المتأمل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته يرى مدى اهتمامه بحمايته حِمَى التوحيد، وسدِّه لذرائع الشرك، ومن مظاهر وصور ذلك أنه كان إذا سمع كلمة تخدش التوحيد، أو تُخِلُّ به، أو تُوقع قائلها في الشرك، كقول:"ما شاء الله وشئت"، "لولا الله وفلان"، أو الحلف بالنبي والكعبة، والآباء والأمانة والشرف، نهاه عن ذلك، وحذَّره أشد التحذير، ووجهه إلى الصواب .. والمواقف والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة، ومنها:
ما شاء الله وفلان، وما شاء الله وشئت :
ـ عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان) رواه أبو داود . قال الطيبي:" لما كان الواو حرف الجمع والتشريك، منع من عطف إحدى الشيئين على الأخرى، وأمر بتقديم مشيئة الله وتأخير مشيئة من سواه بحرف (ثم) الذي هو للتراخي"، وقال الهروي: "لِمَا فيه من التسوية بين الله وبين عباده، لأن الواو للجمع والاشتراك (ولكن قولوا: ما شاء الله) أي: كان، (ثم شاء فلان) أي: ثم بعد مشيئة الله شاء فلان، لأن ثم للتراخي".
وقال ابن عثيمين: "قال المؤلف (النووي) رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب كراهة قول الإنسان ما شاء الله وشاء فلان، والكراهة هنا يراد بها التحريم، يعني أنك إذا تقول: ما شاء الله وشاء فلان، أو: ما شاء الله وشئت، أو ما أشبه ذلك.. وذلك أن الواو تقتضي التسوية، إذا قلت ما شاء الله وشاء فلان كأنك جعلت فلاناً مساوياً لله عز وجل في المشيئة، والله تعالى وحده له المشيئة التامة، يفعل ما يشاء .. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن ذلك أرشد إلى قول مباح فقال: ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان، لأن ثم تقتضي الترتيب بمهلة، يعني أن مشيئة الله فوق مشيئة فلان. وكذلك قول: ما شاء الله وشئت، فإن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا، ينكر عليه، بل قل ما شاء الله وحده.. وفي هذا الحديث دليل على أن الإنسان إذا ذكر للناس شيئاً لا يجوز فليبين لهم ما هو جائز، لأنه قال: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان)، وهكذا ينبغي لمعلم الناس إذا ذكر لهم الأبواب الممنوعة فليفتح لهم الأبواب الجائزة حتى يخرج الناس من هذا إلى هذا".
ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فراجعه في بعضِ الكلام، فقال: ما شاء اللهُ وشئتَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أجعَلْتني مع الله عِدلًا ـ وفي لفظ: ندًّا ـ، لا، بل ما شاءَ اللهُ وحده) رواه أحمد . يعني: أجعلتني شبيهاً لله، ومثيلاً لله، وشريكاً له في المشيئة، ثم أمره أن يستبدل هذه اللفظة بلفظة التّوحيد فيقول: ما شاء الله وحده. وهذا إرشاد إلى الأكمل بأن يقول: ما شاء الله وحده، وإذا قال: ما شاء الله، ثُمَّ شئت. فهذا بيانٌ للجائز، فلا تعارُض بين هذا الحديث وبين الحديث السابق لحذيفة رضي الله عنه.
ـ سمع رجل يهودي بعض الصحابة يقولون: ما شاء الله وشئت، وبعضهم يقول إذا حلف: والكعبة، فأسرع متوجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ منتقداً ـ قائلا له: إنكم تجعلون لله ندّاً ومثيلاً وشبيهاً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن ذلك. فعن قُتَيْلَة بنت صَيْفِي الأنصاريّة ـ وبعضُهم يقول: الجُهَنِيَّة ـ رضي الله عنها: (أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تندِّدونَ، وإنكم تُشرِكون تقولون: ما شاء اللَّهُ وشئتَ، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: وربِّ الكعبة، ويقولون: ما شاء اللَّهُ ثمَّ شئتَ) رواه النسائي.
ولا إشكال في ذهاب اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم مستنكراً على الصحابة قولهم: ما شاء الله وشئت، وحلفهم بالكعبة، لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يُقر ويترك الشرك في أصحابه حتى جاء اليهودي لينبه عليه، لأنه لم يسمع أحداً منهم يأتي بهذه الألفاظ المخالفة أمامه، وإنما سمعها اليهودي عن بعض الصحابة، فأسرع منتقداً ومخبراً النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها، ولم يقل لليهودي: لماذا لا تنصحون أنفسكم أيها اليهود، وأنتم تقولون: عزير ابن الله؟ أو: هذا الأمر شأن داخلي فيما بيننا، ولا نقبل النصح سوى ممن هم على ديننا؟ .. لكنه صلى الله عليه وسلم ضرب لأصحابه والمسلمين من بعدهم المثل في قبول الحق من أي شخصٍ كان ولو كان من غير المسلمين، فتوجه نحو أصحابه مصححاً لهم خطأهم، ومبينا لهم الصواب فيما ينبغي أن يكونوا عليه .. وهكذا كان صلى الله عليه وسلم دائماً يصحح لأصحابه ما يظهر من خطأ في القول أو السلوك أو التوحيد.
وفي شرح سنن النسائي المسمى "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" فوائد من هذا الموقف والحديث النبوي: "(منها): ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم الحلف بالكعبة، وهو التحريم، وأنه من الشرك بالله تعالى .. (ومنها): أنه يدل على أن الشرك جريمة كبرى، معروفة حتى في الأديان المحرفة كاليهودية والنصرانية، فإنهم يعرفون خطر الشرك، ثم يقعون فيه. (ومنها): أن على طالب الحق، ومتبع الصواب أن يأخذ الحق أينما وجده، ولو كان عند غير أهله، كما يقال: الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها أخذها، فلا يمنع الإنسان العداوة الشخصية أو الدينية أو غيرها من قبول الحق، والإذعان له كيفما كان، وهذا هو المصيبة الطامة عند العوام، فإنهم لا يتلقون الحق إلا عند من يعتقدونه، ولو أتاهم غيره بالحق الواضح لا يقبلونه، بل يردونه، فقول من يعتقدونه، قال الشيخ الفلاني، أحب إليهم من قول من لا يعتقدونه: قال الله تعالى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الداهية العظمى حلت بضعفاء الإيمان, فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه هذا اليهودي، وقال له ما تقدم، قبِل منه ذلك، لأنه حق، ونبه أمته، وأرشدهم إلى ما هو الصواب، ولم يقل: إنه يهودي.. (ومنها): أن قول الإنسان: ما شاء الله وشئت، من الإشراك بالله تعالى، فيحرم عليه، فإن كان يعتقد التشريك، فهو شرك أكبر، مخرج من الملة، وإن كان لا يعتقد ذلك، فهو إشراك في اللفظ، فيكون شركاً أصغر محرماً تجب التوبة منه".
الحلف بغير الله :
الحلف والقَسَم لا يكون إلا بالله عز وجل، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله) رواه البخاري. وبعض الناس في حلفهم يحلف بغير الله تعالى، فيحلفون بالنبي، والكعبة، والآباء، والأمانة والشرف وغير ذلك .. والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بأي شيء سوى الله عز وجل، ووصف الحلف بغير الله بأنه شرك، فقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) رواه الترمذي . وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو لِيصمُتْ) رواه البخاري. وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بالأمانة فليس منا) رواه أبو داود ، ومن تعود لسانه على أن يحلف بغير الله فعليه أن يعود لسانه إذا حلف بغير الله أن يقول: لا إله إلا الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) رواه البخاري. قال ابن بطال: "ولم ينسبه إلى الكفر. قال ابن المنذر: وفسر ابن المبارك الكفر فى هذه الأحاديث أن المراد به التغليظ وليس بالكفر"، وقال القاضي عياض: "فلم يجعل عليه كفارةً وأمَره بمقابَلة ذلك القول السيئ وإتباعه بالقول الحسن، فإن الحسنات يذهبن السيئات".
وقال ابن القيم في زاد المعاد: "في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق واختيار الألفاظ كان يتخير في خطابه، ويختار لأمته أحسن الألفاظ .. ومنه قوله: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان)، وفي معناه قول من لا يتوقى الشرك: أنا بالله وبك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، وهذا من الله ومنك، ووالله وحياتك، وأمثال هذه الألفاظ التي يجعل قائلها المخلوق نداً لله، وهي أشد منعاً وقبحاً من قوله: ما شاء الله وشئت. فأما إذا قال: أنا بالله، ثم بك، وما شاء الله ثم شئت فلا بأس، كما في حديث الثلاثة: (لا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك)".
يقع البعض في ألفاظ شركية، كقول أحدهم: ما شاء الله وشئت، توكلت على الله وعليك، لولا الله وفلان ما حصل كذا، أو يحلفون بالنبي والكعبة وغير ذلك من مخلوقات .. والصحيح الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم ووجهنا إليه أن نقول: شاء الله ثم شاء فلان، لولا الله ثم فلان، ولا نحلف إلا بالله عز وجل، إذِ الحلف بغير الله، والتسوية بين مشيئة الله سبحانه ومشيئة أحد من خلقه ـ ولو كان نبياً أو رسولاً ـ من الشرك الذي حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كيف يُسَوَّى بين الخالق والمخلوق، والرب والعبد؟! .. والنبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم مخلوق وأفضل الأنبياء والرسل قال ـ للرجل الذي قال له ما شاء اللهُ وشئتَ ـ : (أجعَلْتني مع الله ندّاً، لا، بل ما شاءَ الله وحده) رواه أحمد وحسنه الألباني. وقال: ( لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان) رواه أبو داود، وقال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) رواه الترمذي .