لماذا نملأ حياتنا بتتبع أخطاء الآخرين والإصرار على طرحها ومناقشتها ؟! ونفقد بذلك دقائق وساعات بل ربما أياما ، نناقش ونتفاعل ونتأزم، بل حتى عندما نتسامح تبدأ الذكرى ونتذكر تلك اللحظات المؤلمة، ومالنا لا نتذكر، وقد سمحنا لتلك الأخطاء أن تتخذ لها مكانا في ذاكرتنا بمناقشتها والبحث في ثناياها .. وذهبت أيامنا كلها حزنا في حزن.
لو أمعنا النظر في قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -: "فليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورا لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقاً، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر ...... الذي تعقبه التوبة " [مجموع الفتاوى ج 11 ] .. قال – رحمه الله – ذلك في أولياء الله المتقين، فما بالنا ببقية الناس ؟!
رفقا بمن حولك:
يتتبع الأب أخطاء ابنه ليرهقه بكثرة العتاب وشدة المعاقبة، وكأن هذا الابن ولد متعلما، بل وكأن هذا الأب لم يُأمر بتربية أبناءه .. وأي تربية هذه التي تجعل من العقاب الخطوة الأولى، ومن التعليم الخطوة الثانية ؟! .. وأي نفس تتقبل النصح بعد قسوة العتاب وربما التجريح؟! فينشأ الطفل محملا بالجروح والإهانات وتنعدم سبل التواصل بينه وبين والديه .. هذا هو الحال مع أب وابنه أو أم وابنتها، فكيف سيكون الحال بين زوج وزوجته؟! وبين صديق وصديقة؟! وموظف ورئيسه؟! .. فلنتغاضى قليلاً حتى تسير الحياة سعيدة هانئة لا تكدرها صغائر، وتلتئم القلوب على الحب.
التغافل عن الأخطاء ليس تأكيدا للخطأ أو عدم اهتمام به، وليس سذاجة ولا غباء ولا ضعف، بل هو الحكمة بعينها .. قال أهل الفضل: لا يكون المرء عاقلاً حتى يكون عما لا يعنيه غافلاً.
وقال عثمان بن زائدة: قلت للإمام أحمد: العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل، فقال: "العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل" وهو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور.
ليس الغبي بسيد في قومه .. لكن سيد قومه المتغابي!
إن «أدب التغافل» هو من أدب السادة، أما السوقة فلا يعرفون مثل هذه المكرمات، ولذلك تراهم لدناءة همتهم يحصون الصغيرة، ويجعلون من الحبة قبة، ومن القبة مزاراً، وهؤلاء وإن أظهروا في الإحصاء على الآخرين فنونا متنوعة من ضروب الذكاء والخداع، لكنه ذكاء أشبه بأمارات أهل الحمق الذين تستفزهم الصغائر عند غيرهم، ولا يلقون بالا للكبائر عند أنفسهم، وأمثال هؤلاء لا يكونون من السادة في أقوامهم.
أطيب الأقوال :
- تغافل عن الخطأ ولا تفكر في الوقوف عنده لتعاتب، فإن كثرة العتاب تنفر وتفرق. كما أن الحس النبيل يقتضي « ترك البحث عن باطن الغيوب، والإمساك عن ذكر العيوب».
- قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لا تظنَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً.
- وقال الإمام ابن القيم: من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته، حقاً كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله.
- ثم قال: وعلامة الكرم والتواضع أنك إذا رأيت الخلل في عذره لا توقفْه عليه ولا تحاجَّه، وقل: يمكن أن يكون الأمر كما تقول، ولو قضي شيء لكان، والمقدور لا مدفع له ونحو ذلك.
- وقال الإمام الشافعي: الكيس العاقل؛ هو الفطن المتغافل.
- وقال الحسن: ما استقصى كريم قط ، قال الله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} [التحريم:3].
- وقال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام.
من روائع الأخبار:
• من أحسن ما روي في التغافل، فعل نبي الله يوسف عليه السلام لما ذكر أمر ما وقع من إخوته - بعد وعده لهم أنه لا تثريب عليهم – قال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100]. ولم يقل: من بعد أن فعل إخوتي ما فعلوا من محاولة قتلي أو التخلص مني وحرماني من أبي أو حرمانه مني، وإنما نسب الفعل إلى الشيطان، بل وبدأ بنفسه فقال: {بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} حتى لا يكون هناك تلميح ولو من بعيد بأن الشيطان أتى من ناحيتهم.
• قال أبو علي الدقاق: جاءت امرأة فسألت حاتماً عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة فخجلت، فقال حاتم: ارفعي صوتك، فأوهمها أنه أصمّ، فسرّت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت فلقّب بـ «حاتم الأصم».
• ومن هذه المواقف الجلية في أدب التغافل، ما ذكره ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأن لم أسمعه قط وقد سمعته قبل أن يولد.
• قال ابن الأثير واصفا صلاح الدين الأيوبي: " وكان صبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه. وبلغني أنه كان جالسًا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضًا بسرموز [يعني:بنعل] فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته، ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه ؛ ليتغافل عنها ".
فما أجمل أن تكون صيغ وكلمات العتاب معبرة وموحية وممزوجة بالحب والعطف والشفقة على محدثه؛ لتنفذ هذه النصائح والكلمات إلى قلبه فيتأثر بها ويعمل بمقتضاها.