مقصد مكافحة الفساد المالي في السنة النبوية
02/01/2022| إسلام ويب
اهتمت السنة النبوية بإدارة المال وتنميته وربط ذلك بالأخلاق والقيم، ومقاصد الشريعة الإسلامية، ولا غرابة فالمال هو أحد ركائز العيش، وهو قوام الحياة، وبه تتحقق بعض أركان الإسلام، وشعائر الدين، ولذلك كانت السنة النبوية هي المورد الخصب للجانب المالي العملي، ومنها يستمد المسلم كثيرا من القيم والأخلاق المرتبطة بالنشاط الاقتصادي، حتى يتحقق المقصد الأسمى من المال، ويحصل به الرفاه والعيش الكريم.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، وضعت السنة النبوية أسس الرقابة المالية التي تحفظ المعاملات المالية من الفساد جريا وراء الرغبات المادية، وقدمت أوضح نموذج للضبط الإداري - حسب المصطلح المعاصر-، وتميزت باستصلاح الضمائر والقلوب، بحيث أسست في النفوس رقابة ذاتية على مستوى الفرد والجماعة.
ففي حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار» أخرجه ابن حبان في صحيحه، وحسنه الألباني.
وقصة هذا الحديث تدلنا على الدور الرقابي الذي كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم في ملاحظة النشاط الاقتصادي في سوق المدينة، كما في معجم الطبراني عن أنس بن مالك قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق، فرأى طعاما مصبرا، فأدخل يده فيه، فأخرج طعاما رطبا قد أصابته السماء، فقال لصاحبه: «ما حملك على هذا؟» قال: والذي بعثك بالحق، إنه لطعام واحد قال: «أفلا عزلت الرطب على حدة، واليابس على حدة، فيبتاعون ما يعرفون»، ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم قانون الرقابة الذاتية «من غشنا فليس منا».
وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من التوجيهات التي سد بها أبواب الفساد المالي على من كان يستعملهم في المناصب العامة، وربط الأمر بالمصير الأخروي، وهذا أكثر أثرا من ربط النفوس بالقوانين والعقوبات الدنيوية، من ذلك ما ورد في حديث عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول" , رواه ابن خزيمة، قال الأعظمي: إسناده صحيح.
وفي حديث عدي بن عميرة الكندي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل منكم لنا على عمل، فكتمنا منه مخيطا فما فوقه، فهو غل يأتي به يوم القيامة". فقال رجل من الأنصار أسود كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله! اقبل مني عملك. قال: "لِمَ؟ " قال: سمعتك تقول كذا كذا. قال: "وأنا أقول ذلك، من استعملناه على عمل، فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذه وما نهى عنه انتهى". رواه الإمام أحمد، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
وفي الصحيحين عن عمر - رضي الله عنه -: "لَمَّا كان يوم "خَيْبر" أقْبَلَ نفرٌ من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم- فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مرُّوا على رجلٍ، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "كلاَّ؛ إني رأيْتُه في النار في بُرْدَة غَلَّها أو عَبَاءَة" ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا ابن الخطاب، اذْهَبْ فنادِ في الناس، أنَّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون" ، قال: فخرجتُ، فناديتُ: ألاَ إنَّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون".
كما ركزت السنة على حماية الأموال العامة من التغول والفساد؛ لكون الملكية فيها للعموم، وربما كان ذلك سببا في جرأة النفوس عليها، وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم موقعه من تلك الأموال، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت».
قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: وليس لولاة الأموال أنْ يَقْسموها بحسب أهوائهم، كما يَقسم المالك مِلْكَه، فإنَّما هم أُمَناء ونوَّاب ووُكلاء، ليسوا مُلاَّكًا، فهذا رسول ربِّ العالمين، قد أخْبَرَ أنه ليس المنْعُ والعطاء بإرادته واختياره، كما يَفعل ذلك المالك الذي أُبيح له التصرُّف في ماله. اهـ .
ومن الفساد المالي الذي نبهت عليه السنة النبوية، وشددت الوعيد على من فعله، جريمة منع الزكاة، إذ هي حق واجب، وطهرة للمال، وسبب لنمائه، وقد كان هذا التركيز مبنيا على إدراك لطبائع الإنسان الهلوع، وهو الجموع المنوع، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ، إِلَّا أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ، وَجَبِينُهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، إِلَّا بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ، تَسْتَنُّ عَلَيْهِ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ، لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلَّا بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ فَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ».
وهكذا نبهت السنة على كثير من التجاوزات المالية المحرمة، كالربا، والغرر، والاحتكار، والقمار، والإسراف، والرشوة، والغلول، والسرقة، والنجش، وتلقي الركبان، وبيع حاضر لباد، وإنفاق السلعة بالأيمان الكاذبة، والكذب كتمان العيوب... الى آخر ما يحصل بين الناس من التصرفات التي نهت عنها السنة النبوية، رعاية لمقصد مكافحة الفساد المالي، ومحاربة كل مظاهره، وكبح جماح الأنفس البشرية وردع أنانيتها السلبية، وفي مثل هذه التشريعات انتظام الحياة، واستقرار الأرزاق.
وحين أهملت النظم الاقتصادية مثل هذه التشريعات العادلة، فسدت أسواق المسلمين، وأحاطت بهم الأزمات المالية، والمشاكل الاقتصادية المعقدة، والواقع شاهد على ذلك.