الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز التيمم للمكتوبة إلا بعد دخول وقتها ، لأنه قبل دخول الوقت مستغن عن التيمم ، كما لو تيمم مع وجود الماء فإن تيمم قبل دخول الوقت لفائتة فلم يصلها حتى دخل الوقت ففيه وجهان قال أبو بكر بن الحداد : يجوز أن يصلي به الحاضرة لأنه تيمم وهو غير مستغن عن التيمم فأشبه إذا تيمم للحاضرة بعد دخول وقتها ، ومن أصحابنا من قال : لا يجوز لأنها فريضة تقدم التيمم على وقتها فأشبه إذا تيمم لها قبل دخول الوقت ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) شروط صحة التيمم أربعة : ( أحدها ) كون المتيمم أهلا للطهارة وقد سبق بيانه في باب نية الوضوء ( الثاني ) كون التراب مطلقا وقد سبق بيانه ( الثالث ) أن يكون المتيمم معذورا بفقد الماء أو العجز عن استعماله وسيأتي بيانه في الفصول بعده ( الرابع ) أن يكون التيمم بعد دخول الوقت واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن التيمم للمكتوبة لا يصح إلا بعد دخول وقتها . قال أصحابنا : سواء كان التيمم للعجز عن استعمال الماء بسبب عدمه أو لمرض أو جراحة وغير ذلك .

                                      ولو أخذ التراب على يديه قبل الوقت ومسح بهما وجهه في الوقت لم يصح ، بل يشترط الأخذ في الوقت كما يشترط المسح فيه لأنه أحد أركان التيمم فأشبه المسح . صرح به البغوي وغيره . قال أصحابنا : فلو خالف وتيمم لفريضة قبل وقتها لم يصح لها بلا خلاف ولا يصح أيضا للنافلة على الصحيح المشهور المنصوص في البويطي ، وقال صاحب التتمة وغيره في صحة تيممه للنفل وجهان بناء على القولين فيمن أحرم بالظهر قبل الزوال هل تنعقد صلاته نفلا ؟ ونقل الشاشي هذا الخلاف عن بعض الأصحاب ، ثم قال : هذا [ ص: 276 ] خلاف نصه في البويطي ويخالف الصلاة فإنه أحرم بها معتقدا دخول وقتها فانعقدت نفلا ، وهنا تيمم عالما بعدم دخول الوقت فلم يصح .

                                      واعلم أن قولهم : لا يصح التيمم قبل الوقت معناه قبل الوقت الذي تصح فيه تلك الصلاة ، فلو جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر وتيمم للعصر بعد سلامه من الظهر صح . لأن هذا وقت فعلها . هذا إذا قلنا بالمذهب الصحيح المشهور أنه يجوز الجمع بين الصلاتين للمتيمم ، ولا يضر الفصل بالتيمم . وفيه وجه لأبي إسحاق المروزي أنه لا يصح الجمع بسبب الفصل ، وليس بشيء . ولو تيمم وصلى الظهر ثم تيمم ليضم إليها العصر فدخل وقت العصر قبل أن يشرع فيها فقد حكى صاحب البحر عن والده أنه قال اجتهادا لنفسه : بطل الجمع ولا يصح هذا التيمم للعصر ، لوقوعه قبل وقتها مع بطلان الجمع ، وقطع الرافعي بهذا وفيه احتمال ظاهر ، ويجوز أن يخرج جواز فعلها بهذا التيمم على الوجهين في التيمم لفائتة قبل وقت الحاضرة هل تباح به الحاضرة ؟ ويمكن الفرق بأنه في مسألة الفائتة صح تيممه لما نوى واستباحه فاستباح غيره بدلا ، وهنا لم يستبح ما نوى على الصفة التي نوى فلم يستبح غيره ، أما إذا أراد الجمع في وقت العصر ، فتيمم للظهر في وقت الظهر ، فإنه يصح لأنه وقتها .

                                      ولو تيمم فيه للعصر لم يصح لأنه لم يدخل وقتها . ذكره الروياني ، وهو ظاهر ، قال أصحابنا : والفائتة وقتها بتذكرها فلا يصح التيمم لها ، إلا إذا تذكرها ، فلو شك هل عليه فائتة ؟ فتيمم لها ، ثم بان أن عليه فائتة فقد سبق في آخر فصل نية التيمم أن المشهور أنه لا يصح تيممه ، والله أعلم . أما إذا تيمم لمكتوبة في أول وقتها ، وأخر الصلاة إلى أواخر الوقت فصلاها بذلك التيمم ، فإنه يصح على المذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي ، وقطع به جمهور الأصحاب في الطرق كلها ، قالوا : وكذا يجوز أن يصليها بذلك التيمم بعد خروج الوقت ، وهذا بشرط ألا يفارق موضعه ، ولا يتجدد ما يتوهم بسببه حصول ماء . وحكى الماوردي والروياني والشاشي فيه وجهين ، الأصح المنصوص هذا . والثاني : قول ابن سريج والإصطخري أنه يلزمه تعجيل الصلاة عقب التيمم ، ولا يؤخر إلا قدر الأذان والإقامة والتنفل بما هو من مسنونات فرضه . فإن أخر عن هذا بطل تيممه [ ص: 277 ] لأنها طهارة ضرورة فلزم تعجيلها كطهارة المستحاضة ، والمذهب الأول ، لأن حدث المستحاضة يتجدد بعد الطهارة ، بخلاف المتيمم . أما إذا تيمم شاكا في دخول الوقت فبان أنه كان قد دخل فلا يصح تيممه لعدم شرطه وهو العلم بالوقت حال التيمم ، صرح به الماوردي وآخرون وقد سبقت هذه القاعدة وأمثلتها في باب مسح الخف .

                                      أما إذا تيمم لفائتة فلم يصلها حتى دخل وقت فريضة حاضرة ، فهل له أن يصلي بذلك التيمم تلك الحاضرة ؟ فيه وجهان مشهوران في الطريقتين ، وقد ذكر المصنف دليلهما ، قال ابن الحداد : يجوز وهو الصحيح عند الأصحاب . والثاني : لا يجوز قاله الشيخ أبو زيد المروزي ، وأبو عبد الله الخضري - بكسر الخاء وإسكان الضاد المعجمتين - ولو تيمم للظهر في وقتها ، ثم تذكر فائتة ، فهل له أن يصلي به الفائتة ؟ فيه طريقان مشهوران .

                                      ( أحدهما ) أنه على الوجهين ( والثاني ) القطع بالجواز ، والفرق أن الفائتة واجبة في نفس الأمر حال التيمم ، بخلاف الحاضرة في المسألة الأولى . ووافق أبو زيد والخضري على الجواز هنا ، ونقل القاضي أبو الطيب في شرح الفروع اتفاق الأصحاب على الجواز هنا ، ولو تيمم لفائتة ثم تذكر قبل قضائها فائتة أخرى فقال القفال في شرح التلخيص : اتفق الأصحاب على أن له أن يصلي بهذا التيمم الفائتة التي تذكرها ، ونقل البغوي فيه الخلاف فقال : يجوز على ظاهر المذهب ، وعلى الوجه الآخر لا يجوز . وهذا الذي نقله البغوي متعين . ولو تيمم لفريضة في وقتها ثم نذر صلاة فهل له أن يصلي بهذا التيمم المنذورة بدل المكتوبة ؟ فيه الوجهان حكاهما الروياني وغيره . هذا كله تفريع على المذهب ، وهو أن تعيين الفريضة لا يشترط في صحة التيمم ، فإن شرطناه لم يصح التيمم لغير ما عينه . هذا كله في التيمم للمكتوبة .

                                      أما النافلة فضربان ، مؤقتة وغيرها ، فغيرها يتيمم لها متى شاء إلا في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ، فإنه لا يتيمم فيها لنافلة لا سبب لها ، فإن خالف وتيمم لها فقد نص الشافعي رحمه الله في البويطي أنه لا يصح تيممه ولا يستبيح به النافلة بعد خروج وقت النهي . وبهذا قطع أكثر [ ص: 278 ] الأصحاب لأنه تيمم قبل الوقت . وقال القاضي حسين والمتولي : في صحة تيممه وجهان بناء على انعقاد هذه الصلاة في وقت النهي . وحكى هذا الخلاف الروياني والشاشي وضعفاه ، ولو تيمم قبل وقت الكراهة ثم دخل لم يبطل تيممه بلا خلاف ، فإذا زال وقت الكراهة صلى به . وأما النافلة المؤقتة فعبارة المصنف هنا وفي التنبيه تشعر بأنه لا يشترط في التيمم لها دخول الوقت ، وصرح جمهور الخراسانيين بأنه لا يصح التيمم لها إلا بعد دخول وقتها . قال الرافعي : وهذا هو المشهور في المذهب . وحكى إمام الحرمين والغزالي وجهين ، ( أحدهما ) هذا ، ( والثاني ) : يجوز قبل وقتها لأن أمرها أوسع من الفرائض ; ولهذا أجيز نوافل بتيمم واحد ، فإذا قلنا بالمشهور احتجنا إلى بيان أوقات النوافل ، فوقت سنن المكتوبات والوتر والضحى والعيد معروف في مواضعها ووقت الكسوف بحصول الكسوف ، والاستسقاء باجتماع الناس لها في الصحراء ، وتحية المسجد بدخوله ، والخلاف جار في جميع النوافل المؤقتة من الرواتب وغيرها ، وفي عبارة الغزالي إيهام اختصاصه بالرواتب فلا يغتر به ، والله أعلم .

                                      وفي وقت التيمم لصلاة الجنازة وجهان مشهوران أصحهما وأشهرهما أنه يدخل بغسل الميت لأنها في ذلك الوقت تباح وتجزئ ، وبهذا قطعإمام الحرمين والغزالي في كتبه والبغوي وصاحب العدة . والثاني بالموت لأنه السبب ، وبهذا قطع الغزالي في الفتاوى وصححه الشاشي قال القاضي حسين : والمستحب أن يتيمم بعد التكفين لأن الصلاة قبل التكفين تكره وإن كانت جائزة ، ولو لم يجد ماء يغسل به الميت وقلنا بالأصح أنه لا يصح التيمم لها إلا بعد غسله وجب أن ييمم الميت أولا ثم يتيمم هو للصلاة عليه ، وهذا مما يسأل عنه فيقال شخص لا يصح تيممه حتى ييمم غيره ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا تيمم لنافلة في وقتها استباحها وما شاء من النوافل ولا يستبيح به الفرض على المذهب ، والمنصوص في الأم ، وفيه القول الضعيف الذي سبق أن الفرض يباح بنية النفل ، فعلى هذا الضعيف يصلي به الفريضة إن تيمم في وقتها ، وإن كان قبله فعلى الوجهين فيمن تيمم لفائتة ثم دخل وقت حاضرة فأرادها به . هكذا نقله إمام الحرمين عن حكاية الشيخ أبي علي السنجي .

                                      قال الإمام : وهذا بعيد جدا فإن تيممه للفائتة استعقب جواز فعل [ ص: 279 ] الفائتة به ثم دام إمكان أداء فرض به حتى دخل وقت الفريضة ، وهنا لم يستعقب تيممه إمكان أداء فرض ، أما إذا تيمم لنفل قبل الزوال وهو ذاكر فائتة فتيممه يصلح للفائتة على القول الضعيف ، فلو زالت الشمس فأراد الظهر به بدلا عن الفائتة ففيه الوجهان .

                                      ( فرع ) هذا الذي ذكرناه من أن التيمم لمكتوبة لا يصح إلا بعد دخول وقتها هو مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وداود وجمهور العلماء . وقال أبو حنيفة : يجوز قبل الوقت ، واحتجوا بالقياس على الوضوء ومسح الخف وإزالة النجاسة ، ولأنه وقت يصلح للمبدل فصلح للبدل ، كما بعد دخول الوقت ، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } إلى قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } فاقتضت الآية أنه يتوضأ ويتيمم عند القيام ، خرج جواز تقديم الوضوء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع ، بقي التيمم على مقتضاه لأنه تيمم وهو مستغن عن التيمم ، فلم يصح ، كما لو تيمم ومعه ماء . فإن قالوا ينتقض بالتيمم في أول الوقت فإنه مستغن ، وإنما يحتاج في أواخر الوقت قلنا : بل هو محتاج إلى براءة ذمته من الصلاة وإحراز فضيلة أول الوقت ، ولأنها طهارة ضرورة فلم تصح قبل الوقت كطهارة المستحاضة فقد وافقوا عليها . قال إمام الحرمين في الأساليب : ثبت جواز التيمم بعد الوقت ، فمن جوزه قبله فقد حاول إثبات التيمم المستثنى عن القاعدة بالقياس ، وليس ما قبل الوقت في معنى ما بعده .

                                      والجواب عن قياسهم على الوضوء أنه قربة مقصودة في نفسها ترفع الحدث بخلاف التيمم فإنه ضرورة فاختص بحال الضرورة كأكل الميتة ، ولأن التيمم لإباحة الصلاة ولا تباح الصلاة قبل الوقت . والجواب عن مسح الخف أنه رخصة وتخفيف فلا يضيق باشتراط الوقت ، يدل على أنه رخصة للتخفيف ، جوازه مع القدرة على غسل الرجل ، والتيمم ضرورة ولهذا لا يجوز مع القدرة على استعمال الماء . والجواب عن إزالة النجاسة أنها طهارة رفاهية فالتحقت بالوضوء بخلاف التيمم . [ ص: 280 ] وقولهم : ( يصلح للمبدل فصلح للبدل ) ينتقض بالليل فإنه يصلح لعتق الكفارة دون بدلها وهو الصوم ، وينتقض بيوم العيد ، فإنه يصلح لنحر هدي التمتع دون بدله وهو الصوم ، قال الدارمي : قال أبو سعيد الإصطخري : لا نناظر الحنفية في هذه المسألة لأنهم خرقوا الإجماع فيها ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) ذكر المصنف أبا بكر بن الحداد ، وهذا أول موضع ذكره ، وهو محمد بن أحمد القاضي صاحب الفروع من نظار أصحابنا ومتقدميهم في العصر والمرتبة والتدقيق ، تفقه على أبي إسحاق المروزي وكان عارفا بالعربية والمذهب وانتهت إليه إمامة أهل مصر في زمنه ، توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة رحمه الله .




                                      الخدمات العلمية