لقدْ أُوذيتُ في الله

26/05/2024| إسلام ويب

الابتلاء سُنّة مِنْ سُننِ الله عزّ وجل في حياة المؤمنين، للتمحيص والاختبار، والتمييز بين الصادق والكاذب، وتلك السُنّة ما نجا منها نبي، ولا غابت عن حياة مؤمن، قال الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(العنكبوت:3:2)، قال ابن كثير: "ومعناه: أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان، كما جاء في الحديث الصحيح: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء)، وهذه الآية كقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(آل عمران:142)، ومثلها في سورة "براءة" وقال في البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}(الْبَقَرَةِ: 214)، ولهذا قال هَاهُنا: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} أي: الذين صدقوا في دعواهم الإيمان ممَّن هو كاذب في قوله ودعواه".
 
وقد اقتضت حِكمة الله تعالى أنْ يبتلي أنبياءَه ورُسُلَه بأنواعٍ شتَّى من الإيذاء والابتلاء، ليكونوا قدوة لأتباعهم في الصبر والثبات، عن سعد بن أبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قال: (قلْتُ: يا رسول الله! أَيُّ النَّاسِ أشَدُّ بلاء؟ قال: الأنبياء، ثمَّ الأْمثل فالأمثل، يُبْتَلَى الرجلُ على حسب دينه) رواه الترمذي وصححه الألباني. ونبينا محمد صلى الله أوذي في سبيل الله عز وجل إيذاءً شديداً حتى قال صلوات الله وسلامه عليه: (لقدْ أُوذيتُ في الله).

والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف الدالة على شدة إيذاء قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:

ـ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة وجمع قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى سلا جَزور (جلد بعير مذبوح) آل فلان فيَعْمد إلى فرثها ودمها وسلاها (رجيعها وما في بطنها) فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي ساجداً فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام وهي جويرية (صغيرة)، فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى ألقته عنه) رواه البخاري.

ـ سأل عروةُ بن الزبير عبدَ الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي مُعَيْط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}(غافر: 28)) رواه البخاري.

ـ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضْتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقتُ وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرْن الثعالب (ميقات أهل نجد ويبعد عن الطائف خمسة وثلاثين كيلو متراً)، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، ولقد أرسل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين (الجبلين)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) رواه البخاري.
قال ابن حجر في "فتح الباري": "وفي هذا الحديث بيان شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على قومه، ومزيد صبره وحلمه".

ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد أُوذيتُ في اللهِ، وما يُؤْذى أَحَدٌ، وأُخِفْتُ (هُدِّدْتُ وتوعدت بالتعذيب والقتل) في اللهِ (في إظهار دينه)، وما يُخافُ أَحَدٌ، ولقد أتَتْ عليَّ ثلاثةٌ من بينِ يومٍ وليلةٍ، وما لي ولبلالٌ طعامٌ يأكُلُه ذو كَبِدٍ، إلَّا ما يُواريه (يستره وبغطيه) إِبْطُ بلال) رواه أحمد وصححه الألباني.
قال المباركفوري في "تحفة الأحوذي": "والمعنى: أن بلالاً كان رفيقي في ذلك الوقت، وما كان لنا من الطعام إلا شيء قليل، بقدر ما يأخذه بلال تحت إبطه".
وقال الطيبي: "(من بين يوم وليلة) تأكيد للشمول: أي ثلاثين يوما وليلة متواترات، لا ينقص منها شيء من الزمان".
وفي "شرح مصابيح السنة للبغوي": (لقد أُخِفتُ) بصيغة المجهول من: الإخافة، (في الله) أي: في إظهار دينه، (وما يُخاف أحدٌ) بصيغة المجهول أي: مثلَ ما أُخِفتُ، (ولقد أُوذيتُ في الله، وما يُؤذَى أحَدٌ) أي: مثلَ ما أُوذيتُ، يعني: كنتُ وحيداً في ابتداء إظهاري الدين، فخوَّفني الكفارُ وآذَوني في ذلك، ولم يكن معي أحد يوافقني في تحمُّل الأذيَّة، (ولقد أتَتْ عليَّ) أي: قد كان بعضُ الأوقات مرَّ عليَّ، (ثلاثون من بين ليلةٍ ويومٍ)، (بين): زائدة، تقديره: من ليلةٍ ويومٍ، كان بلالٌ رفيقي في ذلك الوقت. (وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأكلُه ذو كبد): هذا إشارة إلى قِلَّته.. (يُوارِيه) أي: يسترُه، (إبطُ بلال) من خبز ونحوه، كنَّى بالمواراة تحت الإبط عن الشيء اليسير، وعن عدم ما يُجعَل فيه الطعامُ من الظَّرف".
وقال المناوي: "(لقد أوذيت في الله): أي في إظهار دينه وإعلاء كلمته، (وما يؤذى أحد): من الناس في ذلك الزمان، بل كنتُ المخصوص بالإيذاء لنهيي إياهم عن عبادة الأوثان وأمري لهم بعبادة الرحمن، (وأخفت في الله): أي هُدَّدْتُ وتوعدت بالتعذيب والقتل بسبب إظهار الدعاء إلى الله تعالى، وإظهار دين الإسلام، وقوله: (وما يخاف أحد): حال أي خُوِّفْتُ في الله وحدي وكنت وحيداً في ابتداء إظهاري للدين، فآذاني الكفار بالتهديد والوعيد الشديد، فكنت المخصوص بينهم بذلك في ذلك الزمان، ولم يكن معي أحد يساعدني في تحمل أذيتهم".

لم يقتصر كفار قريش على كثرة وشدة إيذائهم النفسي والبدني للنبي صلى الله عليه وسلم، بل تجاوزوا ذلك حتى أنهم تآمروا على قتله، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (إن الملأ (جماعة من السادة والرؤساء) من قريش اجتمعوا في الحجر، فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف (أصنام كانت قريش تعبدها)، لو قد رأينا محمداً لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها تبكي حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لوْ قدْ رأوْك، لقد قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك، فقال:يا بُنَية أريني وضوءاً، فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعُقِرُوا (لم يتحركوا خوفا) في مجالسهم، فلم يرفعوا إليه بصراً، ولم يقم إليه منهم رجل، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم، فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت (قبحت) الوجوه، ثم حصبهم بها، فما أصاب رجلا منهم من ذلك الحصى حصاة، إلا قُتِل يوم بدرٍ كافرا) رواه أحمد وصححه الألباني.

هذه بعض المواقف والصور من الإيذاء الشديد الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم من قومه، ولذلك قال: (لقد أُوذيتُ في اللهِ، وما يُؤْذى أَحَدٌ، وأُخِفْتُ في الله، وما يُخافُ أَحَد)، وعلى الرغم مما فعله قومه معه، إلا أن ذلك لم يُضْعِفه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، بل ظل ثابتاً مستمراً في دعوته، صابراً على قومه، راجياً إسلامهم، وأن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله ولا يشرك به شيئاً، وهذا درس هام من دروس السيرة النبوية.

www.islamweb.net