الصوم عند المسيحيين يطول شرحه وتفصيله؛ لأن الديانة المسيحية هي من أقل الديانات تشريعاً فقهيًّا، وأحكاماً كلية، تشمل أدوار التاريخ والمجتمعات المسيحية، والطوائف الدينية كلها، وأكثرها تطوراً مع الزمن والعوامل السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية أحياناً؛ ولذلك يصعُبُ أن يطلق عليها اسم شريعة إلهية، ويمكن تقديم صورة موجزة عن الصوم عند المسيحيين، وما مرَّ به من أدوار وأطوار:
المسيح صام أربعين يوماً قبل أن تبدأ رسالته، ومن المرجح أنه كان يصوم يوم الكفارة، الذي كان الصوم المفروض في الشريعة الموسوية، ككل يهودي مخلص، إنه لم يشرع أحكاماً للصوم، إنه خلَّف المبادئ، وترك كنيسته تُقنن قوانين لتطبيقها، وليس لأحد أن يزعم أنه أصدر قوانين عن الصوم رأساً، ففي المصادر المسيحية حديثاً عن صوم (بولس) والمسيحيين الأوليين، أن المسيحيين الذين كانوا في السلالة الإسرائيلية ظلوا يصومون يوم الكفارة، وينوه به الراهب (لوك Luke) كيوم يُحْتَفَلُ به، ولكن المسيحيين الذي ينتمون إلى أصول أخرى لم يُلِحُّوا على ذلك.
وبانتهاء القرن المسيحي الأول ونصف قرن بعد وفاة القديس (بولس) نجد رغبة ملحة في تقنين القوانين للصوم، وقد كان ذلك موكلاً إلى تقوى الصائم، نرى الرهبان وبعض رجال الكنيسة يقترحون صياماً ليقاوم به المسيحيون الإغراءات المادية والجنسية، وكان يسود في ذلك العصر شعور بالواجب، وتحذير من أن يظل الصوم عملاً خارجيًّا لا يؤثر في نفس الصائم، ويتحدث القديس (ايرينيس) عن أنواع من الصيام؛ منها ما يستغرق اليوم، ومنها ما يستغرق اليومين، أو بضعة أيام، ومنها ما كان يستغرق أربعين ساعة متوالية، وقد استمر هذا الوضع مدة طويلة، وكان صوم (جمعة الآلام) أو (الصلبوت) صوماً شعبيًّا عامًّا، وكان صوم يوم الأربعاء، ويوم الجمعة من كل أسبوع شائعاً في بعض الأقطار في القرن الثاني المسيحي، وكان الذين ينتظرون الاصطباغ (التعميد) يصومون يوماً أو يومين، وكان يشترك فيه الذين يأخذون الاصطباغ والذي يتولى ذلك.
وهنالك خلافات جزئية في مناهج الصوم وأحكامه في الطوائف المسيحية، وقد نال قسطاً كبيراً من التنظيم والتقنين في فترة بين القرن الثاني، والقرن الخامس المسيحيين؛ فقد أصدرت الكنيسة قائمة أحكام وتوجيهات عن الموضوع، وقد اتسم الصوم بصلابة وشدة في القرن الرابع، انتقل من طور الرقة والتوسع والمرونة إلى طور الصلابة والغلظة والتدقيق، وقد حُدد اليومان اللذان يسبقان (عيد الفصح) بالصوم في هذا العصر، وكان الصوم في هذين اليومين ينتهي في نصف الليل، والمرضى الذين لا يستطيعون أن يصوموا في هذين اليومين، كان يُسمح لهم أن يصوموا يوم (السبت) وقد سُجِّلت في تاريخ المسيحية والمسيحيين في القرن الثالث أيام الصوم، وكان هنالك اختلاف في نهاية الصوم؛ فكان بعضهم يُنهي ويُفطر عند صوت الديك، وبعضهم إذا أرخى الليل سدوله.
أما صوم أربعين يوماً، فلا يوجد له أثر إلى القرن الرابع الميلادي، وكانت هنالك عادات وأوضاع للصوم تختلف باختلاف البلاد التي يسكنها المسيحيون؛ فكان في (روما) صيام يختلف عن الصيام في (لانان) و(الإسكندرية) وكان بعضهم يمسك عن تناول الحيوانات خلافاً لغيره، وبعضهم يجتزئ بالسمك والطيور، وبعضهم يُضرب عن البيض والفواكه، وبعضهم يجتزئ بالخبز اليابس، وبعضهم يكُفُّ عن كل ذلك، وقد شُرعت أيام أخرى للصوم في القرون المتأخرة تذكاراً لحوادث وأيام تتصل بحياة المسيح، وبتاريخ المسيحية يطول عدُّها؛ منها ما يستغرق ثلاث ساعات، وأربعاً، يمسك فيها الصائم عن الأكل والشرب، وقد حددت أيام مختلفة في القرون الوسطى للصوم في العالم المسيحي، تطورت ِمع تقدم الزمن، وهي تختلف باختلاف الأقاليم والبلاد التي تحكم عليها الكنيسة المسيحية.
وبعد الإصلاح حددت الكنيسة الإنجليزية أيام الصوم، ولم تُقنِّن قوانين وحدوداً للصائمين، تاركة ذلك لضمير الفرد وشعوره بالمسؤولية، ولكن قوانين البرلمان الإنجليزي في عهد (إيدوارد السادس) و(جيمس الأول) و(مرسوم إليزابيت) فَرَضَ الإمساك عن اللحوم في أيام الصوم، وبرَّر ذلك بقوله: "إن صيد السمك، والتجارة البحرية يجب أن تشجع وتربح"؛ لذلك لما شرع الله الصوم في الإسلام، وفرضه على المسلمين، قال: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة:183).
* المقال للأستاذ أبي الحسن الندوي، ضمن كتاب (مقالات الإسلاميين في شهر رمضان الكريم/د.محمد موسى الشريف).