يعد كتاب "دراسات لأسلوب القرآن الكريم"، لمؤلفه محمد عبد الخالق عضيمة أول دراسة تقوم على استقراء أسلوب القرآن في جميع رواياته المتواترة والشاذة. كتاب وصفه شيخ العربية وإمام المحققين بأنه "عمل قام به فرد واحد، لو قامت به جماعة لكان لها مفخرة باقية. فمن التواضع أن يسمى هذا العمل الذي يعرضه هذا الكتاب "معجماً نحوياً صرفياً للقرآن العظيم". هذا ما قاله الأستاذ محمود محمد شاكر في حق هذا الكتاب في أثناء تصديره له.
الغرض من الكتاب
ذكر المؤلف في مقدمة كتابه أنه وضع هذا الكتاب؛ ليصنع للقرآن الكريم معجماً نحوياً صرفياً، يكون مرجعاً لدارس النحو. فهذا الغرض الأساس من عمل المؤلف في هذا الكتاب؛ إذ كانت الحاجة ماسَّة إلى وضع دراسة شاملة لأسلوب القرآن الكريم في جميع رواياته، وذلك أن هذه القراءات ثروة لغوية ونحوية جديرة بالدرس، وفيها دفاع عن النحو، تعضد قواعده، وتدعم شواهده.
ولا يعني تصريح المؤلف بما تقدم أن فائدة هذه الدراسة محصورة بدارسي النحو واللغة فحسب، بل إن المفسر والمشتغل بالقرآن بحاجة ماسَّة أيضاً لهذا النوع من الدراسة التي تتناول أسلوب القرآن من جوانب متعددة.
مضمون الكتاب
يتركز موضوع الكتاب على ثلاثة جوانب أساسية: يتناول المؤلف في الجانب الأول حروف المعاني (الأدوات النحوية)، فيدرسها دراسة موسعة، مستوعباً جمع تلك الحروف والأدوات في مواضعها كافة في القرآن بحسب الترتيب الأبجدي، فيبتدئ بالحرف (إذ) وينتهي بأداة النداء (يا) مبيناً معنى كل حرف من هذه الحروف (الأدوات)، وناقلاً لأقوال اللغويين والمفسرين فيها، ومناقشاً ومستدركاً عليهم ما بدا له من رأي. وقد استغرقت دراسة هذه الحروف (الأدوات) ثلاثة أجزاء، وهي القسم الأول من الكتاب.
الجانب الثاني يتعلق بالجانب الصرفي، ويتناول المؤلف هذا الجانب بحسب تقسيم الأبواب والأوزان الصرفية، فبدأ هذا الجانب بالحديث عن صيغة (أفعل) وأبنيته، وانتهي بالحديث عن الإعلال، وما بينهما من مباحث صرفية، كالمفرد والجمع، والتذكير والتأنيث، وغير ذلك. وقد استغرقت دراسة هذا الجانب من المؤلف أربعة أجزاء، وهي تشكل القسم الثاني من الكتاب.
الجانب الثالث من موضوع الكتاب يتعلق بالجانب النحوي، وقد تناول المؤلف في هذا الجانب جميع الأبواب النحوية بحسب ترتيب النحويين لها، فبدأ هذا القسم بلمحات عن دراسة الضمائر بأنواعها، ثم بدراسة عن الأسماء الموصولة، فدراسة المبتدأ والخبر، والفاعل واسم الفاعل واسم المفعول...وثنى بدارسة الفعل بأزمنته الثلاثة، فبدأ بالفعل الماضي ثم المضارع ثم الأمر، وختم بدارسة فعل التعجب. وقد استغرقت دراسة هذا الجانب من المؤلف أربعة أجزاء أيضاً. فجاء الكتاب في مجموعه في أحد عشر جزءاً.
وبدراسة هذه الأقسام الثلاثة يكون المؤلف قد استوعب دارسة كل كلمة من القرآن الكريم، باعتبار أن الكلام إما حرف وإما اسم وإما فعل ولا رابع لها. وقد ذكر المؤلف أن الآيات والقراءات التي وردت في بحثه أو أشير إليها تجاوزت (28700) آية، ما يدل على الجهد الذي بذله المؤلف في هذه الدراسة.
منهج المؤلف
أشرنا إلى أن المؤلف رتب القسم الأول المتعلق بدارسة حروف المعاني ترتيباً أبجدياً، وجمع تحت كل حرف ما ورده تحته من حروف قرآنية، وأنه رتب القسمين الثاني والثالث بحسب ترتيب أبواب النحو والصرف، وجمع في كل باب ألفاظه القرآنية؛ ليسهل على القارئ الوقوف على الآيات عن طريق هذه الألفاظ.
وقد قدَّم المؤلف بين يدي دراسة كل حرف أو باب صرفي أو نحوي مختصراً واضحاً لعناصر الدراسة التفصيلية، واختار لفعله هذا العنوان التالي: "لمحات عن دراسة..."، وقد آثر المؤلف هذا المسلك لسببين:
الأول: تقريب الدراسة إلى نفوس القراء على اختلاف درجاتهم الثقافية، وتيسرها لهم، فمن أراد اكتفى بالقدر المختصر، ومن أراد المزيد ولج في التفصيل.
الثاني: حرية نقل النصوص في الدراسة التفصيلية، لأن البحوث النحوية إن لم ترتكز على النصوص كانت كلاماً إنشائياً.
مآخذ المؤلف على النحويين
قارئ هذا الكتاب لا يعجزه أن يجد أن المؤلف قد بذل جهداً غير عادي فيما قرره ووصل إليه من نتائج، ولعل من الأمور المهمة التي تستوقف قارئ هذا الكتاب تلك الانتقادات والاستدراكات التي يأخذها المؤلف على النحويين المتقدمين وعلى المفسرين كذلك، هذا من جانب، ومن جانب آخر يبرز دفاع المؤلف عن القراء، الذين نقلوا إلينا روايات القرآن المتواتر منها والشاذ.
والمؤلف إذ يفعل ذلك لا يفعله تحيزاً لطرف على حساب طرف، بل يتحيز لما يؤيده الدليل، ويرشد إليه البحث. وينطلق المؤلف بهذا الصدد من نقطة مهمة قد يغفلها البعض حاصلها أن القرآن الكريم برواياته كافة، المتواترة والشاذة، حجة في اللغة، وعدم توفر شرط التواتر في القراءة الشاذة لا يجعلها غير صالحة للاحتجاج؛ لأن رواية الواحد من أهل اللغة إذا كانت معتبرة ومقبولة، ، فمن باب أولى أن تكون رواية القارئ أجدر بالقبول والاعتبار.
من جملة المآخذ التي يأخذها المؤلف على النحويين ما ذكره من أن "سيبويه استشهد بالشعر أكثر من استشهاده بالقرآن". ومن هذا القبيل ما ذكره من أن "للنحويين قوانين كثيرة لم يحتكموا فيها لأسلوب القرآن، فمنعوا أساليب كثيرة جاء نظيرها في القرآن". ويقول أيضاً: "ولبعض النحويين جرأة عجيبة: يجزم بأن القرآن خلا من بعض الأساليب من غير أن ينظر في القرآن ويستقري أساليبه". ومن ذلك أيضاً قوله: "بعض النحويين يُخطئ في حصر ما جاء في القرآن"، وقوله: "في كتب النحو ذِكْرُ بعض المسائل من غير استشهاد لها بكلام العرب، أو القرآن، على حين أن شواهدها كثيرة جداً"، وقوله: "النحويين كثر منهم تلحين القراء الأئمة، يستوي عندهم في ذلك القراءات المتواترة وغيرها". وقوله: "كتب النحو واللغة والتفسير وغيرها تضمنت نصوصاً كثيرة في الطعن على الأئمة القراء، الذين تواترت قراءاتهم في السبع، والذين ارتضت الأمة الإسلامية قراءاتهم".
وقد تحدث المؤلف حول ما ينسبه النحويون للقراء من تلحين القراءة، وبين خطأ ذلك وشفع كل ذلك بالأمثلة الموضحة لهذا المسلك. ومما نقله بهذا الصدد عن أهل العلم قولهم: "إن القراءة لا تتبع العربية، بل العربية تتبع القراءة"، وقولهم: "وليس القصد تصحيح القراءة بالعربية، بل تصحيح العربية بالقراءة".
والمؤلف إذ يفعل ذلك لم يكن غرضه التصيد والتتبع، بل تقرير ما هو واقع، ثم هو بعدُ لا يطلق كلامه من غير دليل، بل يأتي على كل مأخذٍ من المآخذ التي أخذها على النحويين والمفسرين بأمثلة تبين صحة ما قرره.
مزايا الكتاب
ألمحنا في فاتحة القول إلى أن هذا الكتاب يعد أول دراسة تقوم على استقراء أسلوب القرآن في جميع رواياته المتواترة والشاذة، ما يعني أننا إلى قبل صدور هذا الكتاب لم نكن لنقف على دراسة مستوعبة لجميع ألفاظ القرآن الكريم برواياته المختلفة استقراءً وتحليلاً وتوجيهاً.
وقد أشار المؤلف نفسه إلى نحو هذا، فقال: "جعلت كتابي قائماً برأسه، مستغنياً بنفسه، لا يحتاج الناظر فيه إلى الرجوع إلى شيء من كتب النحو". وبالفعل، فإن الكتاب يعد مرجعاً لا غنى عنه لمن يريد أن يتعرف على أسلوب القرآن من جهة اللفظ ومن جهة التركيب، وذلك في آياته كافه، وقراءاته المختلفة، وهذا ما لا نجده في غيره من الكتب.
ومما يميز هذا الكتاب أيضاً ما يمنحه لقارئه من دافع للبحث والجِدِّ، وهو ما يفقده كثير من المشتغلين بالبحث والدرس. يقول د.عبد الله عبد المحسن التركي، وهو بصدد تصديره للقسم الثاني من هذه الدراسة: "إنها صورة رائعة لمتابعة الدرس، وموالاة البحث من غير كلل ولا ملل".
وما يميز هذه الدراسة غير ما تقدم -كما يقول د. التركي- أنها "أَثْرَت الدراسات النحوية إثراء عظيماً، وحفلت بكثير من الطرائف والفرائد؛ وما ذاك إلا لكثرة المراجع التي رجع إليها المؤلف وتنوعها"، ما يجعلها محط أنظار الباحثين، يقبلون عليها، وينهلون من معارفها".
وقد أجمل الشيخ شاكر قيمة هذا الكتاب بقوله: إن"الشيخ لم يترك مجالاً للاستدراك على عمله العظيم، فكل ما أستطيع أن أقوله، إنما هو ثناء مستَخْرَج من عمل يثني على نفسه".
بعض نتائج الدراسة
خَلَص الباحث -بالإضافة لما ألمحنا إليه- إلى بعض النتائج أفضت إليها دراسته الاستقرائية للقرآن الكريم، من ذلك:
وقع الفعل المضارع المثبت كثيراً في القرآن بعد الاستفهام، وخلا من التوكيد إلا في آية واحدة جاء مؤكداً وهي قوله تعالى: {فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ} (الحج:15).
لم يقع خبر (لا) النافية للجنس اسماً صريحاً مفرداً، وإنما جاء ظرفاً وجاراً ومجروراً. كقوله تعالى: {لا فيها غول} (الصافات:47).
عطف (ثم) للاسم المفرد لم يقع في القرآن، وإنما جاءت عاطفة للجملة، كقوله تعالى: {فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} (البقرة:28).
رأي للشيخ شاكر
ذكر الشيخ شاكر أن المؤلف قد ظن أن الأوائل قد شغلهم الشعر عن النظر في شواهد القرآن، ويبدو أن هذا الرأي لم يرق للشيخ شاكر فقال: "والذي ظن الأستاذ أن القدماء قد فرغوا هممهم له، هو في الحقيقة ناقص يحتاج إلى تمام، وتمامه أن يهيئ الله للناس من يقوم لهم في الشعر بمثل ما قام به هو في القرآن".
ولا شك، فإن قراءة هذا الكتاب/المعجم ليس بالأمر اليسير، ولا يقدر على ذلك إلا من رُزق صبراً جميلاً، وأوتي جَلَداً كبيراً، لكن ما هو ممكن، بل ما هو مطلوب العودة إلى هذا الكتاب للوقوف على كثير مما يُشْكِل علينا في فهم ألفاظ القرآن تركيباً وأسلوباً.
الكتاب صدرت طبعته الأولى عن دار الحديث في القاهرة، 1425هـ-2004م، وصدرت طبعته هذه في أحد عشر مجلداً، كل مجلد في حدود ستمائة صفحة.