الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في خروج النساء في العيدين

                                                                                                          539 حدثنا أحمد بن منيع حدثنا هشيم أخبرنا منصور وهو ابن زاذان عن ابن سيرين عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج الأبكار والعواتق وذوات الخدور والحيض في العيدين فأما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن دعوة المسلمين قالت إحداهن يا رسول الله إن لم يكن لها جلباب قال فلتعرها أختها من جلابيبها حدثنا أحمد بن منيع حدثنا هشيم عن هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية بنحوه قال وفي الباب عن ابن عباس وجابر قال أبو عيسى وحديث أم عطية حديث حسن صحيح وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث ورخص للنساء في الخروج إلى العيدين وكرهه بعضهم وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن لها زوجها أن تخرج في أطمارها الخلقان ولا تتزين فإن أبت أن تخرج كذلك فللزوج أن يمنعها عن الخروج ويروى عن عائشة رضي الله عنها قالت لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل ويروى عن سفيان الثوري أنه كره اليوم الخروج للنساء إلى العيد

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( كان يخرج الأبكار ) جمع البكر . قال في القاموس : البكر بالكسر العذراء جمعه أبكار ( والعواتق ) جمع عاتق وهي المرأة الشابة أول ما تدرك ، وقيل : هي التي لم تبن من والديها ولم تتزوج بعد إدراكها ، وقيل : هي التي قاربت البلوغ . وقال ابن السكيت : هي ما بين أن تدرك إلى أن تعنس ولم تزوج كذا في قوت المغتذي . وقال الحافظ في الفتح : وهي من بلغت الحلم أو قاربت واستحقت التزويج ، أو هي الكريمة على أهلها ، أو التي عتقت عن الامتهان في الخروج للخدمة ، قال : وبين العاتق والبكر عموم وخصوص وجهي ، انتهى .

                                                                                                          ( وذوات الخدور ) جمع الخدر ، قال الجزري في النهاية : الخدر ناحية في البيت يترك عليها ستر فتكون فيه الجارية البكر ، انتهى .

                                                                                                          ( والحيض ) بضم الحاء وتشديد التحتية المفتوحة جمع حائض ( فيعتزلن المصلى ) هو خبر بمعنى الأمر قال في الفتح : حمله الجمهور على الندب ؛ لأن المصلى ليس بمسجد فيمتنع الحيض من دخوله . وقال ابن المنير : الحكمة في اعتزالهن أن في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات إظهار استهانة بالحال فاستحب لهن اجتناب ذلك ( ويشهدن ) أي : يحضرن ( إن لم يكن لها جلباب ) بكسر الجيم قال الجزري : الجلباب : الإزار والرداء ، وقيل : الملحفة ، وقيل : هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها جمعه جلابيب ، انتهى .

                                                                                                          وقال في القاموس : الجلباب كسرداب وسنمار [ ص: 75 ] القميص وثوب واسع للمرأة دون الملحفة أو ما تغطي به ثيابها من فوق ؛ كالملحفة أو هو الخمار انتهى . ( فلتعرها ) من الإعارة ( أختها ) أي : صاحبتها ( من جلبابها ) أي : فلتعرها من ثيابها ما لا تحتاج إليه ، وفي رواية الشيخين : لتلبسها صاحبتها من جلبابها . قال الحافظ : يحتمل أن يكون للجنس أي : تعيرها من جنس ثيابها ، ويؤيده رواية ابن خزيمة من جلابيبها وللترمذي : فلتعرها أختها من جلابيبها ، ويحتمل أن يكون المراد تشركها معها في ثوبها ، ويؤيده رواية أبي داود : تلبسها صاحبتها طائفة من ثوبها يعني إذا كان واسعا . ويحتمل أن يكون المراد بقوله : ( ثوبها ) جنس الثياب فيرجع للأول . ويؤخذ منه جواز اشتمال المرأتين في ثوب واحد عند التستر وقيل : إنه ذكر على سبيل المبالغة ؛ أي : يخرجن على كل حال ولو اثنتين في جلباب ، انتهى .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن ابن عباس وجابر ) أما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجه بلفظ : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج بناته ونساءه في العيدين ، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة وهو مختلف فيه ، وقد رواه الطبراني من وجه آخر . وأما حديث جابر فأخرجه أحمد بلفظ : كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج في العيدين ويخرج أهله ، وفي إسناده الحجاج المذكور .

                                                                                                          وفي الباب أيضا عن ابن عمر عند الطبراني في الكبير وعن ابن عمرو بن العاص عنده أيضا وعن عائشة عند ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد في المسند ، ولعائشة حديث آخر عند الطبراني في الأوسط وعن عمرة أخت عبد الله بن رواحة عند أحمد وأبي يعلى والطبراني في الكبير ، وقد ذكر الشوكاني أحاديث هؤلاء الصحابة -رضي الله عنهم- في النيل .

                                                                                                          قوله : ( حديث أم عطية حديث حسن صحيح ) أخرجه الجماعة .

                                                                                                          قوله : ( وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث ورخص للنساء في الخروج إلى [ ص: 76 ] العيدين ) واحتجوا بأحاديث الباب ، فإنها قاضية بمشروعية خروج النساء في العيدين إلى المصلى من غير فرق بين البكر والثيب والشابة والعجوز والحائض وغيرها ( وروي عن ابن المبارك أنه قال : أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين إلخ ) . قال الشوكاني في النيل : اختلف العلماء في خروج النساء إلى العيدين على أقوال :

                                                                                                          إحداها : أن ذلك مستحب ، وحملوا الأمر فيه على الندب ، ولم يفرقوا بين الشابة والعجوز ، وهذا قول أبي حامد من الحنابلة والجرجاني من الشافعية وهو ظاهر إطلاق الشافعي .

                                                                                                          والقول الثاني : التفرقة بين الشابة والعجوز . قال العراقي : وهو الذي عليه جمهور الشافعية تبعا لنص الشافعي في المختصر .

                                                                                                          والقول الثالث : أنه جائز غير مستحب لهن مطلقا ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد فيما نقله عنه ابن قدامة

                                                                                                          والرابع : أنه مكروه وقد حكاه الترمذي عن الثوري وابن المبارك ، وهو قول مالك وأبي يوسف وحكاه ابن قدامة عن النخعي ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وروى ابن أبي شيبة عن النخعي أنه كره للشابة أن تخرج إلى العيد .

                                                                                                          والقول الخامس : أنه حق على النساء الخروج إلى العيد ، حكاه القاضي عياض عن أبي بكر وعلي وابن عمر . وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي بكر وعلي أنهما قالا : حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين ، انتهى .

                                                                                                          والقول بكراهة الخروج على الإطلاق رد للأحاديث الصحيحة بالآراء الفاسدة ، وتخصيص الثواب يأباه صريح الحديث المتفق عليه وغيره . انتهى كلام الشوكاني .

                                                                                                          ( في أطمارها ) جمع طمر بالكسر وسكون الميم : الثوب الخلق ، أو الكساء البالي من غير الصوف قاله في القاموس ( ويروى عن عائشة قالت : لو رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء ) أخرجه الشيخان ، واستدل بهذا على منع خروج النساء إلى العيدين والمسجد مطلقا . ورد بأنه لا يترتب على ذلك تغير الحكم ؛ لأنها علقته على شرط لم يوجد ، بناء على ظن ظنته ، فقالت : لو رأى لمنع ، فيقال عليه : لم ير ولم يمنع فاستمر الحكم حتى إن عائشة لم تصرح بالمنع ، وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع .

                                                                                                          وأيضا فقد علم الله سبحانه ما سيحدثن فما أوحى إلى نبيه بمنعهن ، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى .

                                                                                                          [ ص: 77 ] وأيضا فالإحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن ، فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثت ، قال الحافظ في الفتح : وقال فيه : والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإشارته -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بمنع التطيب والزينة وكذلك التقييد بالليل . وقال في شرح حديث أم عطية في باب إذا لم يكن لها جلباب من أبواب العيدين : وقد ادعى بعضهم النسخ فيه .

                                                                                                          قال الطحاوي : وأمره -عليه السلام- بخروج الحيض وذوات الخدور إلى العيد يحتمل أن يكون في أول الإسلام والمسلمون قليل ، فأريد التكثير بحضورهن إرهابا للعدو . وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك .

                                                                                                          وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال . قال الكرماني : تاريخ الوقت لا يعرف ، قال الحافظ : بل هو معروف بدلالة حديث ابن عباس أنه شهده وهو صغير وكان ذلك بعد فتح مكة ، فلم يتم مراد الطحاوي ، وقد صرح في حديث أم عطية بعلة الحكم وهو شهودهن الخير ودعوة المسلمين ، ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته ، وقد أفتت به أم عطية بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بمدة كما في هذا الحديث ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك . قال : والأولى أن يخص بمن يؤمن عليها وبها الفتنة ، ولا يترتب على حضورها محذور و ولا تزاحمها الرجال في الطرق ولا في المجامع ، انتهى كلام الحافظ باختصار .

                                                                                                          ( ويروى عن سفيان الثوري أنه كره اليوم الخروج للنساء إلى العيد ) وهو قول الحنفية في حق الشواب ، وأما العجائز فقد جوز الشيخ ابن الهمام وغيره خروجهن إلى العيد . قال ابن الهمام : وتخرج العجائز للعيد لا الشواب ، انتهى . قال القاري في المرقاة بعد نقل كلام ابن الهمام هذا ما لفظه : وهو قول عدل لكن لا بد أن يقيد بأن تكون غير مشتهاة في ثياب بذلة بإذن حليلها مع الأمن من المفسدة بأن لا يختلطن بالرجال ، أو يكن خاليات من الحلي والحلل والبخور والشموم والتبختر والتكشف ونحوها مما أحدثن في هذا الزمان من المفاسد . وقد قال أبو حنيفة : ملازمات البيوت لا يخرجن ، انتهى .

                                                                                                          قلت : لا دليل على منع الخروج إلى العيد للشواب مع الأمن من المفاسد مما أحدثن في هذا الزمان ، بل هو مشروع لهن وهو القول الراجح كما عرفت ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                          [ ص: 78 ]



                                                                                                          الخدمات العلمية