وُلِد الشيخ محمد رشيد رضا في في قرية قلمون بالقرب من طرابلس الشام عام 1282هـ الموافق 1865 م، و تلقّى تعليمه فيها. وكان في بداياته واعظاً متصوّفاً، ثم تأثر بمدرسة الأفغاني و محمد عبده بعد قراءته لأحد أعداد مجلتهما العروة الوثقى، وارتحل إلى مصر عام 1315 هـ، و تنقّل من الإسكندرية إلى القاهرة التي استـقـرّ به النوى فيها عام 1315 هـ، و التقى بالأستاذ محمد عبده و لازمه، و أفصح له عن رغبته بإصدار مجلة تعتني بأحوال المسلمين، وطرق إصلاح واقعهم المتردّي، لكن الأستاذ محمد عبده لم يكن متحمساً لإنشاء مجلة لاقتناعه بعدم جدواها في مقاومة الصحف التي تهتم بأخبار الخديوي و الإنجليز مثل "المؤيد"و"المقطم" و"الأهرام"، إلا أن محمد رشيد رضا أقنعه بصحة رأيه و ضرورة إنشاء المجلة للتصدي لمهمة الإصلاح المنشودة، و أنه في هذا السبيل على استعداد للمغامرة و تحمّل تبعات هذه المغامرة، و قال له : "إن معالجة قضايا التربية و التعليم و نشر الأفكار الصحيحة لمقاومة الجهل و الأفكار الفاسدة التي فشت في الأمة كالجبر و الخرافات، هي الباعث لي على إنشاء هذه الجريدة، و إنني أسمح أن أنفق عليها سنة أو سنتين من غير أن أكسب شيئا" .
إنشاء المجلة و انتشارها
و لما صحّ العزم من الشيخ محمد رشيد رضا قام بإنشاء المجلة، و أطلق عليها اسم : " المنار "، و طبعها في مطبعة التوفيق القبطية، فصدر أول أعدادها في تاريخ 22 من شوال عام 1315 هـ، الموافق 15 مارس من عام 1898 م. يتألف العدد منها من ثمان صفحات كبيرة، تتوسّطها كلمة المنار بخطّ كبير .
وقوبلت المجلة حين إصدارها بالترحاب والإهتمام من شتى طبقات المجتمع المثقفة ؛ إذ كان أكثر المشتركين فيها من الطبقة المتعلمة و على الأخصّ من فئة المحامين و القضاة الأهليين .
وكانت في بداية صدورها أسبوعية، لكنها اضطرّت لظروف معينة إلى أن تكون نصف شهرية، ثم إلى شهرية شبه منتظمة. و مع ذلك كان انتشارها في إطار ضيق فلم يزِد المشتركون فيها عن الثلاثمائة، إذ كان من أسباب ضيق انتشارها منع السلطات العثمانية المجلة من الدخول إلى و لاياتها، بسبب مواقفها المعارضة للسياسة العثمانية آنذاك.
ولكن الناس في تلك الأقطار بدأوا في التسامع بها، و ازداد الطلب عليها لا سيما على ما فاتهم من أعدادها السابقة، و في عام 1909 أُعيد طباعة مجموعة أعداد السنة الأولى، و بيعت بأربعة أمثال قيمتها. فطار ذكرها و انتشر في جميع أنحاء العالم الإسلامي حتى وصلت إلى الهند و سومطرة. فكان لانتشار هذه المجلة في العالم الإسلامي آثار إيجابية في نشر الأفكار الإصلاحية التي طرحها الشيخ محمد رشيد رضا بين ظهراني المسلمين، إذ يقول المستشرق " هاملتون جب " في كتابه " وجهة الإسلام " : " و لم يشرق ( منار ) الإسلام على المصريين وحدهم، و لكنه أشرق على العرب في بلادهم و خارجها و على المسلمين في أرخبيل الملايو الذين درسوا في الجامعة الأزهرية، و على الأندونيسي المنعزل الذي ظل محافظاً على علاقاته بقلب العالم الإسلامي بعد عودته لبلاده النائية على حدود دار الإسلام ".
و استمرّت المجلة على هذا الحال من الإنتشار و الذيوع في العالم الإسلامي رغم ما تعرّضت إليه من مصاعب جمة ؛ فقد كانت المجلة تسدّ ثغوراً كثيرة من ثغور العمل الإسلامي، و يقوم الشيخ محمد رشيد رضا بتحرير أغلب موادّ المجلة بنفسه، و يقوم بتصحيحها و فهرسة مجلداتها مما يسبب له الكثير من الإرهاق و العنت.
ومن جملة العقبات التي جابهها إلى جانب ذلك العقبة المادية ؛ فكان يعاني من مطل المشتركين في تسديد قيمة اشتراكاتهم، لأن المجلة لم تكن تتلقى أي مساعدات مالية من الخارج بسبب استقلاليتها الفكرية، و عدم انضوائها تحت راية حزب أو جهة حكومية أو أحد الأعيان القادرين. و كان كثيراً ما يطرح قضيّة مطل المشتركين في المجلّة تارةً بالتلميح، و أخرى بالتصريح، مما يدل على الحرج البالغ الذي كانت تتعرّض إليه المجلة بسبب هذه المشكلة، و تداعياتها على عمليّة نشر المجلة .
الاتجاه السلفي في مجلة المنار
كما رأينا في عرضنا السريع لسيرة الشيخ محمد رشيد رضا، أنه قد مرّ بعدة أطوار في حياته الفكرية، فكان في بداياته صوفياً، ثم متأثّراً بمدرسة الأستاذ محمد عبده العقلانية، ثم انتهى أخيراً إلى مرحلة اقترب فيها كثيراً من المدرسة السلفية، و هذه المرحلة الأخيرة - و هي الأهم - برزت في مادّة المجلة بشكل واضح، و نستطيع تحديد أهم ملامح هذا الاتجاه وفق ما يلي :
أولا : شنّت حرباً شعواءً على الشركيات و البدع المنتشرة بين المسلمين في مصر، و غيرها من دول العالم الإسلامي، كبدع البناء على القبور و تعظيم الأضرحة، و الاستغاثة بالمخلوقين فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، و حثت المسلمين على وجوب العودة إلى الكتاب و السنة و آثار السلف الصالح في فهم قضايا التوحيد و الشريعة.
ثانيا : دفاعها عن أعلام الدعوة السلفية، و ركّزت على عَـلَميـْن شامخين من أعلام هذه المدرسة هما : شيخ الإسلام ابن تيمية، و الإمام المجدّد محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله ؛ فقد كان يهتبل كل فرصة مواتية لبيان مكانة هذين العلَـمَيـن و مآثرهما و دورهما في الإصلاح و التجديد، و الدفاع عنهما و دحض الشبهات و المفتريات التي عادةً ما يثيرها أعداؤهما. و كذا نشرت المجلة العديد من فتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية، و فصولاً من كتب ابن القيم رحمهما الله تعالى، للتنبيه على قيمة هذه الكنوز الـعـلمية.
ثالثا : حاربت المجلة التعصّب المذهبي و دعت إلى فتح باب الاجتهاد، و إلى التمسّك بنصوص الكتاب و السنة الصحيحة بدلاً من التعصّب لمقالات المشايخ و الأئمة و الجمود عليها، يقول محمد رشيد رضا رحمه الله : "ولا نعرف في ترك الإجتهاد منفعة ما. و أما مضارّه فكثيرة و كلها ترجع إلى إهمال العقل، و قطع طريق العلم، و الحرمان من استقلال الفكر، و قد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد فصاروا إلى ما نرى" ا هـ. واستقطبت المجلة أقلاماً عُرفت بسلفيتها أمثال العلامة محمود شكري الألوسي، و العلامة جمال الدين القاسمي رحمهما الله، و كانت له مراسلات مع علامة القصيم الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله.
ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله قد وقعت بيده نسخة من هذه المجلة تحتوي بحثاً علمياً كتبه الشيخ محمد رشيد رضا عن كتاب " إحياء علوم الدين " لأبي حامد الغزالي، فأعجبه هذا البحث لما انطوى عليه من نقد علمي، و موازنة بين حسناته و سيئاته، فكان هذا المقال دافعاً له للانصراف إلى طلب علم الحديث الذي كان فيما بعد فارسه الذي لا يُشقّ له غبار في هذا العصر.
معارك المنار الفكرية
لم يكن طريق الشيخ محمد رشيد رضا و مجلته نحو الصدارة ممهّـداً بالورود، خالياً من الأشواك ؛ إذ كانت مجلته غرضاً للكثير من السهام بسبب مواقفها التي تبنّتها إزاء العديد من القضايا الشرعية و الفكرية، فتعرّض الشيخ رشيد إلى أعداءٍ كُـثُر نازلهم على جبهات مختلفة، يقول الشيخ في هذا الصدد : "أُجـاهدُ البدع و المبتدعين، و الدجالين و الخرافيين و المعممين الجامدين، و الملاحدة و الجاحدين، و المستبدين الظالمين، و أفنّد شبهات الماديين، وضلالات دعاة النصرانية المغاوين من غير اعتماد على ملك أو حكومة، أو مظاهرة حزب أو جمعية، أو مساعدة غني بماله، أو كاتب بقلمه".
فتعرّضت مجلة المنار إلى هجوم شديد على صفحات مجلة الأزهر في مقالات كتبها الشيخ "يوسف الدجوي" حول قضايا التصوّف و التوسّل و الشفاعة و الاجتهاد، فردّ الشيخ محمد رشيد رضا عليه بمقالات في المنار و في بعض الصحف المصرية اليومية، و جمعها أخيراً في كتاب واحد باسم "المنار والأزهر".
وتعرّض أيضاً لهجوم من محسن العاملي و أحمد عارف الزين و عبدالحسين شرف الدين، و ردّ عليهم بسلسلة مقالات في مجلة المنار، و فنّد شبهاتهم و نقضها بأسلوب علمي رصين. وكان للأقباط - بطبيعة الحال - نصيبٌ من الهجوم على الشيخ و مجلته، فقد هاجمته جريدة "مصر" القبطية، و اتهمته بالهجوم على المسيحية و أهلها، و ألبت عليه الإنجليز و الحكومة المصرية.
فتعرّض الشيخ إلى مضايقات من الإنجليز الذين ضغطوا عليه بعدم نشر شيءٍ يمسّ السياسة على خلاف باقي الصحف، بحجة أن المنار مجلة أدبية. و تعرض كذلك إلى مضايقاتهم عند مغادرته إلى الشام، فحاولوا منعه من العودة إلى مصر .
موقف المنار من التغريب و الغزو الفكري
لم يكن الشيخ محمد رشيد رضا متقوقعاً في برجه العاجي، أو منكفئاً حول ذاته، بل كان يتفاعل مع قضايا مجتمعه و ما يعانيه من أدواءٍ فكرية، و ما يتعرّض إليه من هجمات مسعورة يشنّها الأعداء، فوقف من خلال مجلته المنار سدّاً منيعاً في وجه مدّ الغزو الفكري الذي بدأ ينفث سمومه في جسد الأمة الإسلامية عموما، و مصر خصوصا، و تناول بالفضح أساليب التغريب و الغزو الفكري المتـتـرّسة بحِـراب الإستعمار الإنجليزي في مصر، و كشف النقاب عن وجهها الشائه القبيح في كل أعداد مجلة المنار إما تصريحاً أو تلميحاً.
و في هذا الصدد يلخّص الدكتور " سامي الكومي " موقفه إزاء الإستعمار وآثاره السلبية في العالم الإسلامي قائلاً : " إعلان حرب لا هوادة فيها على ما اقترن بدخول الأوروبيين إلى مصر و غيرها من البلاد الإسلامية من الانحلال الخلقي و العادات الضارة، ففي مقال بعنوان "الجيوش الغربية المعنوية في الفتوحات الشرقية"، يقول : "إن الغرض من الفتوح و الإستعمار تكثير المال و تنمية الثروة، و إن الدول الأوروبية توفّر على نفسها القتال حتى لا تريق دماء أبنائها و تسلّط الأمم الشرقية جيوشاً معنوية أقوى من الجيوش المادية، فأن الأوروبيين ساقوا عليه – الشرق – خمسة فيالق هي الخمر و الميسر و الربا و البغاء و التجارة فنسفوا بذلك ثروته، و قتلوا غيرته و أضعفوا همته و أفسدوا ما كان له من بقايا أدب و دين ". لهذا لم يكن مفاجئاً أن يقف الشيخ محمد رشيد رضا موقفاً مشرّفاً عندما أطلّت فتنة اللغة العامية برأسها ورفعت عقيرتها النشاز في محاولة خبيثة لطمس الهوية العربية الإسلامية للمجتمع المصري عن طريق محاربة اللغة العربية لقطع أوثق رباط يربط المسلمين في مصر بالقرآن الكريم الذي هو الركن الركين للهوية الإسلامية.
فتولّت بعض المجلات ذات النزعة التغريبية كِـبْـر هذه الخطة الهدّامة كمجلة " المقتطف "، و " المقطّم "، و مجلة " الأزهر " التي أصدرها الإنجليزي " ويليام كوكس " ( و هي غير مجلة الأزهر الصادرة عن جامعة الأزهر )، و أخذت على عاتقها نشر هذه الفكرة تحت سمع و بصر الإنجليز. فوقعت في يد الشيخ رشيد كراسة مطبوعة تدعو إلى استخدام اللغة العامية بدل الفصحى، و كتابتها بحروف لاتينية، فتصدّى لها في مقالين طويلين بعنوان " صدمة جديدة على اللغة العربية "، و فنّد آراء مؤلف الكراسة بحجج قوية واضحة، أبان فيها عوار هذه الدعوة الضالة، و ما يراد منها من أهداف خبيثة .
نهاية المجلة
توُفّي الشيخ محمد رشيد رضا في 23 من جمادى الأولى لعام 1354 هـ، الموافق 1935 م، بعد أن استكملت المنار مجلدها الرابع و الثلاثين و شرعت في الخامس و الثلاثين، فكان لوفاة الشيخ و انقطاع المجلة وقعاً محزناً في العالم الإسلامي، فطالب الكثيرون من العلماء و الأدباء و المؤرخين بإعادة إصدارها مرة أخرى لسدّ الفراغ الكبير الذي أحدثه توقفها، فأصدر أخوه " محي الدين رضا " عددين فقط، و لكنه لم يستطع الإستمرار. توقّفت بعد هذا المجلة لمدة عامين، ثم تولّى الأستاذ حسن البنا زمام المجلة، ، فصدرت ستة أعداد منها، ثم توقّفت نهائياً في شعبان 1359 هـ، الموافق سبتمبر عام 1940 م، لينطفيء آخر إشعاع انبثق من هذا " المنار " الشامخ الباذخ، فرحم الله الشيخ و أجزل له المثوبة عنا و عن أمة الإسلام.