلى السماء، لطلب العون من ربه سبحانه. والناس جميعا ـ المؤمن منهم والكافر ـ يشتركون في اللجوء إلى الله الخالق سبحانه عند الشدائد، فالإنسان ولو كان مشركاً أو ملحداً يفزع عند المصيبة إلى ربه سبحانه، ويلتجئ إليه وحده دون غيره من المعبودات الباطلة، ويشعر في قرارة قلبه بافتقاره واحتياجه إلى ربه، وإن أظهر غير ذلك جهلا وتكبرا منه واعتزازا بالإثم.. ومن ثم فرجوع الإنسان إلى ربه سبحانه عند الشدة، برهان جلي على أن فطرته مقرة بوجود الله وربوبيته، وإن أظهر حال الرخاء عكس ذلك. فالفطرة السوية وإن غشيتها غاشية وضباب الإلحاد، تهتدي إلى الإيمان بوجود الله عز وجل وتفرده تعالى بالألوهية ويظهر ذلك في أوقات الشدة والمحنة عند الكثير من المشركين والملحدين، فإن القلب بفطرته يفزع إلى خالقه، ويلجأ إلى بارئه عند حلول الحوادث العظام والخطوب الجسام. وقد قرر القرآن الكريم هذا المعنى في قول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}(يونس:12). قال السعدي: "وهذا إخبار عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه إذا مسه ضر، من مرض أو مصيبة اجتهد في الدعاء، وسأل الله في جميع أحواله، قائما وقاعدا ومضطجعا، وألح في الدعاء ليكشف الله عنه ضره. {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} أي: استمر في غفلته معرضا عن ربه، كأنه ما جاءه ضره، فكشفه الله عنه، فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟!! يطلب من الله قضاء غرضه، فإذا أناله إياه لم ينظر إلى حق ربه، وكأنه ليس عليه لله حق. وهذا تزيين من الشيطان، زين له ما كان مُسْتَهْجَنًا مُسْتَقْبَحًا في العقول والفِطر". ومن ثم فالقول بفطرية الاعتقاد والإيمان بوجود الله عز وجل أمر يقرّ به الصغير والكبير، ومن ينكر وجود الله تعالى يخالف الفطرة السليمة..
وقد كانت دعوة الأنبياء والرسل جميعاً ـ لتوحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ـ تنبثق من هذا الأصل وهو فِطرية الإيمان بالله، قال الله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}(إيراهيم:10). قال ابن كثير: "يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة، وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاءوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له، قالت الرسل: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} وهذا يحتمل شيئين، أحدهما: أفي وجوده شك، فإن الفِطر شاهدة بوجوده، ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده؛ ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الذي خلقها وابتدعها على غير مثال سبق، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليها، فلا بد لها من صانع، وهو الله لا إله إلا هو، خالق كل شيء وإلهه ومليكه. والمعنى الثاني في قولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} أي: أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك، وهو الخالق لجميع الموجودات، ولا يستحق العبادة إلا هو، وحده لا شريك له، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى".
إن إنكار وجود الله دعوى واهية لا دليل عليها، بل الفطرة السوية ومعها الأدلة العلمية والعقلية والشرعية تناقضها، وتقضي بوجود الخالق سبحانه وتعالى ووحدانيته. فوجود الله تعالى دل عليه العقل السليم والفطرة السوية، فضلاً عن الأدلة الشرعية الكثيرة التي تدل على وجوده سبحانه. والأدلة التي يرشد إليها القرآن الكريم على وجود الله تعالى إنما تكون للمؤمن ليزداد معرفة بالله وعظمته وكمال قدرته، وهي كذلك ـ الأدلة القرآنية على وجود الله ـ هادية ومرشدة لمن فسدت فطرته للعودة إلى الفطرة السوية التي ابتعد عنها وتنكر لها. قال ابن تيمية: "الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة''. وقال: "الإقرار بالخالق وكماله يكون فطرياً في حق مَنْ سَلمَت فطرته، وإن كان مع ذلك قد تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة وأحوال تعرض لها"..
والإسلام بعقائده وأخلاقه وشريعته موافق للفطرة لا يعارضها، بل كلما كانت العقائد والأحكام بعيدة عن الإسلام، كانت معارضة للفطرة الصحيحة مضادة لها، فالإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لجميع البشر، وبه ختم الله جميع الرسالات، قال الله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(المائدة:3). وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(85}. قال ابن تيمية: "ومثل الفطرة مع الحق مثل ضوء العين مع الشمس، وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس، والاعتقادات الباطلة العارضة من تهوُّد وتنصُّر وتمجُّس مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس، وكذلك أيضاً كل ذي حس سليم يحب الحلو إلا أن يعرض في الطبيعة فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مراً، ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالعقل، فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاَ، ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق الذي هو الإسلام بحيث لو تُرِك من غير مغير لما كان إلا مسلماً، وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع.. هي فِطرة الله التي فَطَر الناس عليها".
الإيمان بالله عز وجل ووجوده، أمر لا شك ولا جدال فيه عند أصحاب الفِطر السوية، ولا يحتاج إلى دليل، وأما مَنْ تعرَّض لأعاصير الشبهات والانحراف والانتكاس حتى اقْتُلِعَت الفطرة السليمة مِن قلبه وأنكر وجود الله عز وجل، فإنه يحتاج إلى نَصْب الأدلة العقلية، وجَمْع البراهين العلمية، ويحتاج إلى النظر والبحث والتأمل داخل نفسه وفِطْرته، وفي الدلائل الكونية والآيات القرآنية، وسيجد في ذلك كله الكثير من الدلائل الواضحة والبراهين الساطعة على وجود الله عز وجل والإيمان به سبحانه..