اهتمامي بالوقت، ومعرفة طبيعته، وحسن تنظيمه والاستفادة منه قديم ، وقد كتبتُ في هذا كتيباً، سجلته على شريطين طامعاً أن تستفيد منه أكبر شريحة من المجتمعات.
وقد استفدت من كتاب بعنوان (إدارة الوقت) للدكتور نادر أحمد أبو شيخة، وددت الحديث عنه للقارئ الكريم، لأن الوقت هو الحياة، وكل إنسان قد قدَّر الله أن يعيش في هذه الدنيا (ساعات محدودةً معدودةً)، والعاقل هو الذي يحسن الاستفادة منها، ويستثمرها لتحقيق أكبر ربح ممكن في الآجل والعاجل.
يبدأ المؤلف مقدمته مقتبساً بضعة أسطر من كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله عندما ولاّه المأمون الرِّقة ومصر.
ومما جاء في الكتاب: "وافرَغْ من عمل يومك، ولا تؤخّره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإنّ لغدٍ أموراً وحوادثَ تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت، واعلم أن اليوم الذي مضى ذهب بما فيه، فإذا أخّرت عمله اجتمع عليك عمل يومين، وإذا أمضيت لكل يومٍ عمله، أرحت بذلك نفسك، وجمعت أمر سلطانك".
يقول المؤلف: دارت في ذهني هذه المقولة بعد أن انتهيت من إعداد هذا الكتاب ورحت أتساءل: كيف يكون غيرنا أقرب منا إلى قيمنا، وأوفى عهداً لتراثنا وأشبه منا بأسلافنا؟ نظرت لواقعهم فأدركت أننا كنا بهذا أولى منهم ولو اعتنقنا ما جاء به سلفنا الصالح لكان مكاننا في العالم الأول، لا العالم الثالث كما يحبون أن يصنفونا! لقد تأكد لي، لا للمرة الأولى، بل للمرة الألف بعد الألف، أن مفتاح الباب الذي يعبر بنا من حيث نحن إلى حيث نريد، يتلخص في ثلاث كلمات: الوقت هو الحياة.
إن قضية التنمية في المقام الأول قضية وقت وقضية إنتاج، وإن الأمر في حاجة إلى التعامل مع الوقت على أنه موردٌ لا بد من استثماره لتحقيق النتائج المطلوبة لرفاهية شعوبنا، ويقع عبء ذلك في الدرجة الأولى على عاتق كلَّ فردٍ منا.
إن العلوم الاجتماعية الحديثة قد أثبتت خطأ إلقاء اللوم على الأفراد فيما يختص بالظواهر الاجتماعية، كالاستهتار بقيمة الوقت، وأثبتت أن الأفراد نتاج بيئتهم الاجتماعية، وعلى هذا، فإننا لا بد أن نتساءل: ماذا حدث في المجتمع بحيث أصبحت قيمة الوقت لا تحتل مكانتها على قمة سُلّم القيم الاجتماعية عند الناس؟
إن الأفراد يكتسبون قيمهم الموجِهة لسلوكهم. ومن بينها قيمة الوقت، من خلال الأسرة، والمدرسة، والجامعة، ووسائل الإعلام، فإلى أي حدّ تغرس هذه المصادر قيمة الوقت في نفوس الناشئة منذ نعومة أظفارهم؟
ترى: هل يقدّر الآباء والأمهات قيمة الوقت؟ وهل في المقررات الدراسية على طول السنوات الطويلة مقرر يعلّم قيمة الوقت وكيفية إدارته واستثماره على أحسن وجه؟ وهل نال هذا الموضوع في المعاهد العليا والجامعات ما هو جدير به من الاهتمام؟ أقول بكثير من الجرأة: لا!
قسم المؤلف كتابه إلى ثمانية فصول جاءت على التسلسل التالي:
خصائص الوقت وأهميته في الإدارة
الوقت: الرؤية والافتراضات
تسجيل الوقت وتحليله
تحديد الأهداف والأولويات
تخطيط الوقت
مضيّعات الوقت وكيفية السيطرة عليها
إدارة الاجتماعات
تفويض السلطة أسلوبٌ من أساليب إدارة الوقت.
وجاءت - في آخر كل فصل - خلاصة مركزّة لأهم أفكاره لا تزيد على نصف صفحة إلا قليلاً. واعتمد المؤلف على حوالي عشرين مرجعاً باللغة العربية ومثلها بالإنجليزية، ومما يُحمد له أنه استفاد من مراجع اللغة الإنجليزية بصورة رئيسية، لأن هذا المجال قد سبقت إليه الشعوب الناطقة لتلك اللغة، ولا تكاد تمر بصفحة إلا وجدت فيها بعض المصطلحات والعبارات الإنجليزية بجانب ترجمتها.
يستهل المؤلف الفصل الأول من كتابه ببعض الأقوال المأثورة التي قيلت في الوقت. منها:
قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما". وقول الحسن البصري رحمه الله: "يا ابن آدم إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك". وقول الوزير الصالح يحيى بن هُبيرة:
والوقتُ أنفسُ ما عُنيتَ بحفظه *** وأراهَ أسهل ما عليك يضيعُ
قول توماس مان: "حافظ على وقتك جيّداً، احرسه، راقبه، افعل ذلك مع كل دقيقة وساعة. إن الوقت ينسلّ من بين أصابعك كالأفعى الناعمة، اعتبر كل دقيقة من وقتك شيئاً مقدساً، اعط كل دقيقة معنى ووضوحاً ووعياً".
إن الوقت مورد نادر لا يمكن تجميعه أو ادخاره وتخزينه، ولما كان سريع الانقضاء، وما مضى منه لا يعود، ولا يمكن أن يعوّض، فهو أنفس ما يملك الإنسان، إنه مورد محدد يملكه جميع الناس بالتساوي، وهو لا يمكن بيعه، أو سرقته، أو استعارته، أو تصنيعه. وكل ما يمكن أن يفعله المرء هو أن يقضيه وفق معدل ثابت مقداره ستون ثانية في كل دقيقة.
ومن أهمّ فصول الكتاب فصل تحديد الأهداف والأولويّات. فالمرء إذا أراد أن يسيطر على وقته ويزيد من فعاليته فعليه أن يحدد أهدافه تماماً وأن يعمل على تحديثها باستمرار، فالأهداف تحول بينه وبين القفز في المجهول، أو بينه وبين العمل غير الهادف، وتضعه في الاتجاه الإيجابي، وبدونها ربما يجد نفسه مسربلاً بالقلق، مؤتزراً بالتوتر، محاطاً بكل أنواع الضغوط الخارجية، بعضها يدفعه في اتجاه، والآخر يدفعه في الاتجاه المعاكس. إن وضع أهداف واضحة هو المقدمة الأولى لحسن توظيف الوقت المتاح. ومن خلال الأهداف يمكن للمرء أن يقيّم ما إذا كان نشاط بعينه يمثل توظيفاً أحسن للوقت من غيره من الأنشطة. ومن خلال الأهداف كذلك يمكن للمرء أن يضع سلماً لأولوياته ، إن الأهداف عنصر أساسي لتحقيق الاستقرار الشخصي والاستمتاع بقيمة الحياة.
وقد دلت بعض الدراسات الغربية على موت عدد لا يستهان به من المديرين الذين يتقاعدون في سنّ الخامسة والستين بعد ثمانية عشر شهراً من تقاعدهم، وربما كان ذلك لأنهم فقدوا الأهداف التي كانوا يسعون لتحقيقها، وبالتالي فقدوا الأمل، واتجاه السير، وحيوية اتخاذ القرارات، فأصبحت الحياة عندهم لا تستحق العيش، وسواء كان الأمر متعلقاً بإدارة الوقت الخاص بالشخص ذاته، أو بوقت وظيفته وعمله، فإن الأهداف تظلّ المفتاح الرئيسي لأي جهد رشيد، والمحور الأساسي للعملية التخطيطية، وبدونها لا تؤدي الجهود إلى شيء. فبالأهداف تصبح إدارة الوقت ممكنة، وبإدارة الوقت يصبح تحقيق الأهداف ممكناً بعون الله وتوفيقه.
ومن أهم فصول الكتاب أيضاً فصلُ مضيِّعات الوقت وكيفية السيطرة عليها. ويذكر المؤلف عدداً من مضيّعات الأوقات، منها: الزيارات المفاجئة، الاجتماعات غير الناجحة، والتردد في اتخاذ القرارات، وسوء ترتيب الأولويات، والمقاطعات في أثناء العمل، والمجاملات الاجتماعية، وقراءة الصحف والمجلات، والمكالماتُ الهاتفية غير اللازمة.
وحول استخدام الهاتف يقول: "يُستخدم الهاتف عادة لتحقيق أهدافٍ معينة، يكون حينئذٍ أكثر فعالية من أي وسيلة اتصال أخرى. ولكنْ كثيراً ما يكون وسيلة لإضاعة الوقت". ويذكر المؤلف تسعة مقترحات حول استخدام الهاتف يختمها بنصيحة عدم استعماله لمناقشة المسائل المهمة لأنْ الحديث فيه ينقصه التأثير الذي تحدثه المقابلة وجهاً لوجه. ثم يقدم المؤلف اثنتي عشرة نصيحة لزيادة فعالية استخدام الهاتف منها: تخصيص وقت معين في اليوم -إن أمكن- لإجراء المكالمات الهاتفية، والاتصال قُبيل نهاية دوام الموظف، وقُبيل موعد عودة الزوج من عمله، أو الأولاد من مدارسهم للأم وربة البيت، فلا تطول المحادثة الهاتفية حينئذ. ومن أهمها عدم الرد على الهاتف إذا كان المرء مشغولاً بأمرٍ مهم. وقد حلّ جهاز التسجيل مشكلةَ تلقي المكالمات المهمة نيابةً عن صاحبه. وما أكثر الأوقات التي تضيع على الموظفين بسبب مكالمات المجاملة في أماكن العمل، وفي أوقات الصباح الحافلة بالواجبات على ربات البيوت.
ومن فضل الله أن المكتبة العربية ظهرت فيها بعض الكتب الجيدة عن الوقت، منها ما يثير الحماسة لحسن الاستفادة منه، ويقنع المرء بأهميته ولكنه لا يعلّمنا: ماذا نعملَ!! ومنها ما أخذ طابع الإدارة البحتة فصار فيه بعض الجفاف، والجمع بين الصنفين خير، ولا بد منه.