مُخالَطة النَّاس ومعاملتهم من لوازِم الحياة، والنَّفس مفطورة على المعايشة والاستِئناس بغيرها، ولَمَّا كانت النفوس غير متشابهة، والطَّبائع مختلفة، أصبح لِزاماً على الإنسان أنْ يُعامل ويعاشر الناس بالحسنى ويُداريهم، وقد قِيل: مَن هجر المداراة قارَنه المكروه. والمُدَاراة: هي ملاينة الناس، وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ينفروا عنك، وهي مباحة وربَّما استُحبَّتْ أحياناً، قال ابن بطال: "المداراة: خفض الجناح للناس، ولين الكلام وترك الإغلاظ لهم في القول"، وقال المناوي: "المداراة: الملاينة والملاطفة". وقال الحسن البصري: "كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول: هي العقل كله". وقال محمد بن الحنفية: "ليس بحكيم من لا يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بُدّاً، حتى يجعل الله له فرجاً، أو قال: مخرجاً".
وأما المداهنة فهي بذل الدِّين لصلاح الدنيا، وهي مذمومة ومحرمة، قال ابن بطال: "المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط، لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك".
وقال القرطبي في الفرق بين المدراة والمداهنة: "أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة وربما استُحِبَّت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا"، وقال الغزالي: "الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء، فإن أغضيتَ لسلامة دينك، ولِما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مُدار، وإن أغضيْتَ لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مُداهن".
والمداراة ليست صفة ملازمة للمسلم، إنما يُحتاج إليها في التعامل مع بعض الناس والمواقف والأوقات التي تتطلب المداراة، والسيرة والأحاديث النبوية فيها أمثلة على ذلك، ومنها:
مداراة الناس اتقاء شرِّهم وفُحْشِهم :
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً استأذن على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: بئسَ أخو العشيرة (الجماعة أو القبيلة)، وبئسَ ابن العشيرة، فلما جلس تطلَّقَ (استبشر) النبيُّ صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسطَ إليه، فلما انطلق الرجلُ قالت عائشة: يا رسول الله، حين رأيتَ الرجلَ قلتَ له كذا وكذا، ثم تطلَّقْتَ في وجهِه وانبسطْتَ إليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، متى عَهِدتني فحَّاشاً، إن شرَّ الناس عند اللهِ منزلةً يومَ القيامة من تركَه الناسُ اتقاءَ شرِّه) رواه البخاري. وقد بوّب البخاري لهذا الحديث بقوله: "بابُ المداراة مع الناس". وقال ابن حجر: "وهذا الحديث أصلٌ في المداراة". وفي رواية الترمذي أن عائشة رضي الله عنها قالت: (استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده، فقال: بئس ابن العشيرة، أو أخو العشيرة، ثمّ أذن له، فألان له القول، فلما خرج، قلتُ: يا رسول الله قلتَ ما قلت، ثمّ ألنْتَ له القول؟! فقال: يا عائشة، إنّ شرّ النّاس من تركه النّاس ـ أو ودعه النّاس ـ اتّقاء فحشه).
قال المناوي: "أي لأجل قبح فعله وقوله، أو لأجل اتقاء فحشه، أي: مجاوزة الحدِّ الشرعي قولًا أو فعلًا، وهذا أصل في ندب المدَاراة إذا ترتب عليها دفع ضرٍّ، أو جلب نفع، بخلاف المداهنة فحرامٌ مطلقاً، إذ هي بذل الدين لصلاح الدنيا، والمدَاراة بذل الدنيا لصلاح دين أو دنيا، بنحو رفقٍ بجاهلٍ في تعليم، وبفاسقٍ في نهيٍ عن منكر، وترك إغلاظ وتألُّف، ونحوها مطلوبةٌ محبوبةٌ إن ترتب عليها نفع، فإن لم يترتب عليها نفع، بأن لم يتقِ شرَّه بها كما هو معروف في بعض الأنام فلا تشرع". وقال الخطابي: "جمع هذا الحديث علماً وأدبا، وليس قوله صلى الله عليه وسلم لأمته في الأمور التي ينصحهم بها، ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك ويفصح به، ويعرف الناس أمرهم، فإن ذلك من باب النصيحة، والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم، وأعطيه من حسن الخلق، أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه ليفتدي به أمته في اتقاء شرّ من هذا سبيله، وفي مداراته، ليسلموا من شره وغائلته".
وقال القرطبي: "في هذا الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق، أو بالفحش، ونحو ذلك مع جواز مداراته اتقاء شره، ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى، ثم قال تبعا للقاضي الحسين: الفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه: حسن عشرته، والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه حق، وفعله معه حسن معاشرته، فيزول بهذا التقدير الإشكال".
المداراة مع الزوجة حفاظاً على الحياة الزوجية :
المداراة من أهم الأخلاق وأنفعها لبقاء المودة والحب والتفاهم بين الزوجين، وهي سبب من أسباب تجاوز العقبات أمامهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استوصوا بالنساء خيراً، فإنهنَّ خُلِقنَ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا) رواه البخاري. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ المرأة خُلِقَتْ من ضِلَعٍ، فإنْ أَقَمْتَها كسَرْتَها، فَدَارِها تَعِشْ بِها) رواه ابن حبان وصححه الألباني. قال المناوي: "أي: لاطفها ولاينها فإنك بذلك تبلغ ما تريده منها من الاستمتاع بها وحسن العشرة معها الذي هو أهم المعيشة"، وقال ابن حجر: "وفي الحديث الندب إلى المدَاراة لاستمالة النفوس، وتألف القلوب، وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهنَّ، والصبر على عوجهنَّ، وأنَّ من رام تقويمهنَّ فاته الانتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها، ويستعين بها على معاشه، فكأنَّه قال: الاستمتاع بها لا يتمُّ إلا بالصبر عليها". ولذلك كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول لأم الدرداء رضي الله عنها: "إذا غضبتُ فرضِّني، وإذا غضبتِ رضّيتك، فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق".
ولا تتوقف المداراة بين الزوجين على التغاضي عن الأخطاء، وعدم التشديد في المحاسبة بينهما، وإنما تتعداها إلى إباحة الكذب أحياناً رغم أن الكذب قبيح ومُحَرَّم ومنهي عنه، ولكن مع الزوجين استثناء، ليتحقق به مصالح أعظم، وتزول به مفاسد أكبر، فعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحلُّ الْكذبُ إلاّ في ثلاث: يحدِّثُ الرَّجلُ امرأته (زوجته)لِيُرْضِيَها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلحَ بين النَّاس) رواه الترمذي وصححه الألباني. والمقصود بالكذب بين الزوجين: الكذب في إظهار الود والمحبة لغرض دوام الألفة واستقرار الأسرة، وليس المراد بالكذب ما يؤدي إلى أكل الحقوق، أو الفرار من الواجبات ونحو ذلك، قال النووي: "وأما كذبه لزوجته وكذبها له فالمراد به في إظهار الود والوعد بما لا يلزم ونحو ذلك، فأما المخادعة في منع ما عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بإجماع المسلمين والله أعلم".
مداراة الناس عامة بالكلمة الطيبة :
قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصلت:34)، وعن هانئ بن يزيد رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ من موجبات المغفرة: بذل السلام، وحسن الكلام) رواه الطبراني وصححه الألباني. قال المناوي: "أي: إلانة القول للإخوان، واستعطافهم على منهج المدَاراة، لا على طريق المداهنة والبهتان".
المداراة بمعناها الصحيح ـ بذلُ الدُّنيا لصلاحِ الدُّنيا أو الدِّينِ، أو هُما معاً، وإظهار الحَسَن في مقابلة القبيح لاستدعاء الحسن، مع سلامة الدين ـ تزرع الألفة والمودة، وتجمع بين القلوب المتنافرة، وهي من عوامل صيانة النفس من أهل الفجور والشرور، وهي كذلك ـ المداراة ـ من أسباب تحقيق السعادة الزوجية، والأصل في جوازها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شرَّ الناس عند اللهِ منزلة يوم القيامة من تركَه الناسُ اتقاءَ شرِّه) رواه البخاري. ومن ثم فالمداراة بمعناها الصحيح وفي موطنها من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من أخلاق المؤمنين، فحاجة الناس إليها لا تدانيها حاجة، وهي مطلوبة مع الأعداء والأصدقاء على حد سواء، قال الشافعي:
إني أحيي عـدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات
وأُظْهِر البِشْر للإنسان أبغضه كأنما قد حَشى قلبي مَحبَّات