من رحمة الله تعالى بعباده أن وسع عليهم في أوقات الصلوات، فجعل لكل صلاة وقت ابتداء ووقت انتهاء، وإن كانت المبادرة إليها في أول أوقاتها من أحب الأعمال إلى الله، ولكن يجد المسلم مندوحة في أدائها بين الوقتين، ويكون مؤدياً لها كما أمر الله. وقد ورد في صلاة العصر ما يحد آخر وقتها باصفرار الشمس، وورد ما يدل على أن آخر وقتها غروب الشمس.
والوارد فيما يحد آخر وقتها باصفرار الشمس ما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول، ثم إذا صليتم الظهر فإنه وقت إلى أن يحضر العصر، فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس، فإذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق، فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل).
فهذا الحديث يدل على أن نهاية وقت العصر اصفرار الشمس، ودلالة الحديث بمنطوقه صريحة في ذلك.
وقد ورد ما يدل على أن آخر وقت العصر غروب الشمس، وذلك فيما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر).
فهذا الحديث يدل على أن آخر وقت العصر يبقى إلى أن يتبقى من الوقت مقدار ما يدرك به ركعة قبل غروب الشمس، وهذا لا شك أنه بعد وقت اصفرار الشمس الذي ورد في الحديث السابق، فهل نقول: إن وقت العصر ينتهي باصفرار الشمس كما دل عليه الحديث الأول؟ أم نقول بأنه يبقى إلى قبل غروب الشمس بوقت يسير وهو بمقدار ما تدرك به ركعة وفقاً لدلالة الحديث الثاني؟ أم يمكن توجيه الحديثين بحيث يحمل كل واحد منهما على حال، ويأتلفان من غير تعارض؟
والجواب: أنه يمكن الجمع بين هذين الحديثين؛ وذلك بأن يحمل حديث (وقت العصر ما لم تصفر الشمس) على وقت الاختيار، ويحمل حديث (من أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) على وقت الضرورة. فيكون الوقت من اصفرار الشمس إلى غروبها وقتٌ لأداء صلاة العصر لمن له عذر لا مندوحة عنه، كالحائض تطهر في هذا الوقت، أو كافر يسلم، أو نائم يستيقظ، أو مغمىَ عليه يفيق، أو جريح اشتغل بتضميد جرحه، فهؤلاء يصلون ولو بعد اصفرار الشمس، وتكون صلاتهم أداء.
قال الإمام الشافعي: أخر وقت العصر حتى يجاوز ظل كل شيء مثليه، فمن فاته ذلك، فقد فاته وقت الاختيار، ولا يجوز أن يقال: فاته وقت العصر مطلقاً. قال: وإنما قلت ذلك لحديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر). قال ابن عبد البر معلقاً على كلام الشافعي: وعلى هذا التأويل تستعمل الأحاديث كلها، ومذهب مالك يدل أيضاً على ذلك.
وسواء قلنا: إن وقت الاختيار ينتهي بمصير ظل الشيء مثليه كما قال الجمهور، أو قلنا: إنه ينتهي باصفرار الشمس، وهو قول أبي حنيفة، فإن الجمع بين الحديثين هو المتعين؛ فيحمل أحدهما على حال الاختيار، ويحمل الثاني على حال الاضطرار.
وأما تأخيرها عن وقت الاختيار بغير عذر، فهذا من إماتة الصلاة كما قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذررضي الله عنه: (كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخِّرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: "صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلِّ، فإنها لك نافلة"، رواه مسلم. قال النووي: معناه يؤخرونها عن وقتها المختار.