الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 201 ] ( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) .

                          [ ص: 202 ] بينا في أول تفسير الآيتين 87 ، 88 من هذه السورة وجه الاتصال والترتيب بين مجموع آياتها وطوائفها من أولها إلى هذا السياق الأخير منها وهو يتعلق بمحاجة أهل الكتاب عامة ، والنصارى منهم خاصة ، وفيه ذلك المعاد والحساب والجزاء الذي ينتهي إليه أمر المختلفين في الدين وأمر المؤمنين المخاطبين بالأحكام التي سبق بيانها ، وهذا هو وجه المناسبة والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها مباشرة من آيات الأحكام . ويرى بعض المفسرين أن كلمة " يوم " أولها في متعلقات الآية أو الجملة التي قبلها كما نرى فيها يلي :

                          ( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ) قيل : إن هذا متعلق بالفعل من آخر جملة مما قبله ، والتقدير : والله لا يهدي القوم الفاسقين إلى طريق النجاة يوم يجمع الرسل في الآخرة ويسألهم عن تبليغ الرسالة وما أجابتهم به أقوامهم أو لا يهديهم يومئذ طريقا إلا طريق جهنم ، وقيل : إنه متعلق بقوله : ( واتقوا الله ) أو بقوله : ( واسمعوا ) أي واتقوا عقاب الله يوم جمعه الرسل أو واسمعوا يوم يجمع الله الرسل . أي خبره وما يكون فيه .

                          وذهب آخرون إلى أن الآية منقطعة عما قبلها والمعنى : يوم يجمع الله الرسل ويسألهم يكون من الأهوال ما لا يفي ببيانه مقال ، أو المعنى واذكر أيها الرسول يوم يجمع الله الرسل فيقول : ماذا أجبتم ؟ وهذا التقدير أظهر ، وله في التنزيل نظائر . والمراد من السؤال توبيخ أممهم ، وإقامة الحجة على الكافرين منهم ، والمعنى أي إجابة أجبتم ، أإجابة إيمان وإقرار أم إجابة كفر واستكبار ؟ فهو سؤال عن نوع الإجابة لا عن الجواب ماذا كان ، وإلا لقرن بالباء . وقيل : الباء محذوفة ، والتقدير بماذا أجبتم . وهذا السؤال للرسل من قبيل سؤال الموءودة في قوله تعالى : ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ) ( 81 : 8 ، 9 ) في أن كلا منهما وجه إلى الشاهد دون المتهم لما ذكر آنفا من الحكمة ، وهو يكون في بعض مواقف القيامة ، ويشهدون على الأمم بعد التفويض الآتي ، أو عقب سؤال غير هذا ، ويسأل الله تعالى الأمم في موقف آخر أو في وقت آخر كما هو شأن قضاة التحقيق في سؤال الخصم والشهود لتحقق شرائط الحكم الصحيح كما هو المعهود ، قال تعالى : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ) ( 7 : 6 ، 7 ) .

                          ولما كان تعالى يسأل كلا من الفريقين عما هو أعلم به منه ، وكان الرسل عليهم الصلاة والسلام على علم يقيني بذلك يكون جوابهم في أول العهد بالسؤال التبرؤ من العلم وتفويضه إلى الله تعالى إما لنقصان علمهم بالنسبة إلى علمه تعالى كما نقل عن ابن عباس ، وإما لما يفاجئهم من فزع ذلك اليوم أو هوله أو ذهوله كما نقل عن الحسن ومجاهد و السدي وذلك قوله تعالى : [ ص: 203 ] ( قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ) جاء الجواب منفصلا كسائر ما يأتي من أقوال المراجعة على طريقة الاستئناف البياني ، وعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه حتى كأنه وقع ، قال ابن عباس : يقولون للرب : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا . يعني أنه ليس بنفي لعلمهم بإطلاق وإنما هو نفي لعلم الإحاطة الذي هو خاص بالخلاق العليم; إذ الرسل كانوا يعلمون ظاهر ما أجيبوا به من مخاطبيهم ولا يعلمون بواطنهم ، ولا حال من لم يروه من أممهم ، إلا ما يوحيه تعالى إليهم من ذلك ، وهو قليل من كثير; ولذلك فقرنوا نفي العلم عنهم بإثبات المبالغة في علم الغيب له تعالى ، فإن صيغة " علام " معناها كثير العلم ، أي بكثرة المعلومات ، وإلا فعلمه واحد محيط بكل شيء إحاطة كاملة . ولا يوصف تعالى بالعلامة ، ولعله لما فيه من تاء التأنيث . قال تعالى لنوح عليه السلام لما سأل ربه أن ينجي ولده من الطوفان : ( فلا تسألني ما ليس لك به علم ) ( 11 : 46 ) وقال لخاتم رسله عليه الصلاة والسلام : ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ) ( 9 : 101 ) .

                          وقال الفخر الرازي ما معناه : إن الرسل أرادوا أنه لم يكن لهم من حقيقة حال أممهم إلا الظن الذي هو ظاهر حالهم لا العلم القطعي الذي يتوقف على معرفة الظاهر والباطن ، بدليل ما ورد في الحديث من الحكم بالظاهر ( قال ) فالأنبياء قالوا : لا علم لنا ألبتة بأحوالهم إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن ، والظن كان معتبرا في الدنيا; لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظن ، وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن; لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور . فلهذا السبب قالوا : ( لا علم لنا إلا ما علمتنا ) ( 2 : 32 ) ولم يذكروا ألبتة ما معهم من الظن ؛ لأن الظن لا عبرة به في القيامة اهـ .

                          ونقول : إن هذا رأي ضعيف وإن بني على اصطلاح أهل الكلام والأصول في تفسير الظن والعلم ، والصواب ما بيناه قبله وذلك أن الرسل يعلمون كثيرا من الحقائق علما يقينيا ، كاستكبار المجرمين عن إجابة دعوتهم وإصرارهم على كفرهم ومن علمهم بذلك ما شهد به التنزيل إذ أخبرهم الله أن أولئك المعاندين لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ، وأنه قد ختم على قلوبهم وحق القول عليهم ، ومنهم من يكاشف النبي بحالهم ويمثلون له في النار كما كان يعلم أن بعض المؤمنين صادقون في إيمانهم وبشرهم بالجنة ، وأن بعضهم ضعفاء الإيمان ولكن إيمانهم صحيح مقبول عند الله تعالى ، والعلم بالظواهر يقبل في شهادتهم على الجاحدين إذ لا عبرة بالإيمان في الباطن مع الجحود في الظاهر بل هو أشد الكفر ، وقد أخبرنا الله تعالى أنهم يشهدون على أممهم ، فلو كان كل ما يعرفون من أحوال أممهم ظنا [ ص: 204 ] لا عبرة به في القيامة لما كان لشهادتهم فائدة : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) ( 4 : 41 ) .

                          ذكر الله سؤال الرسل وجوابهم بالإجمال ثم بين بالتفصيل سؤال واحد منهم عن التبليغ وجوابه عن السؤال لإقامة الحجة على من يدعون اتباعه ، وهم الذين حاجتهم هذه السورة فيما يقولون في رسولهم أوسع الاحتجاج ، وأقامت عليهم البرهان في إثر البرهان ، وقدم عز وجل على هذا السؤال والجواب ما خاطب به هذا الرسول من بيان نعمته عليه وآياته له التي كانت منشأ افتتان الناس به فقال :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية