لقيت صديقاً قديماً فذاكرته في بعض أمور كانت بيننا فضحك وقال:
لا تؤاخذني فإني أنسى عشاي البارحة!
قلت: نعم؛ ولكن هيهات أن تنسى ذكرياتك الجميلة في حجر أمك، ومداعباتها، وقصص ما قبل النوم التي كانت تحكيها..
حفظ الأسماء، والأخبار، والمبادئ، والأفكار؛ إحدى الميزات التي خصَّ الله بها آدم وذريته.
النسيان حدَثٌ طارئ:
نسي آدم معلوماتٍ وأحداثاً مرَّت به نسياناً مؤقتاً أو نسياناً دائماً، ونسي حالة معينة كان يعيشها أول ما سمع كلام الله له، نسي عهداً قطعه على نفسه: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (115:طـه).
هل نسيانه نعمة؟ أو رحمة؟ أو زلَّة مكتوبة لنفاذ القدر باستخلاف البشر؟
كانت حالة ضعف أو غفلة أو ذهول، حالة صراع وتردد بين الإقدام والإحجام..
حالة قصور في التذكر بسبب تحرك غريزة أخرى وسيطرتها مثل: غريزة الاستكشاف أو حب البقاء أو التملك أو الشهوة..
نسي الحال التي كان عليها عندما عهد الله إليه.
كثيرون يمرون بمرحلة إشراق وحماس ثم يعتريهم (فتور)؛ يجعل التأويل والتملُّص سهلاً.
لم ينس المعلومة، لكن نسي أهميتها وجدارتها وشعوره القوي تجاهها أول مرة.
ما هو النسيان؟
هو أن تفقد معلومات..
أو تفقد حيوية المعلومة وحرارتها وعمقها في قلبك وتأثيرها عليك.
تشرق الفكرة عندي -أحياناً- بصورة رائعة، وأتحدث عنها مع أصدقائي بطريقة مؤثرة وفعَّالة ومقنعة..
وبعد فترة أستدعي الفكرة فتأتي خاملة هامدة غير مؤثرة.. حتى كأنها غير الفكرة الأولى.
بعض الكتب ليس فيها كثير معلومات، لكن فيها روح.
ولذا كانت الكتابة، وكان أول من خطَّ بالقلم إدريس.
نسيان الصداقة: (الحُر مَنْ رَاعَى وِدَادَ لَحْظَةٍ)؛ اتصال القلب بالقلب، وهج الرؤية الأولى، والانطباع الجميل، والتعلُّق المفاجئ.
نسيان المصيبة التي تبدأ كبيرة ثم تصغر عكس ناموس الأشياء التي تبدأ صغيرة ثم تكبر.
نسيان المبادئ والقيم؛ التي طالما آمن بها وضحّى في سبيلها، الحَوْر بَعْدَ الكَوْر، الرغاء بعد الهدير!
نسيان المعروف الصادر منك إلى غيرك؛ (انسه وانس أنك نسيته)، واستذكار المعروف الصادر من غيرك إليك.
نسيان الصدمة والصفعة: (اكتب المعروف على الصخر والإساءة على البحر)، والرجل يغفر وينسى، والمرأة تغفر ولا تنسى، فذاكرتها العاطفية لا تساعدها على النسيان!
بقي ذنب آدم أمام عينيه حتى هرب من ربه حياءً وخجلاً.
النسيان كان قبل، والذكر الدائم كان بعدْ، وظل إلى الأبد حتى يوم القيامة يذكر ذنبه ويعتذر عن الشفاعة!
الخطير أن يحيط النسيان بالعبد قبل الذنب وبعده، ويمضي قدماً لا يلوي على شيء.
تميز آدم بالذاكرة الإنسانية والحفظ ولذا وصف بالنسيان، النسيان استثناء في مقابل تعليم الأسماء كلها وإلهام اللغة، كما المعصية استثناء والأصل الاستقامة.
(نسي ونسيت ذريته)؛ نسي المعلومة المتعلقة بإعطائه داود 40 سنة من عمره؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْ ذَرَارِيَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ يَعْرِضُ ذُرِّيَّتَهُ عَلَيْهِ فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلاً يَزْهَرُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ، قَالَ: أَيْ رَبِّ كَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ سِتُّونَ عَاماً، قَالَ: رَبِّ زِدْ فِى عُمْرِهِ. قَالَ: لاَ؛ إِلاَّ أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ عُمْرِكَ، وَكَانَ عُمْرُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ، فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَاماً، فَلَمَّا احْتُضِرَ آدَمُ وَأَتَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ لِتَقْبِضَهُ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ عَاماً، فَقِيلَ إِنَّكَ قَدْ وَهَبْتَهَا لاِبْنِكَ دَاوُدَ، قَالَ: مَا فَعَلْتُ " (رواه أحمد والترمذي).
وفي رواية لأحمد وابن سعد في الطبقات (وفيها ضعف كما قال ابن كثير): " فَأَتَمَّهَا الله لِدَاوُدَ مِائَةَ، وَأَتَمَّهَا لآدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ ".
كما ورث ذريته الذاكرة الجيدة؛ المصممة لبناء الحضارة وتطوير المعرفة، ورثهم النسيان المساعد على التكيُّف والتجدد وتجاوز العثرات..
كلنا ننسى بعض أعمارنا، أو ننسى العمر كله؛ لأن العمر يطول ويتسع بالإنجاز والتأثير وعمل الخير.. وليس بعدد السنين فحسب.
قد يهونُ العمرُ إلا ساعةً ... وتهونُ الأرضُ إلا موضعا
أضف إلى عمر الطفل عند ولادته سنة فهي أهم مرحلة في حياته، وهي تحدد مساره، وصحته، وذكاءه، ومزاجه، وشكله، وأشياء كثيرة في حياته.
الصينيون يعدُّون العمر منذ الحمل.
الذاكرة انتقائية متنوعة: ذاكرة الأرقام، أو الأسماء، أو الوجوه، أو الأفكار، أو المبادئ.
ما حُفظ في الطفولة يصعب نسيانه، هو نقش على الحجر.
التعويد والتربية لصغير على أوراد الصباح والمساء، الصلاة، الكلمة الطيبة، الاعتماد على النفس، خدمة الغير، البر، والكرم، والجود، والفضيلة..
حتى حين يشيخ المرء ويفقد بعض وعيه يظل محتفظا بأخباره وقصصه القديمة، وقد يبوح لجلسائه منها بما لم يسمعوه من قبل!