من أوائل آيات الأحكام التي صُدِّر بها القرآن الكريم قوله تعالى في فاتحة سورة البقرة: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} (البقرة:3). فهذه الآية الكريمة وصفت المؤمنين بصفات ثلاث: الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق في وجوه الخير :
أولاً: قوله تعالى: {يؤمنون بالغيب}
(الغيب) مصدر بمعنى الغَيْبة، والمراد {بالغيب} في الآية: ما لا يدرك بالحواس مما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صريحاً بأنه واقع، أو سيقع؛ مثل وجود الله سبحانه، وصفاته، ووجود الملائكة، والشياطين، وعلامات الساعة، وما استأثر الله بعلمه. فالمعنى: الذين يؤمنون بما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم من المغيبات، كالإيمان بالملائكة، والبعث، والروح ونحو ذلك من الغيبيات. وفي الحديث المشهور، وقد سُئل جبريل عليه السلام عن الإيمان، فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) رواه مسلم. وهذه كلها من عوالم الغيب.
وخُص الإيمان {بالغيب} بالذكر دون غيره من متعلقات الإيمان؛ لأن الإيمان بالغيب هو الأصل في اعتقاد ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول، وللنظر فيما يبلغه عن الله تعالى، فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أنه ليس وراء عالم الماديات عالم آخر، فقد وطَّن نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة، كما هو حال الماديين.
ثانياً: قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة}
(الإقامة) مصدر أقام، و(الإقامة) جَعْلُها قائمة، مأخوذ من قولهم: قامت السوق: إذا نفقت، وتداول الناس فيها البيع والشراء. وقام الشيء، أي: دام وثبت؛ وليس من القيام على الرِّجْل؛ وإنما هو من قولك: قام الحق، أي: ظهر وثبت.
و(إقامة) الصلاة شرعاً: أداؤها بأركانها، وسننها، وهيئاتها في أوقاتها. قال ابن عاشور: (إقامة) الصلاة استعارة تبعية، شُبهت المواظبة على الصلوات والعناية بها بجعل الشيء قائماً. وأحسب أن تعليق الفعل {يقيمون} بالصلاة من مصطلحات القرآن، وقد جاء به القرآن في أوائل نزوله، فقد ورد في سورة المزمل: {وأقيموا الصلاة} وهذه السورة ثالثة السور نزولاً.
و(الصلاة) أصلها في اللغة الدعاء، مأخوذة من صلى يصلي: إذا دعا؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطراً فلْيَطْعَم، وإن كان صائماً فلْيُصلِّ) رواه مسلم، أي: فلْيَدْعُ. و(الصلاة) المقصودة في الآية هي العبادة المخصوصة المشتملة على قيام وقراءة وركوع وسجود وتسليم.
و(إقامة الصلاة) بمعنى النداء الذي بين الأذان والصلاة، سُنة عند جمهور أهل العلم، ولا إعادة على تاركها. وقال بعض أهل العلم: هي واجبة وعلى من تركها الإعادة؛ روي ذلك عن مالك، واختاره ابن العربي. وقال بعض أهل العلم: من تركها عمداً أعاد الصلاة، وليس ذلك لوجوبها، وإنما ذلك للاستخفاف بالسنن.
وأكثر أهل العلم على أن من سمع الإقامة لا يُسرع إلى الصلاة، وإن خاف فوت الركعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، وعليكم السَّكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) رواه مسلم. وذهب جماعة من السلف إلى أن المصلي إذا خاف فوات الصلاة أسرع. قال القرطبي: واستعمال سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال أولى، فيمشي وعليه السكينة والوقار.
و(الإقامة) تمنع من ابتداء صلاة نافلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) رواه مسلم؛ فأما إذا شرع في نافلة، فلا يقطعها؛ لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} (محمد:33) وخاصة إذا صلى ركعة منها.
والمراد بـ {الصلاة} في الآية: الفرائض والنوافل معاً؛ لأن اللفظ عام، و(المتقي) يأتي بهما.
و{الصلاة} لا تصح إلا بشروط وفروض؛ فمن شروطها: الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، ودخول الوقت. أما فروضها: فالنية، وتكبيرة الإحرام، والقيام لها، وقراءة الفاتحة، والقيام لها، والركوع والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من الركوع والاعتدال فيه، والسجود والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من السجود، والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه، والسجود الثاني والطمأنينة فيه.
واتفق أهل العلم على وجوب النية عند تكبيرة الإحرام، قال ابن العربي: والأصل في كل نية أن يكون عقدها مع التلبس بالفعل المنوي بها، أو قبل ذلك بشرط استصحابها، فإن تقدمت النية، وطرأت غفلة، فوقع التلبس بالعبادة في تلك الحالة لم يُعتد بها، كما لا يُعتد بالنية إذا وقعت بعد التلبس بالفعل. وقد رُخِّص في تقديمها في الصوم؛ لعظم الحرج في اقترانها بأوله.
ومن تمام النية أن تكون مُسْتَصْحَبَة على الصلاة كلها، إلا أن ذلك لما كان أمراً متعذراً، سمح الشرع في غياب النية في أثنائها.
و(تكبيرة الإحرام) لافتتاح الصلاة واجبة في أكثر أقوال أهل العلم، وأنها فرض وركن من أركان الصلاة؛ قال القرطبي: وكل من خالف ذلك فمحجوج بالسُّنَّة. وعندهم أيضاً، أنه لا يجزئ في افتتاح الصلاة إلا لفظ (الله أكبر). وقال أبو حنيفة: إن افتتح بـ (لا إله إلا الله) أجزأه.
و(التكبير) في الصلاة ما عدا تكبيرة الإحرام سُنَّة عند الجمهور، لكن لا ينبغي لأحد أن يترك التكبير عامداً؛ لأنه سُنَّة من سنن الصلاة، فإن تركه فقد أساء، ولا شيء عليه وصلاته صحيحة.
و(التسبيح) في الركوع والسجود سُنَّة عند الجمهور، وليس بواجب. و(الجلوس) الأول والتشهد له سنتان عند مالك. وأوجب جماعة من العلماء الجلوس الأول. واختلفوا في الجلوس الأخير في الصلاة؛ فمذهب الشافعي وأحمد بن حنبل في رواية: أن الجلوس وقراءة التشهد فرض. ومذهب الحنفية: أن الجلوس مقدار التشهد فرض، وليس التشهد بواجب.
والصحيح من أقوال أهل العلم أن (السلام) للخروج من الصلاة واجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) رواه أصحاب السنن إلا النسائي، قال القرطبي: وهذا الحديث أصل في إيجاب التكبير والتسليم، وأنه لا يجزئ عنهما غيرهما.
ثالثاً: قوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون}
(الرزق) ما يناله الإنسان من موجودات هذا العالم، التي يَسُدُّ بها ضروراته وحاجاته، فيُطلق على كل ما يحصل به سَدُّ الحاجة في الحياة من الأطعمة، والحيوان، والشجر المثمر، والثياب، وما يقتني به ذلك من النقدين، قال تعالى: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} (النساء:8) أي: مما تركه الميت. وقال سبحانه: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} (الرعد:26).
قال ابن عاشور: واشتهر استعماله بحسب كلام العرب وموارد القرآن، أنه ما يحصل من ذلك للإنسان، وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء، فهو على المجاز،كما في قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود:6).
و(الإنفاق) إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس، والأهل، والعيال، ومن يرغب في صلته، أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس.
وللعلماء أقوال في المراد بـ (الإنفاق) في الآية:
فقيل: المراد بـ (الإنفاق) هنا الزكاة المفروضة، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ لمقارنتها الصلاة.
وقيل: المراد نفقة الرجل على أهله، روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن ذلك أفضل النفقة.
وقيل: المراد الحقوق الواجبة العارضة في الأموال، ما عدا الزكاة؛ لأن الله تعالى لما قَرَن في الآية (الإنفاق) بـ (الصلاة) كان فرضاً، ولما عَدَل عن لفظ (الزكاة) كان فرضاً سواها.
وقيل: المراد صدقة التطوع.
وقال بعض المتقدمين في تأويل قوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} أي: مما علمناهم يعلمون.
قال القرطبي: هو عام -وهو الصحيح-؛ لأنه خرج مخرج المدح في الإنفاق مما رُزقوا، وذلك لا يكون إلا من الحلال، أي: يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وغيرها مما يطرأ في بعض الأحوال مع ما ندبهم إليه.
قال ابن عاشور: المراد هنا إنفاق المال في نفع الفقراء وأهل الحاجة وسدِّ نوائب المسلمين؛ بقرينة المدح، واقترانه بالإيمان والصلاة، فلا شك أنه هنا خصلة من خصال الإيمان الكامل، وهي الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة؛ إذ لا يُمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله؛ إذ ذلك مما تدعو إليه الفطرة، فلا يعتني الدين بالتحريض عليه؛ فمن الإنفاق ما هو واجب، وهو حق على صاحب الرزق، للقرابة والمحتاجين من الأمة ونوائب الأمة، كتجهيز الجيوش والزكاة. وبعضه محدد، وبعضه تفرضه المصلحة الشرعية الضرورية أو الحاجية. ومن الإنفاق تطوع، وهو ما فيه نَفْع من دعا الدين إلى نفعه.
وقد قال أهل العلم: ليس لأحد أيًّا كان، ولا لمجموع الناس حق فيما جعله الله رزقاً لأحد من خلقه؛ لأنه لا حق لأحد في مال لم يسع لاكتسابه بوسائله المشروعة.
أخيراً، فإن اختيار ذكر هذه الصفات الثلاث -الإيمان بالغيب، إقامة الصلاة، الإنفاق-للمؤمنين دون غيرها من الصفات الإيمانية؛ لأنها أول ما شُرع من الإسلام، فكانت شعار المسلمين؛ ولأن هذه الصفات هي دلائل إخلاص الإيمان. وقد قيل في هذه الآية: {يؤمنون بالغيب} حظ القلب. {ويقيمون الصلاة} حظ البدن. {ومما رزقناهم ينفقون} حظ المال. والله الموفق للصواب.