الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 188 ] فصل: الفرق بين بلى ونعم:

اعلم أن "بلى" جواب لكلام فيه جحد، ويكون قبلها استفهام، وقد لا يكون قبلها استفهام، فإذا جاوبت بـ "بلى" بعد الجحد نفيت الجحد، ولا يصلح أن تأتي بـ "نعم" في مكانها، ولو فعلت ذلك كنت محققا للجحد، وذلك نحو قوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 172] ، و ألم يأتكم نذير قالوا بلى [الملك: 8، 9] ونحوه، فـ (ألست) و (ألم) من حروف الجحد، فلو جئت بنعم كنت محققا للجحد، و [بلى] نافية له. ونعم تكون تصديقا لما قبلها. ولا تدخل هنا "بلى"، لأنه لا نفي فيها، فنعم مخالفة لـ "بلى"، إن كانت ردا لما قبلها، كانت "نعم" إذا وقعت موقعها تصديقا لما قبلها ، تقول: ما أكلت شيئا. فيقول الراد: بلى، فيزيل نفيه، والمعنى بلى، أكلت، فإن قال الراد: نعم، فقد صدقه في نفيه عن نفسه الأكل، ويصير المعنى: نعم لم آكل شيئا.

وقد اختلف النحويون والقراء في الوقف عليها في مواضع، وأنا أذكر ما يختار مع ذكري جملة ما ورد منها في القرآن الكريم موضعا موضعا.

اعلم أن جملة ما في القرآن من لفظ بلى اثنان وعشرون موضعا، في ست عشرة سورة . فمن القراء من يمنع الابتداء بها مطلقا، لأنها جواب لما قبلها، وهذا مذهب نافع بن أبي نعيم وغيره. ومنهم من يختار الابتداء بها مطلقا، [ ص: 189 ] وهذا غريب لا نعرفه، وهو ضعيف، لأن الاستفهام متعلق بما هو جواب له كجواب الشرط ونحوه. ومنهم من لا يقف عليها ولا يبتدئ بها، بل يصل.

فأول ذلك في سورة البقرة: ثلاثة مواضع {أم تقولون على الله ما لا تعلمون بلى من كسب سيئة} [80، 81]، جوز الوقف عليها الداني في كتابه المسمى بـ "الاكتفاء"، وقال: لأنها رد لقول اليهود والنصارى. ووافقه على ذلك مكي . ومنع الوقف عليها العماني، وغلط من قال به.

الثالث: { أولم تؤمن قال بلى} [260] قال الداني : الوقف عليها هنا كاف، وقيل تام لأنها رد للجحد، انتهى.

قلت: والوقف مذهب أحمد بن جعفر الدينوري وابن الأنباري [ ص: 190 ] وغيرهما، ومنعه العماني وخطأ من أجازه، وليس كما زعم، لكن الاختيار الوقف على قوله: {قلبي} .

وفي "آل عمران" موضعان" {وهم يعلمون بلى} [75، 76] وقف تام عند إبراهيم بن السري، لأنها رد للمعنى الذي تقدمها، وما بعدها مستأنف. وأجاز الوقف عليها مكي والداني.

{منزلين بلى} [124، 125] وقف تام عند نافع، كذا قال الداني ، لأنها رد للجحد، وهي عند الداني ومكي وقف حسن.

وفي "الأنعام" موضع: {قالوا بلى وربنا} [30] الوقف على (وربنا) ولا يوقف على (بلى) هنا، ولا يبتدأ بها، لأنها والقسم بعدها جواب الاستفهام الداخل على النفي في {أليس هذا بالحق} [30].

وفي "الأعراف" موضع: {ألست بربكم قالوا بلى} [172] وقف تام أو كاف، لأنها رد للنفي الذي تقدمها، وكلام بني آدم منقطع عندها، وقوله: (شهدنا) من كلام الملائكة، كذا قال أكثر المفسرين كمجاهد والضحاك والسدي، لأن بني آدم أقروا بالعبودية له بقولهم (بلى)، قال الله [ ص: 191 ] تعالى للملائكة: اشهدوا، فقالت الملائكة: (شهدنا) . وقال قوم: الوقف على (شهدنا) على معنى: بلى شهدنا أنك ربنا، وهذا بعيد لأن (أن) لا تنفي، لا ناصب لها، وهي متعلقة بـ (شهدنا) أو بـ (أشهدهم) .

وفي "النحل" موضعان {من سوء بلى} [28] وقف حسن عند الداني ومكي، قال مكي : وهو قول نافع، لأنها جواب للنفي الذي قبلها، وهو قولهم: {ما كنا نعمل من سوء} أي: ما كنا نعصي الله في الدنيا.

{لا يبعث الله من يموت بلى} [38] أجاز الوقف عليها نافع ومكي والداني، لأنها رد للنفي الذي قبلها، ثم تبتدئ {وعدا عليه حقا} بمعنى: وعدهم الله ذلك وعدا حقا، قال مكي : ولا يجوز الابتداء بـ (بلى) لأنها جواب لما قبلها.

وفي "سبأ" موضع: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم} [36] قد أوضحت الكلام على هذا الموضع وبسطته في كتاب (التوجيهات) ، لكن نذكر هنا بعض شيء فنقول: قال نافع: الوقف عليها تام، وهو كاف على قراءته، لأنه يرفع (عالم) وكذا ابن عامر، فمن قرأ بالرفع وقف على (لتأتينكم)، وبالخفض وقف على (بلى) لأنها نفي لرد الساعة، [ ص: 192 ] ويبتدأ بما بعده لأنه قسم على إتيانها، ولا يبتدأ بـ (بلى) هنا لأنها جواب لقولهم.

وفي "يس" موضع: {أن يخلق مثلهم بلى} [81] قال الداني : وقف تام عند نافع، ومحمد بن عيسى، وابن قتيبة، قال: وهو عندي كاف، لأنها رد للنفي الذي قبلها، والمعنى: وهو يخلق مثلهم، انتهى. ولا يحسن الابتداء بـ (بلى)، وأجازه أبو حاتم وهو ضعيف.

وفي "الزمر" موضعان {فأكون من المحسنين بلى} [58، 59] يجوز الوقف عليها، وقيل: التمام (من المحسنين) و (بلى) في هذا الموضع من المشكلات، لأنها لا تأتي إلا بعد نفي ظاهر، ولا نفي هنا إلا من جهة المعنى، إذ كان معنى قوله تعالى: {لو أن الله هداني} [57]: ما هداني، فقال: بلى، أي: بلى قد هداك الله.

الثاني: {وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى} [71] الوقف [ ص: 193 ] عليها عند الداني ، وعند مكي حسن. وقيل: وقف تام، لأنها رد للجحد الذي قبلها، وقال بعضهم: الوقف على (الكافرين) لأن (بلى) وما بعدها من قول الكفار، فلا يفرق بين بعض القول وبعض، ومن جعل {ولكن حقت} من قول الملائكة جاز له الوقف عليها.

وفي "المؤمن" موضع: {بالبينات قالوا بلى} [50] قيل الوقف عليها تام، وقال مكي : حسن، وقال الداني : كاف، لأنه رد للجحد قبله.

وفي "الزخرف" موضع: {ونجواهم بلى} [80] وقف كاف، لأنها رد، والمعنى: بل نسمع ذلك.

وفي "الأحقاف" موضعان: {أن يحيي الموتى بلى} [33] وقف كاف، والمعنى ظاهر. {أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا} [34] الوقف على (وربنا) .

[ ص: 194 ] وفي "الحديد" موضع: {ألم نكن معكم قالوا بلى} [14] وقف كاف، لأنها رد.

وفي "التغابن" موضع: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن} [7] الوقف هنا، وحكى الداني عن نافع أن الوقف على (بلى) تام. واختار السخاوي الوقف عليها، والابتداء بما بعدها، لأنها رد لنفي البعث، وما بعدها قسم عليه، وكذا في "سبأ".

وفي "الملك" موضع: {ألم يأتكم نذير قالوا بلى} [3، 4] منع الوقف عليها مكي ، وأجازه الداني ، وقال: إنها رد للجحد الذي قبلها.

وفي "القيامة" موضع: {عظامه بلى} [3، 4] منع مكي الوقف عليها، وأجازه الداني ، وقال: الوقف عليها كاف، وقيل تام، ثم يبتدئ (قادرين) على الحال، وفي تعليل أبي عمرو نظر، لأنه إذا كان (قادرين) منصوبا على الحال كيف يحسن الوقف على (بلى)؟

وفي "انشقت" موضع: {أن لن يحور بلى} [14، 15] [ ص: 195 ] أجاز الوقف على (بلى) مكي ، وكذا الداني ، قال: الوقف عليها كاف، والمعنى: بلى ليرجعن إلى ربه حيا كما كان قبل مماته، وقيل تام.

التالي السابق


الخدمات العلمية