عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمِنُ عبدٌ حتَّى يُؤْمِنَ بأربعٍ: يشهَدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنِّي مُحمَّدٌ رسولُ اللَّهِ بَعثَني بالحقِّ، ويُؤمنُ بالموت، وبالبَعثِ بعدَ الموت، ويؤمِنُ بالقَدرِ) رواه الترمذي وصححه الألباني. وفي رواية: (وبالبَعثِ بعد الموت، وبالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه).
يُخبِرنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ أنَّه: لا يؤمِنُ عبدٌ، أي: لا يكون مؤمِناً، حتَّى يُؤمن بأربع، أي: بأربعة أشياء: (يشهد أن لا إله إلا الله)، أي: لا معبود بحَقٍّ إلَّا الله سبحانه، ويعلم ويَعتَقِدَ (أنِّي محمَّدٌ رسولُ الله بعَثَني بالحقِّ)، (ويؤمن بالموت) وأنَّه حقٌّ، وأنَّ الدُّنيا تَفْنى فلا يَبْقى منها شيء، فهي دارُ فناءٍ فلا تَبْقى، وأنَّ الموت يكون بأمر الله تعالى، (وبالبَعث)، أي: بوُقوع البعث والإحياء بعد الموت، وأنَّ الله تعالى يَبعَث مَن في القبور، ويُخرِجُهم مِنها للحشرِ والحساب، ويؤمِن أيضاً بالقدَر، وهو ما قدَّره اللهُ تعالى على عِباده مِن خَيرٍ أو شر، فمَن لم يُؤمِنْ بواحدٍ مِن هذه الأربعة لم يَكُنْ مُؤمنا.
قال السيوطي: "قال المظهري: "هذا نفي أصل الإيمان لا نفي الكمال".
وقال الهروي: "(لا يؤمن عبد): هذا نفي أصل الإيمان، أي: لا يُعتبر ما عنده من التصديق القلبي (حتى يؤمن بأربع: يشهد): أي: يعمل، ويتيقن (أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)، أي: يؤمن بالتوحيد والرسالة.. (بعثني بالحق): أي: إلى كافة الإنس والجن".
وقال الصنعاني: " قوله: (لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بأربع) أقول: لا يتصف بالإيمان الذي ينجي من العذاب ويستحق به الثواب، فأبهم الأربع، ثم فسرها بقوله: (يشهد أن لا إله إلا الله) أي: يُقر بلسانه مع اعتقاده بِجَنَانه (بقلبه). ويشهد أني محمد رسول الله كذلك أيضاً. وقوله: (بعثني بالحق) أي: أرسلني به.. والإيمان "بالموت" التصديق بأنه من عند الله، يرسل ملائكته لقبض الأرواح في الأجل الذي قدَّره لعباده، لا أنه كما يقوله الكفار: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}(الجاثية:24). والإيمان بالبعث التصديق: بأن الله يحيي العظام وهي رميم، وأنه يعيد الخلق كما بدأه، ويبعث من في القبور".
وقال الطيبي: "هذا نفي أصل الإيمان لا نفي الكمال، فمن لم يؤمن بواحد من هذه الأربعة لم يكن مؤمنا، أحدها: الإقرار بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بعثه بالحق إلى كافة الجن والإنس. الثاني: أن يؤمن بالموت حتى يعتقد أن الدنيا وأهلها تفنى، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}(الرَّحمن:26)، وهذا احتراز عن مذهب الدَهْرية (الدهرية هم الذين قال الله عنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}(الجاثية:24)).. ويحتمل أن يراد ب "الإيمان بالموت" أن يعتقد الرجل أن الموت يحصل بأمر الله لا بالطبيعة، خلافا للطبعي، فإنه يقول: يحصل الموت بفساد المزاج (بالمرض). الثالث: أن يؤمن بالبعث بعد الموت. والرابع: أن يؤمن بالقدر، يعني يعتقد أن جميع ما في العالم بقضاء الله وقدره.. فإن قلت: لم ذكر في الثلاث الأخيرة لفظة: (يؤمن) وذكر في الأولى لفظة (يشهد)؟ قلت: (يشهد) إلى آخر تفصيل لقوله: (حتى يؤمن بأربع)، فلن يكون التفصيل مخالفا للُمْجَمل، كأن أصل الكلام أن يقال: يؤمن بالله بأن الله واحد لا شريك له، وبأني رسول الله حقا، ويؤمن بكذا، ويؤمن بكذا، فعدل إلى لفظ الشهادة أمنا من الالتباس، ودلالة على أن النطق بالشهادتين أيضا ركن من الأركان، ولأن هذه الشهادة غاية للإيمان، ويتدرج منه إليه.. قوله: (يؤمن بالموت) أي يؤمن أن الموت حق، وأن البعث حق، وتكريم الموت إيذان باهتمام شأنه، فهو مثل قوله تعالى: {ثُمَّ إنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}(المؤمنون: 16:15) في أن المراد اهتمام شأن الموت، ثم الذي يليه من البعث".
الإيمان بالله تعالى، ومُلائكتِه، وكُتبه، ورُسله، واليوم الآخرِ، والقدَرِ خيرِه وشرِّه، هي أركان الإيمان الستة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور الذي بيَّن فيه معنى الإيمانِ والإسلام والإحسان، فقال صلى الله عليه وسلم في تعريفه للإيمان: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّه) رواه مسلم. ولا يقوم الإيمان إلا على هذه الأركان الستة، ولا يتم على الوجه الصحيح إلا بها، فلا يكون العبدُ مؤمناً حتَّى يؤمِنَ بهذه الأركانِ السِّتَّة، ومن جحد أحدها فليس بمؤمنٍ أصلاً، وذِكْر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأربعة (أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنِّي مُحمَّدٌ رسولُ اللَّهِ بَعثَني بالحقِّ، ويُؤمنُ بالموت، وبالبَعثِ بعدَ الموت، ويؤمِنُ بالقَدر) لا ينفي أهمِّيَّةَ ووجوب الإيمان بالملائكة والكتُبِ المنزَّلة على الرُّسل، وأنهما من أركان الإيمان، لأنَّ مَن آمَن بالله وبرسولِه محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، آمَن بكلِّ ما أخبَر به النَّبيُّ صلوات الله وسلامه عليه، وبكلِّ ما جاء في كِتابِ الله، فاستكمَل كلَّ أركانِ الإيمان، قال العيني:"الإيمان بالرسل مستلزم للإيمان بما أُنْزِل عليهم.
فائدة:
نفي الإيمان يأتي في الأحاديث النبوية ويراد به مَرَّةً: نفي أصل الإيمان، فيكون الشخص كافراً. ويراد به مرة أخرى: نفي كمال الإيمان، فيكون الشخص معه أصل الإيمان، فهو ليس كافراً، غير أنه ناقص الإيمان.
والأحاديث النبوية التي جاءت بنفي كمال الإيمان وليس أصل الإيمان كثيرة، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)، وقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده)، وقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فالمقصود من هذه الأحاديث وما شابهها نفي كمال الإيمان، وليس المراد بها الكفر ونفي أصل الإيمان، قال النووي: "قال العلماء رحمهم الله: معناه: لا يؤمن الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة"، وقال القرطبي: "معناه: أنه لا يتم إيمانُ أحد الإيمان التام الكامل"، وقال المباركفوري: "المراد نفي الكمال، أي: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يكون في متابعة الشرع"، وقال الهروي: "أي: لا يكمل إيمان من يدَّعي الإيمان، فالمراد بالنفي كمال الإيمان"، وقال ابن حجر: أي: إيمانا كاملا"، وقال المناوي: "أي: إيمانًا كاملًا".
ومن الأحاديث النبوية التي جاءت بنفي أصل الإيمان حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمِنُ عبدٌ حتَّى يُؤْمِنَ بأربعٍ: يشهَدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّه، وأنِّي مُحمَّدٌ رسولُ اللَّه بَعثَني بالحقِّ، ويُؤمنُ بالموت، وبالبَعث بعدَ الموت، ويؤمِنُ بالقدَرِ خيره وشره)، قال السيوطي: "قال المظهري: "هذا نفي أصل الإيمان لا نفي الكمال". وقال الهروي: "(لا يؤمن عبد): هذا نفي أصل الإيمان"، وقال الطيبي: "هذا نفي أصل الإيمان لا نفي الكمال، فمن لم يؤمن بواحد من هذه الأربعة لم يكن مؤمنا".
هذا الحديثِ النبوي ـ الذي معنا ـ (لا يؤمِنُ عبدٌ حتَّى يُؤْمِنَ بأربعٍ: يشهَدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنِّي مُحمَّدٌ رسولُ اللَّهِ بَعثَني بالحقِّ، ويُؤمنُ بالموت، وبالبَعثِ بعدَ الموت، ويؤمِنُ بالقدر) يؤكد فيه النبي صلى الله عليه وسلم على الإيمان باللهِ تعالى، والإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالموت وبالبَعْث بعده، والإيمان بالقدَر خيره وشره، وينفي فيه ـ كما قال العلماء ـ أصل الإيمان لا كماله، عن الذي لا يؤمن بهذه الأربعة، أو بواحد منها. فمن أنكر رُكْناً مِنْ أركان الإيمان فقد ضل وكفر، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً}(النساء:136)، قال السعدي: "وأي ضلال أبعد من ضلال من ترك طريق الهدى المستقيم، وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الأليم؟!. واعلم أن الكفر بشيء من هذه المذكورات (أركان الإيمان) كالكفر بجميعها، لتلازمها وامتناع وجود الإيمان ببعضها دون بعض".