البصيرة خير من البصر

03/06/2014| إسلام ويب

مع أجواء المحن التي تمر بها الأمة الإسلامية، تجد النفوس تهفو إلى من يوقظ فيها معاني الصبر والثبات، ويذكرها بسنن الله تعالى في دفع الباطل بالحق، ويحرك القلوب لأن تضرع إلى بارئها بالتوبة والاستغاثة أن يكشف الغمة.. تعود القلوب قبل الأذهان إلى أعلام الأمة الرجال الذين ثبتوا في أوج الأزمات، خاصة الأفذاذ المعاصرين الذين شاركونا نفس محن العصر وأنين الواقع المرير.

ولذلك ليس غريبا أن تعود تقرع الآذان خطب الشيخ «عبد الحميد كشك» في البيوت وعلى شاشات الفضائيات وسائر المنتديات الإعلامية والثقافية والالكترونية.. النبرات القوية، ورباطة الجأش، والصدع بالحق دون أن تأخذ صاحبها في الله لومة لائم.. إنه «أسد المنابر» الذي لم يعرف في مسيرته الدعوية المداهنة ولا أنصاف الحلول ولا اللون الرمادي ولا المواقف المتميعة، بل كان يشخص الداء ويصف الدواء بجرأة متناهية غير عابئ بجور السلطان ولا سجن السجان.

إن المحنة التي يمر بها واقعنا العربي المعاصر محنة مريرة فاضحة.. كشفت الأقنعة والعمائم، وأظهرت معادن النخب نفيسها وحقيرها، وأبرزت زيف مفاهيم عشنا بها ردحا من الدهر مخدرين ومغيبين، وتبين للجميع أن الديمقراطية إن كانت جنة فهي محرمة على الشعوب الإسلامية، وأن الآخر لا يعرف إلا لغة الإقصاء والاجتثاث وليس الحوار، وأن الجاهلية المعاصرة لا تختلف إطلاقا عن كافة الجاهليات عبر التاريخ.. تهاوت في أتون المصالح والمنافع شعارات التعايش السلمي، وأخوة الإنسانية، وحيثيات القانون الدولي، وبنود لجان الحريات وحقوق الإنسان.

ولقد كان الشيخ كشك من الرواد المعاصرين الذين أماطوا اللثام عن جاهلية العصر وهاجموا رموزها بكل جرأة وبسالة من فوق صرح منبره بمسجد «عين الحياة» طيلة عشرين عاما دون كلل أو ملل أو خوف أو وجل.

وقد كان – رحمه الله- مسددا في بداياته ومسيرة حياته ونهاياته.. حفظ القرآن الكريم قبل سن العاشرة من عمره، ثم التحق بالمعهد الديني في الإسكندرية، وكان ترتيبه الأول على مستوى الجمهورية في الشهادة الثانوية الأزهرية، ثم التحق بعدها بكلية أصول الدين في جامعة الأزهر وكان الأول على طلبة الكلية طول سنوات الدراسة.

تحس وأنت تسمع خطب الشيخ كشك برجل أنار الله بصيرته وإن فقد بصره، وبأنه ليس موظفا بل صاحب رسالة تلخصت في عباراته الشهيرة: (أما بعد: فيا حماة الإسلام وحراس العقيدة)، (هنا مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم)..

كان صاحب إحساس عال بجراح الأمة، وبجرأة فريدة على كل الطغاة في زمن الانبطاح والتي كلفته كثيرا من سنوات عمره قضاها في غياهب السجون.. كان يشفي الغليل، ويبدع في وصف أدواء الأمة ودوائها، فاجتمعت عليه القلوب والأبدان، حتى قال عنه (جيلز كيبل) رجل المخابرات الفرنسي: "نجح كشك في ‏إعادة رسالة المسجد في الإسلام، حيث تحول مسجده إلى خلية نحل تكتظ بحشود ‏المصلين".

مواقف رجولية
كان الشيخ صاحب خفة ظل ونقد ساخر ولاذع، وكان ينبثق نقده من واقع المجتمعات وليس من تصيد الأخطاء، ومن أقوله الشهيرة: "الظلم تسعة أعشاره عندنا في السجن، وعشر يجوب العالم كله، فإذا أتى الليل بات عندنا".

وكان – رحمه الله- ضد المؤسسة الرسمية في تعليق أخطائها على شماعة التكدس السكاني، حيث أرجع كبواتها إلى المعاصي والتفريط في جنب الله متأسيا بهدي الإسلام في تشخيص الداء ووصف الدواء.. فيقول: "إن تحديد النسل لن يحل المشاكل.. إنما المعاصي.. المعاصي.. الخمور، الربا، الزنا، القمار، الظلم، الغيبة، النميمة، قطع الرحم، شارع الهرم.. الزنا يورث الفقر، وبشر الزاني بخراب بيته ولو بعد حين.
إذا كنت في نعـمة فارعها *** فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد *** فإن الإله سريـــع النقـــم

وكان الشيخ شديدا في نقده لأهل الفن الماجن، والإعلام المضلل، وكان من الرواد القلائل الذين كشفوا زيف الإعلام المشبوه وخطورة تأثيره على البسطاء، ومخطط الغزو الثقافي لمسخ هوية الأمة الإسلامية، ومن مواقفه الشهيرة مهاجمته لمسلسل استعرض سيرة الأديب «عباس محمود العقاد» في المفسديون – كما كان يطلق عليه- حيث قال: "لم يعرضوا لعبقرية محمد، ولا لعبقرية عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا خالد.. إنما أظهروه أمام شبابنا بمنظر مؤسف ومخجل.. العقاد كاتب إسلامي، كتب العبقريات.. ولكن لما أراد المفسديون المصري أن يعرض العقاد لم يعرض لعبقرياته، ولا لكتبه الإسلامية، إنما عرضه على أساس أنه (حبوب)!، وعلى أنه (روميوا)!، وعلى أنه شاب مراهق، يحب فتاة سمها "سارة" ويحب أخرى اسمها "مي" إلى غير ذلك.. عرضوا العقاد على أنه ساقط ، على أنه شاب رقيع، لا شغل له إلا النساء، إلا المشي مع النساء، ليقولوا لشبابنا: يا شباب مصر، خذوا القدوة من عباس العقاد.. كونوا على صلة بالفتيات، وعلى صلة بالنساء.. أهذا هو العقاد؟! أتلك هي القدوة؟! أهذه هي التربية؟!.

عرض على الشيخ العمل خارج مصر فأبى وقال: "هذا التولي يوم الزحف". وكان ينادي بأن يكون منصب شيخ الأزهر بالانتخابات لا بالتعيين، وأن يعود الأزهر إلى ما كان عليه قبل قانون التطوير عام 1961م، وأن تقتصر الدراسة فيه على الكليات الشرعية، وهي: أصول الدين واللغة العربية والدعوة؛ فقد كان الشيخ كشك يرى أن الوظيفة الرئيسة للأزهر هي تخريج دعاة وخطباء للمساجد التي يزيد عددها في مصر على مائة ألف مسجد. بل رفض كذلك أن تكون رسالة المسجد تعبدية فقط، وكان ينادي بأن تكون المساجد منارات للإشعاع فكريًا واجتماعيا.

حسن الخاتمة
توضأ الشيخ في بيته لصلاة الجمعة وكعادته كان يتنفل بركعات قبل الذهاب إلى المسجد، فدخل الصلاة وصلى ركعة، وفي الركعة الثانية سجد السجدة الأولى ورفع منها ثم سجد السجدة الثانية وفيها أسلم الروح إلى بارئه.. متوضئاً مصلياً ساجداً.. كان ذلك في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رجب لعام 1417 هـ، الموافق 6 ديسمبر لعام 1996م.

وبقدر ما كان الحزن يعتصر المعزّين، بقدر ما كانت سعادتهم بهذه الخاتمة الطيبة الحسنة، فالمرء يُبعث على ما مات عليه، لذلك فإن الشيخ "محمد حسان" عندما حضر إلى العزاء ليلة الوفاة، قال لأبنائه: "لم آت مُعزياً، وإنما أتيت مهنئاً.. وحق لكم أن ترفعوا رؤوسكم لأنكم أبناء المجاهد الطاهر عبد الحميد كشك".

رحم الله الشيخ كشك رحمة واسعة، فقد كان قامة شامخة في وقت كثر فيه الأقزام، وكان من القلائل الذين لمعوا كالبرق في ظلمات وقت كان الجهر بالحق ثمنه غاليا، والمداهنة هي المتفشية، وتملق السلطان هي السمة الغالبة لنخب باعت ضمائرها إلا من رحم الله منهم.

www.islamweb.net