الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 296 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن دل على ماء ولم يخف فوت الوقت ولا انقطاعا عن رفق ولا ضررا في نفسه وماله لزمه طلبه ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الرفقة بضم الراء وكسرها لغتان مشهورتان وقوله رفق هو بالتنكير من غير تاء بعد القاف ، وهو يتناول رفقة كان معهم ورفقة يصادفهم الآن . وهذا الذي ذكره المصنف هو المذهب الصحيح المشهور ، وبه قطع العراقيون وكثير من الخراسانيين أو أكثرهم ، وعبروا بعبارة المصنف . وسلك إمام الحرمين والغزالي ومن تابعهما طريقة أخرى اختصرها الرافعي وهذبها فقال : إذا تيقن وجود الماء حواليه فله ثلاث مراتب . إحداها : أن يكون على مسافة ينتشر إليها النازلون في الاحتطاب والاحتشاش والبهائم في الرعي فيجب السعي إليه ، وهذا فوق حد الغوث الذي يسعى إليه عند التوهم ، قال الإمام محمد بن يحيى : ولعله يقرب من نصف فرسخ . المرتبة الثانية : أن يكون بعيدا بحيث لو سعى إليه لفاته وقت الصلاة فيتيمم ولا يسعى إليه لأنه فاقد في الحال ، ولو وجب انتظار الماء بعد الوقت لما جاز التيمم أصلا بخلاف واجد الماء فإنه لا يتيمم وإن خرج الوقت . قال الرافعي : والأشبه بكلام الأئمة أن الاعتبار من أول وقت للصلاة لو كان نازلا في ذلك المنزل ، ولا بأس باختلاف المواقيت والمسافات ، وعلى هذا لو انتهى إلى المنزل في آخر الوقت والماء في حد القرب وجب السعي إليه وإن فات الوقت كما لو كان الماء في رحله ، والأشبه أن يجعل وقت الحاضرة معيارا للفوائت والنوافل فإنها الأصل والمقصود بالتيمم غالبا .

                                      [ ص: 297 ] قلت ) هذا الذي نقله الرافعي عن الأشبه بكلام الأئمة ليس بمقبول ، بل ظاهر عباراتهم أن الاعتبار بوقت طلب الماء . هذا هو الموجود في كتبهم وهو ظاهر نص الشافعي في الأم وغيره ، فإن عبارة الشافعي وعبارة الأصحاب كلهم كعبارة المصنف وهي صريحة فيما قلته ، والله أعلم . المرتبة الثالثة : أن يكون بين المرتبتين . فيزيد على ما يتردد إليه للحاجات . ولا ينتهي إلى حد خروج وقت الصلاة . فنص الشافعي فيما إذا كان الماء عن يمين المنزل أو يساره أنه يلزمه تحصيله ولا يجوز التيمم ، ونص فيما إذا كان في صوب مقصده أنه لا يجب السعي إليه ، واختلف الأصحاب فيه على طريقين ( أحدهما ) تقرير النصين ، والفرق بأن المسافر قد يتيامن ويتياسر في حوائجه ، ولا يمضي في صوب مقصده ثم يرجع قهقرى ، وجوانب المنزل منسوبة إليه دون ما بين يديه ( والطريق الثاني ) فيهما قولان بالنقل والتخريج ، وهو أظهر ; لأن المسافر ما دام سائرا لا يعتاد المضي يمينا وشمالا كما لا يرجع قهقرى ، وإذا كان نازلا ينتشر من الجوانب كلها ويعود ودليل الجواز أنه فاقد والمنع أنه قادر على تحصيله . قال الرافعي : وما ذكرناه من الطريقين هو نقل إمام الحرمين والغزالي في آخرين وقال صاحب التهذيب : إن كان الماء في طريقه وتيقن وصوله إليه قبل خروج الوقت ، وصلى في الوقت بالتيمم جاز على المذهب .

                                      وقال في الإملاء : لا يجوز بل يؤخر حتى يصل إلى الماء ، وإن كان الماء على يمينه أو يساره أو وراءه لم يلزمه إتيانه وإن أمكن في الوقت ; لأن في زيادة الطريق مشقة عليه ، كما لو وجد الماء يباع بأكثر من ثمن المثل . وقيل : لا فرق ، بل متى أمكنه أن يأتي الماء في الوقت من غير خوف فلا فرق بين أن يكون عن يمينه أو يساره أو أمامه ففي جواز التيمم قولان . قال الرافعي : وبين هذا المذكور في التهذيب وبين الأول بعض المخالفة توجيها وحكما ، أما التوجيه فظاهر ، وأما الحكم فلأن هذا الكلام إنما يستمر في حق السائر ، ومقتضاه نفي الفرق بين الجوانب في حق النازل في المنزل لأنه يحتاج إلى الرجوع إلى المنزل من أي جانب مضى إليه ، وفي زيادة الطريق مشقة . [ ص: 298 ] وأما الكلام الأول فمقتضاه الفرق بين الجوانب في حق النازل أيضا إلا أن ذلك الفرق ممنوع كما سبق . وأيضا فإن مقتضى الأول أن السعي إلى ما عن اليمين واليسار أولى بالإيجاب ، ومقتضى كلام التهذيب أن الإيجاب فيما على صوب المقصد أولى . قال الرافعي : واعلم أن المذهب جواز التيمم وإن علم وصوله إلى الماء في آخر الوقت . وإذا جاز التيمم لمن يعلم الوصول إلى الماء في صوب مقصده فأولى أن يجوز للنازل في بعض المراحل إذا كان الماء عن يمينه أو يساره لزيادة مشقة السعي إليه ، وإذا جاز للنازل فالسائر أولى بالجواز . هذا كله في حق المسافر . وأما المقيم فذمته مشغولة بالقضاء لو صلى بالتيمم فليس له أن يصلي بالتيمم وإن خاف فوت الوقت لو سعى إلى الماء . هذا آخر كلام الرافعي والله أعلم .

                                      قال أصحابنا : والاعتبار في الدلالة على الماء بدلالة ثقة ، وهو من يقبل خبره من رجل أو امرأة أو عبد أو أعمى ، ولا أثر لقول فاسق ومغفل وغيرهما ممن لا يقبل خبره والله أعلم . وأما قول المصنف ( ولم يخف ضررا في نفسه وماله ) فكذا قاله أصحابنا ، قالوا : إذا كان بقربه ماء يخاف لو سعى إليه ضررا على نفسه من سبع أو عدو أو غيرهما ، أو على ماله الذي معه أو الذي في منزله من غاصب أو سارق أو غيرهما فله التيمم ، وهذا الماء كالمعدوم . قال أصحابنا : وهكذا لو كان في سفينة ولا ماء معه وخاف الضرر لو استقى من البحر فله التيمم ولا إعادة عليه . قال أصحابنا : والخوف على بعض أعضائه كالخوف على نفسه . قالوا : ولا فرق في المال الذي يخاف عليه بين الكثير والقليل ، إلا أن يكون قدرا يجب احتماله في تحصيل الماء ثمنا أو أجرة ، وأما إذا خاف الانقطاع عن رفقة ، فقد أطلق المصنف أنه لا يلزمه الذهاب إلى الماء ، وهكذا أطلقه الجمهور . وقال جماعة : إن كان عليه ضرر في الانقطاع عن الرفقة فله التيمم ، وإلا فوجهان أصحهما له التيمم أيضا ، وهما قريبان من الوجهين في نفقة الرجوع في الحج [ ص: 299 ] لمن لا أهل له هل تشترط أم لا ؟ مأخذهما في الموضعين أنه ضرر عليه ولكنه تفوته الألفة والمؤانسة والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية