الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      كرز

                                                                                      [ ص: 84 ] الزاهد القدوة أبو عبد الله ، كرز بن وبرة الحارثي ، الكوفي ، نزيل جرجان وكبيرها ، فإنه دخلها غازيا في سنة ثمان وتسعين ، مع يزيد بن المهلب ، فاتخذ كرز بها مسجدا بقرب قبره .

                                                                                      حدث عن أنس بن مالك ، والربيع بن خثيم ، ونعيم بن أبي هند ، وطاووس ، وطارق بن شهاب ، ومجاهد وعطاء وغيرهم .

                                                                                      حدث عنه أبو طيبة عيسى بن سليمان الدارمي ، وعبيد الله الوصافي ، وسفيان الثوري ، ومختار التيمي ، وابن شبرمة ، ومحمد بن النضر الحارثي ، ومحمد بن الفضل بن عطية ، ومحمد بن فضيل ، وآخرون .

                                                                                      قال أبو نعيم الحافظ : كان يسكن جرجان ، له الصيت البليغ في النسك والتعبد .

                                                                                      أخبرنا إسحاق الصفار ، أنبأنا يوسف الحافظ ، أنبأنا أبو المكارم التيمي ، أنبأنا أبو علي المقري ، أنبأنا أبو نعيم ، حدثنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا شريح بن يونس ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبيه قال : دخلت على كرز بيته ، فإذا عند مصلاه حفيرة قد ملأها تبنا وبسط عليها كساء من طول القيام ، فكان يقرأ في اليوم والليلة القرآن ثلاث مرات .

                                                                                      [ ص: 85 ] وبه قال أبو نعيم : حدثنا ابن حيان ، حدثنا أحمد بن الحسين ، حدثنا أحمد الدورقي ، حدثني سعيد أبو عثمان ، سمعت ابن عيينة يقول : قال ابن شبرمة : سأل كرز ربه أن يعطيه الاسم الأعظم ، على ألا يسأل به شيئا من الدنيا فأعطي ، فسأل أن يقوى حتى يختم القرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات .

                                                                                      وبه حدثنا ابن مالك ، حدثنا عبد الله ، حدثنا شريح ، حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، أو عن نفسه ، قال : كان كرز إذا خرج أمر بالمعروف ، فيضربونه حتى يغشى عليه .

                                                                                      وروى ابن فضيل عن أبيه قال : لم يرفع كرز بصره إلى السماء أربعين سنة ، وكان له عود عند المحراب يعتمد عليه إذا نعس .

                                                                                      قال أحمد بن إبراهيم الدورقي : حدثني جرير بن زياد بن كرز الحارثي ، عن شجاع بن صبيح مولى كرز بن وبرة ، قال : أخبرني أبو سليمان المكتب قال : صحبت كرزا إلى مكة ، فاحتبس يوما وقت الرحيل ، فانبثوا في طلبه ، فأصبته في وهدة يصلي في ساعة حارة ، وإذا سحابة تظله ، فقال لي : اكتم هذا -واستحلفني .

                                                                                      قال أحمد : وحدثني جرير ، عن النضر بن عبد الله ، حدثتني روضة مولاة كرز : قلت : من أين ينفق كرز ؟ قالت : كان يقول لي : يا روضة إذا أردت شيئا ، فخذي من هذه الكوة . فكنت آخذ كلما أردت .

                                                                                      وأنشد ابن شبرمة :

                                                                                      لو شئت كنت ككرز في تعبده أو كابن طارق حول البيت في الحرم     قد حال دون لذيذ العيش خوفهما
                                                                                      وسارعا في طلاب الفوز والكرم



                                                                                      عن فضيل بن غزوان : كان كرز يصلي حتى ترم قدماه ، فيحفر الحفيرة -يعني تحت رجليه- وقيل : كان كرز لا ينزل منزلا إلا ابتنى فيه مسجدا ، فيصلي فيه .

                                                                                      [ ص: 86 ] وعن أبي حفص السائح ، عن أبي بشر قال : كان كرز بن وبرة من أعبد الناس ، وكان قد امتنع من الطعام ، حتى لم يوجد عليه من اللحم ، إلا بقدر ما يوجد على العصفور ، وكان يطوي أياما كثيرة ، وكان إذا دخل في الصلاة لا يرفع طرفه يمينا ، ولا شمالا . وكان من المحبين المخبتين لله ، قد وله من ذلك ، فربما كلم فيجيب بعد مدة من شدة تعلق قلبه بالله ، واشتياقه إليه .

                                                                                      ابن يمان عن سفيان ، عن كرز قال : لا يكون العبد قارئا حتى يزهد في الدرهم .

                                                                                      وعن عمرو بن حميد الدينوري ، عن بعض أهل جرجان ، عن أبيه ، رأيت في النوم : كأني أتيت على قبور أهل جرجان ، فإذا هم جلوس على قبورهم ، عليهم ثياب بيض فقلت : يا أهل القبور ما لكم ؟ قالوا : إنا كسينا ثيابا جددا لقدوم كرز بن وبرة علينا .

                                                                                      قلت : هكذا كان زهاد السلف وعبادهم ، أصحاب خوف وخشوع ، وتعبد وقنوع ، ولا يدخلون في الدنيا وشهواتها ، ولا في عبارات أحدثها المتأخرون من الفناء ، والمحو ، والاصطلام ، والاتحاد ، وأشباه ذلك ، مما لا يسوغه كبار العلماء .

                                                                                      فنسأل الله التوفيق والإخلاص ، ولزوم الاتباع .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية