أوضح القرآن الكريم في العديد من آياته مواقف أهل الكتاب والمشركين من المسلمين، وبيَّن أنهم على العموم لا يودون الخير للمسلمين، بل هم على العكس من ذلك، يضمرون لهم كل شر، ويكيدون لهم كل الكيد.
ومن الآيات التي تتحدث عن هذا الموقف قوله تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} (البقرة:109). فالله سبحانه يحذر عباده المؤمنين من سلوك طرائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، والسر والعلن، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم. ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح.
نحاول في السطور التالية تتبع ما جاء في سبب نزول هذه الآية؛ ليستبين لنا من بعدُ غايتها، ويتضح مرماها.
ورد حول سبب نزول هذه الآية عدة روايات، هي على النحو التالي:
الرواية الأولى: روى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (نزلت في نفر من اليهود، قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم؟ ولو كنتم على الحق ما هُزمتم، فارجعوا إلى ديننا، فهو خير لكم). فهذه الرواية تفيد أن نفراً من اليهود كانوا يودون لو يعود المسلمون عن دين الإسلام، وهي توافق ظاهر الآية، من جهة ودِّ كثير من أهل الكتاب أن يعود المسلمون عن دينهم.
الرواية الثانية: روى الطبري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسداً، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهِدَين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله فيهما: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً}. وهذه الرواية تدل على أن ما أخبرت عنه الآية الكريمة إنما صدر عن اثنين من اليهود، في حين أن الآية تفيد أن الفعل قد صدر عن عدد كثير من أهل الكتاب. وقد يقال هنا: إن الاثنين في اللغة يطلق على أقل الجمع، ما يعني أن ما جاء في هذه الرواية لا يخالف ما أخبرت عنه الآية.
الرواية الثالثة: روى الواحدي بسنده عن كعب بن مالك رضي الله عنه، أن كعب بن الأشرف اليهودي، كان شاعراً، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان المشركون واليهود من المدينة حين قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى، فأمر الله تعالى نبيه بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وفيهم أنزلت: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره}. وهذه الرواية تفيد أن ما أخبرت عنه الآية الكريمة إنما صدر عن شخص بعينه، وأيده كثير من اليهود، فصح أن يوصف هؤلاء بالكثرة التي نصت عليها الآية.
الرواية الرابعة: روى الصنعاني وابن أبي حاتم وغيرهما، أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنزل الله: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم} إلى قوله: {فاعفوا واصفحوا}. وهذه الرواية تفيد أن سبب نزول هذه الآية ما كان من أمر كعب بن الأشرف، وهي تخالف ظاهر الآية. وقد وهَّن الطبري هذه الرواية من جهة المتن؛ وذلك أن ما أخبرت عنه الآية الكريمة يفيد أن ذلك إنما صدر عن عدد من أهل الكتاب، وليس عن فرد منهم، كما جاء في هذه الرواية.
ويفيد مجموع هذه الروايات أن أهل الكتاب ومن شايعهم من المشركين في عصر الرسالة لم يرق لهم إقبال العرب على هذا الدين، وانضمامهم إلى صفوف المؤمنين، بل كان ذلك مصدر إزعاج لهم، ما دفعهم إلى انتهاز المناسبة تلو الأخرى للتعبير عن دخائل نفوسهم، وحقيقة أمرهم، وأنهم ليسوا غير راغبين في الانضواء تحت لواء هذا الدين فحسب، بل إنهم فوق ذلك يتمنون خروج من دخل فيه، ويسعون جهدهم لصد الناس عنه.
وهذا الموقف الذي أخبر عنه القرآن منذ قرون مديدة، يصدقه واقع هؤلاء القوم اليوم، فإن كثيراً من يهود ونصارى هذا العصر ومن شايعهم من أعداء هذا الدين، يسعون من وراء حجاب لرد المؤمنين عن دينهم، ويبذلون قصارى جهدهم -مادياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً- لإخراج الناس من الإسلام، أو على الأقل لمنع الآخرين من الدخول فيه، وما ذلك إلا حسداً لما حققه هذا الدين من حضور وقبول بين الناس، واستكباراً في الأرض وعناداً عن الطريق القويم، والنهج المستقيم.
وإذا كان إخبار القرآن حقاً لا ريب فيه، فحريٌّ بالمسلمين اليوم - وخاصة من كان منهم في موقع القرار والمسؤولية - أن لا يركنوا إلى هؤلاء القوم، وأن يأخذوا حذرهم، دون أن يعني ذلك بالضرورة الوقوف منهم موقف العداء والمواجهة والمجابهة، بل التنبه والحيطة والحذر، وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} (النساء:71).