الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق التاسع عشر والمائتان بين قاعدة ما يجب التقاطه وبين قاعدة ما لا يجب التقاطه )

قال الشيخ أبو الحسن اللخمي الالتقاط قد يكون واجبا ومستحبا ومحرما ومكروها بحسب حال الملتقط وحال الزمان الحاضر وأهله ، ومقدار اللقطة فإن كان الواحد مأمونا ، ولا يخشى السلطان إذا أشهرها ، وهي بين قوم أمناء لا يخشى عليها منهم ، ولها قدر فأخذها وتعريفها مستحب ، وهذه صورة السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خذها ، ولأنه أحوط لصاحبها خوف أن يأخذها من ليس بمأمون ، ولا ينتهي إلى الوجوب لأنه بين قوم أمناء وبين غير الأمناء يجب الالتقاط لأن حرمة المال كحرمة النفس ولنهيه عليه السلام عن إضاعة المال ، وإن كان السلطان غير مأمون إذا أشهرها أخذها ، أو الواجد غير أمين حرم عليه أخذها لأنه تسبب لضياع مال المسلم ، وإن كانت حقيرة كره أخذها لأن الغالب عدم المبالغة في تعريف الحقير وعدم الاحتفال به ، والحقير كالدرهم ، ونحوه قال الشيخ أبو الوليد في المقدمات في لقطة المال ثلاثة أقوال الأفضل تركها من غير تفصيل لأن ابن عمر كان يمر باللقطة فلا يأخذها ، والأفضل أخذها لأن فيه صون مال الغير الثالث أخذ الجليل أفضل ، وترك الحقير أفضل ، وهذا إذا كانت بين قوم مأمونين ، وإمام عدل أما بين الخونة ، ولا يخشى السلطان إذا عرفت فالأخذ واجب اتفاقا وبين خونة ، ويخشى من الإمام يخير بين أخذها ، وتركها بحسب ما يغلب على ظنه أي الخوفين أشد ، ويستثنى لقطة الحاج فلا يجري فيها هذا الخلاف كله لأنها بالترك أولى لأن ملتقطها يرحل إلى قطره ، وهو بعيد فلا يحصل مقصود التعريف .

( قاعدة ) خمس اجتمعت الأمم مع الأمة المحمدية عليها ، وهي وجوب حفظ النفوس والعقول فتحرم المسكرات بإجماع الشرائع ، وإنما اختلفت في شرب القدر الذي لا يسكر فحرم في هذه الملة تحريم الوسائل ، وسد الذريعة بتناول القدر المسكر ، وأبيح في غيرها من الشرائع لعدم المفسدة ، وحفظ الأعراض فيحرم القذف ، وسائر السباب ، ويجب حفظ الأنساب فيحرم الزنى في جميع الشرائع ، والأموال يجب حفظها في جميع الشرائع فتحرم السرقة ، ونحوها ، ويجب حفظ اللقطة عن الضياع لهذه القاعدة ، وقد تقدم بيان قاعدة فرض الكفاية [ ص: 34 ] وفرض الأعيان ، والفرق بينهما بأن فرض الكفاية ما لا تتكرر مصلحته بتكرره كإنقاذ الغريق فتكرير فعل النزول بعد شيل الغريق لا يحصل مصلحة بعد ذلك ، وفرض الأعيان هو ما تتكرر مصلحته بتكرره كالصلوات الخمس مصلحتها الإجلال والتعظيم لله تعالى ، وهو يتكرر حصوله بتكرر الصلاة ، وحينئذ يظهر أن أخذ اللقطة من فروض الكفاية .

وقال الشافعي رحمه الله بالوجوب والندب كما قال بهما مالك قياسا على الوديعة بجامع حفظ المال فيلزم الندب أو قياسا على إنقاذ المال الهالك فيلزم الوجوب ، وقال أبو حنيفة أخذها مندوب إلا عند خوف الضياع فيجب وعند أحمد بن حنبل رضي الله عنه الكراهة لما في الالتقاط من تعريض نفسه لأكل الحرام ، وتضييع الواجب من التعريف فكان تركه أولى كتولي مال اليتيم وتخليل الخمر ، وقد ذم الله تعالى الدخول في التكاليف بقوله تعالى { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } أي ظلوما لنفسه بتوريطها وتعريضها للعقاب وجهولا بالعواقب والحزم فيها ، والأمانة قال العلماء هي ها هنا التكاليف ، ولم أر أحدا فصل وقسم أخذ اللقطة إلى الأحكام الخمسة إلا أصحابنا بل كلهم أطلقوا .

[ ص: 34 - 37 ]

التالي السابق


[ ص: 34 - 37 ] حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق التاسع عشر والمائتان بين قاعدة ما يجب التقاطه وبين قاعدة ما لا يجب التقاطه ) وهو أن الالتقاط بحسب حال الملتقط بكسر القاف وحال الزمان الحاضر ، وأهله ينقسم كما في التوضيح ثلاثة أقسام إجمالا وأربعة تفصيلا : ( الأول ) أن يعلم من نفسه الخيانة فيحرم التقاطها . ( الثاني ) أن يخاف ، ولا يتحقق أي بأن يشك فيكره . ( الثالث ) أن يتيقن أمانة نفسه ، وهو ينقسم إلى قسمين إما أن يخاف عليها الخونة أم لا فإن خاف وجب عليه الالتقاط ، وإن لم يخف فثلاثة أقوال لمالك الاستحباب والكراهة والاستحباب فيما له بال ، والترك لغيره أفضل ا هـ .

باختصار أفاده البناني على عبق يعني أن الترك لغير ما له بال أفضل من الالتقاط فهو مكروه لأن الغالب عدم المبالغة في تعريف الحقير وعدم الاحتفال به ، والحقير كالدرهم ، ونحوه كما سيأتي عن اللخمي قال البناني ، واختار التونسي من هذه الأقوال الكراهة أي مطلقا كما في الجواهر ، وإليه أشار المصنف يعني الشيخ خليلا بقوله الخيانة فيما إذا علم خيانة على الأحسن ، واستظهر ابن عبد السلام وجوب الالتقاط عليه ، وتركه نفسه أي وهو القسم الأول الذي قال في التوضيح فيه بحرمة التقاطها ، وفيما إذا شك فيها أنه هو القسم الثاني الذي قال في التوضيح فيه بكراهته ، ولا يكون ذلك عذرا يسقط عنه ما وجب عليه من حفظ مال الغير قال الحطاب ، وما قاله حسن ا هـ . والله أعلم ا هـ .

كلام البناني ، وسلمه الرهوني وكنون ، ويتحصل من هذا أن وجوب الالتقاط على كلام التوضيح في قسم واحد من الأقسام الأربعة ، وهو ما تحقق فيه أمران الأول أن يتيقن أمانة نفسه ، والثاني أن يخاف على اللقطة الخونة ، وأن عدم الوجوب فيما عداه فيحرم في قسم ، وهو ما إذا علم خيانة نفسه ، ويكره جزما في قسم ، وهو ما إذا شك في خيانة نفسه ، ويكره على الأحسن من الأقوال الثلاثة في قسم ، وهو ما تحقق فيه أمران الأول أن يتيقن أمانة نفسه ، والثاني أن لا يخاف على اللقطة الخونة .

وأما وجوب الالتقاط على ما استظهره ابن عبد السلام ، واستحسنه الحطاب ففي ثلاثة أقسام الأول ما تحقق فيه أمران تيقن أمانة نفسه ، وخوف الخونة على اللقطة والثاني والثالث ما إذا علم خيانة نفسه أو شك فيها ، ولا يكون علم [ ص: 66 ] الخيانة أو الشك فيها عذرا بل يجب عليه تركها وعدم وجوب الالتقاط في قسم واحد ، وهو ما تحقق فيه أمران تيقن أمانة نفسه وعدم خوف الخونة على اللقطة ففي كراهته ثالثها إن كانت حقيرة كالدرهم ونحوه ، والمختار الأول .

وانظر وجه عدم استحسانه وجوب الالتقاط في هذا القسم أيضا فإنه لم يظهر حتى فيما إذا كانت حقيرة ضرورة أن كون الغالب عدم المبالغة في تعريف الحقير وعدم الاحتفال به ليس أولى من تيقن خيانة نفسه التي أوجب عليه تركها فليتأمل بإمعان ، وهذا التفصيل إنما يجري على أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرها الشيخ أبو الوليد في المقدمات حيث قال في الأصل في لقطة المال ثلاثة أقوال الأفضل تركها من غير تفصيل لأن ابن عمر كان يمر باللقطة فلا يأخذها ، والأفضل أخذها لأن فيه صون مال الغير الثالث أخذ الجليل أفضل وترك الحقير أفضل ، وهذا إذا كان بين قوم مأمونين ، والإمام عدل أما بين الخونة ، ولا يخشى السلطان إذا عرفت فالأخذ واجب اتفاقا وبين خونة ، ويخشى من الإمام يخير بين أخذها وتركها بحسب ما يغلب على ظنه أي الخوفين أشد ، ويستثنى لقطة الحاج فلا يجري فيها هذا الخلاف كله لأنها بالترك أولى لأن ملتقطها يرحل إلى قطره ، وهو بعيد فلا يحصل مقصود التعريف ا هـ .

بلفظه نعم التفصيل في القول الثالث في كلام أبي الوليد غيره في كلام صاحب التوضيح ، وإنما يقرر منه في كلام صاحب التوضيح التفصيل في قول اللخمي الالتقاط قد يكون واجبا ومستحبا ومحرما ومكروها بحسب حال الملتقط وحال الزمان الحاضر وأهله ، ومقدار اللقطة فإن كان الواجد مأمونا ، ولا يخشى السلطان إذا أشهرها ، وهي بين قوم أمناء لا يخشى عليها منهم ، ولها قدر فأخذها وتعريفها مستحب ، وهذه صورة السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خذها ولأنه أحوط لصاحبها خوف أن يأخذها من ليس بمأمون ، ولا ينتهي إلى الوجوب لأنه بين قوم أمناء وبين غير الأمناء يجب الالتقاط لأن حرمة المال كحرمة النفس ، ولنهيه عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال ، وإن كان السلطان غير مأمون إذا أشهرها أخذها أو الواجد غير أمين حرم عليه أخذها لأنه تسبب لضياع مال المسلم ، وإن كانت حقيرة كره أخذها لأن الغالب عدم المبالغة في تعريف الحقير وعدم الاحتفال به ، والحقير كالدرهم ، ونحوه كما في الأصل . ( تنبيهات الأول ) قال الأصل ولم أر أحدا فصل ، وقسم أخذ اللقطة إلى الأحكام الخمسة إلا أصحابنا بل كلهم أطلقوا فقال الشافعي رحمه الله تعالى [ ص: 67 ] بالوجوب والندب كما قال بهما مالك قياسا على الوديعة بجامع حفظ المال فيلزم الندب أو قياسا على إنقاذ المال الهالك فيلزم الوجوب ، وقال أبو حنيفة أخذها مندوب إلا عند خوف الضياع فيجب ، وعند أحمد بن حنبل رضي الله عنه الكراهة لما في الالتقاط من تعريض نفسه لأكل الحرام وتضييع الواجب من التعريف فكان تركه أولى كتولي مال اليتيم ، وتخليل الخمر ، وقد ذم الله تعالى الدخول في التكاليف لقوله تعالى { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } أي ظلوما لنفسه بتوريطها وتعريضها للعقاب ، وجهولا بالعواقب والحزم فيها ، والأمانة قال العلماء هي ها هنا التكاليف ا هـ .

( التنبيه الثاني ) قال الأصل أيضا وجوب حفظ اللقطة عن الضياع لقاعدة أن خمسا أجمعت الأمم مع الأمة المحمدية عليها ، وهي وجوب حفظ النفوس فيحرم القتل بإجماع الشرائع ، ويجب فيه القصاص ، ووجوب حفظ العقول فتحرم المسكرات بإجماع الشرائع ، ويجب فيها الحد ، وإنما اختلفت في شرب القدر الذي لا يسكر فحرم في هذه الملة تحريم الوسائل ، وسد الذريعة بتناول القدر المسكر ، وأبيح في غيرها من الشرائع لعدم المفسدة فيه ، ووجوب حفظ الأعراض فيحرم القذف ، وسائر السباب ، ويجب في ذلك الحد أو التعذير ، ووجوب حفظ الأنساب فيحرم الزنا في جميع الشرائع ، ويجب فيه إما الرجم أو الحد ، ووجوب حفظ الأموال في جميع الشرائع فتحرم السرقة ، ويجب فيها القطع أو التعزير ، وكذا نحوها ا هـ بزيادة من محلى جمع الجوامع ، وزاد في جمع الجوامع سادسا ، وهو وجوب حفظ الدين المشروع له قتل الكفار ، وعقوبة الداعين إلى البدع ا هـ .

مع شرح المحلى فافهم .

( التنبيه الثالث ) قال الأصل أيضا أن ما تقدم في بيان الفرق بين قاعدتي فرض الكفاية وفرض العين بأن فرض الكفاية ما لا يتكرر مصلحته بتكرره كإنقاذ الغريق فإن تكرير فعل النزول بعد شيل الغريق لا يحصل مصلحة بعد ذلك ، وفرض الأعيان ما تتكرر مصلحته بتكرره كالصلوات الخمس فإن مصلحتها الإجلال ، والتعظيم لله تعالى ، وهو يتكرر حصوله بتكرر الصلاة وحينئذ يظهر منه أن أخذ اللقطة من فروض الكفاية ا هـ .

والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية