عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو الغلام المُعَلَّم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه ذلك في موقف سجلته السيرة النبوية، وكان فيه بداية دخوله في الإسلام، ويروي لنا هذا الموقف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيقول: (كنت غلاماً يافعاً (بَلَغْتُ حَدَّ الرُّجولة) أرعى غنماً لعُقْبَة بنِ أبي مُعَيْطٍ بمكة، فأتى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وقد فرّا من المشركين فقالا: يا غلام، عندك لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما، فقالا: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم، فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع فدعا، فحفل الضَّرع (امتلأ الثدي باللبن)، وأتاه أبو بكر بصخرة منقعرة، فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سقاني، ثم قال لِلضَّرْعِ: اقْلِصْ، فَقَلَص (رجع كما كان)، فلما كان بعد أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا القول الطيب ـ يعني القرآن ـ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك غلام مُعَلَّم (أَلْهَمَك اللَّهُ الخَيْر وَالصَّواب)، فأخذت من فيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد) رواه أحمد وصححه الألباني.
قال ابن كثير في البداية والنهاية: "قوله: (وقد فرّا من المشركين) ليس المراد منه وقت الهجرة، إنما ذلك في بعض الأحوال قبل الهجرة، فإن ابن مسعود ممن أسلم قديماً". وقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ولكني مؤتمن) أي: أعمل عليها ولستُ مالكاً لها، فإن قيل: كيف استباح النبي صلى الله عليه وسلم شرب اللبن وهو مِلْكٌ لغيره أجاب السهيلي: "بأن العرب في الجاهلية كان في عرف العادة عندهم إباحة اللبن، وكانوا يتعهدون بذلك رُعاتهم، ويشترطون عليهم عند عقد إجارتهم ألَّا يمنعوا اللبن من أحدِ مرَّ بهم، وللحكم بالعرف في الشريعة أصول تشهد له".
من دلائل النبوة:
آيات ودلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم التي حدثت له وشهدت بفضله وبركته ونبوته كثيرة، والتي منها هذه الشاة التي كان يرعاها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه والتي لم يَنْزِ عليها الفحلُ (لم تحمل فالشاة لا يدر لبنها إلا بعد أن تحمل وتلد)، ولكن لما لمسها النبي صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين حصلت لها البركة فنزل منها اللبن، بل أطاع الضّرْع (ثدي الشاة) أمره صلى الله عليه وسلم حين قال له: (اقلُصْ، فقَلَص).. وإلى ذلك الموقف أشار السُبكي في تائيته بقوله:
ورُبّ عناق ما نزا الفحل فوقها مَسحْتَ عليها باليمين فدرّت
ويشهد لهذا الموقف موقفه صلى الله عليه وسلم أثناء هجرته من مكة إلى المدينة فيما عُرِفَ في السيرة النبوية بقصة أم مِعْبد، التي رواها الطبراني في معجمه الكبير، وابن هشام في السيرة النبوية، والبيهقي في دلائل النبوة، وقال ابن كثير: "وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا"، وقال الألباني: "قد يرتقي حديث (قصة أم معبد) إلى الحسن أو الصحة بطرق".
عن حُبَيْشِ بن خالد ـ أخو أم معبد ـ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة وخرج منها مهاجراً إلى المدينة هو وأبو بكر رضي الله عنه ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة رضي الله عنه ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط، مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة (كبيرة السن) جلدة (قوية عاقلة) تحتبي (تجلس وتضم يديها إحداهما إلى الأخرى على ركبتيها) بفناء القبة ثم تسقي وتطعم، فسألوها لحما وتمراً ليشتروه منها فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وكان القوم مرملين (نفد زادهم) مسنتين (أصابهم القحط)، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر (جانب) الخيمة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: خلفها الجهد عن الغنم، قال: فهل بها من لبن، قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أتأذنين أن أحلبها، قالت: بلى بأبي أنت وأمي، نعم إن رأيتَ بها حلبا فاحلبها، فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح بيده ضرعها وسمى الله عز وجل ودعا لها في شاتها فتفاحت عليه (فرّجت مابين رجليها من كئرة اللبن) ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيها ثجاً (لبنا كثيراً) حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم، ثم أراضوا (شربوا مرة بعد مرة)، ثم حلب فيها ثانيا بعد بدء، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها)، فلما جاء زوج أم معبد وعلم ورأى ما حدث من إدرار الشاة الضعيفة هذا اللبن قال:
سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا فَإِنّكُمْ إنْ تَسْأَلُوا الشّاةَ تَشْهَدِ
دَعَاهَا بِشَاةٍ حَائِلٍ فتحلَّبتْ لَهُ بِصَرِيحِ ضَرّةُ الشّاةِ مُزْبِدِ
فَغَادَرَهَا رَهْناً لَدَيْهَا لحالِبٍ يُردّدها فِي مَصْدَرٍ ثُمّ مورِدِ
الغلام المُعَلَّم ـ عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه:
صَحِبَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في حِلّه وترحاله، فكان يَلجُ عليه ويُلبِسُه نعليه، ويمشي أمامه، ويَسْتُرُه إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، قال عنه ابن حجر: "أحد السابقين الأولين، أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً والمشاهد بعدها، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم وكان صاحب نعليه". وهو أوّل من جهر بالقرآن الكريم بمكّة وناله من ذلك أذىً كثيراً، وشارك المسلمين في غزوة بدر، وهو الذي قام بالإجهاز على أبي جهل يومها، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن أَحَبَّ أن يقرأَ القرآن غضّاً كما أُنْزِل، فَلْيَقْرَأْ على قراءة ابنِ أُمِّ عبدٍ) رواه الطبراني وصححه الألباني، وفي رواية أحمد: (من سَرَّهُ أن يقرَأ القرآن كما أُنْزِل فلْيقْرأ على قراءة ابن أمِّ عبد)، وقد ذُكِرَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عِند عبد الله بن عمرو رضي الله عنه فقال: "ذاك رجلٌ لا أزالُ أُحِبُّه، سَمِعتُ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم يقول: (خُذوا القرآنَ من أربعة: من عبد الله بن مسعودٍ - فبدَأ به - وسالم مولى أبي حُذَيفة، ومُعاذ بن جبل، وأُبَيِّ بن كعب) رواه البخاري.. وقال صلى الله عليه وسلم عن ساقيه الصغيرتين التي اشتهر وعُرِف بهما: (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد (جبل أحد)) رواه أحمد وحسنه الألباني. وهو ـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ـ الذي قال عن نفسه مع القرآن الكريم: "واللهِ ما نزل من القرآنِ شيءٌ إلَّا وأنا أعلمُ في أيِّ شيءٍ نزل، وما أحدٌ أعلمَ بكتاب الله منِّي، وما أنا بخيركم، ولو أعلم مكاناً تبلغُه الإبل أعلم بكتاب الله منِّي لأتيتُه"..
ومع هذا الفضل الكبير للغلام المُعَلّم والصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يقول كما ذكر الذهبي في كتابه: "سير أعلام النبلاء": "لو سخرت من كلب، لخشيت أن أكون كلبا، وإني لأكره أن أرى الرجل فارغا ليس في عمل آخرة ولا دنيا"، "إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، من زرع خيراً يوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع، لا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، فمن أُعْطِيَ خيراً، فالله أعطاه، ومن وقي شرا، فالله وقاه، المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة"، "ارض بما قسم الله تكن من أغنى الناس، واجتنب المحارم تكن من أورع الناس، وأدِّ ما افترض عليك تكن من أعبد الناس".
وكان رضي الله عنه يقول في دعائه: "خائف مُسْتَجِير، تائب مستغفر، راغب راهب"، وعن عبيد الله بن عبد الله رضي الله عنه قال : "مات ابن مسعود بالمدينة، ودفن بالبقيع سنة اثنتين وثلاثين، وكان نحيفاً، قصيراً شديد الأدمة (السواد)".
لقد كان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أحد النماذج التي تربت على يد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شديد القرب منه، والاقتداء به، حتى قال حذيفة رضي الله عنه: "أشبه الناس دلّاً (حُسن الحركة في المشي والحديث وغيرهما)، وسَمْتاً (حسن المنظر في أمر الدين)، وهدياً (في السكينة والوقار وفي الهيبة والمنظر والشمائل) برسول الله صلى الله عليه وسلم لَاَبْنِ أمّ عبد"، قال ابن حجر: " لَاَبْنِ أم عبد": بفتح اللام وهي تأكيد بعد التأكيد، وفي الحديث فضيلة لابن مسعود جليلة، لشهادة حذيفة له بأنه أشد الناس شبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الخصال".. ومن ثم كان أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ينظرون إلى سمته وهديه فيتشبهون به، وكان الدافع لهم على ذلك حديث حذيفة رضي الله عنه، ومن ثم صدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك غلام مُعَلَّم).