الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 228 ] ثم دخلت سنة أربع وسبعين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها عزل عبد الملك طارق بن عمرو عن إمرة المدينة ، وأضافها إلى الحجاج بن يوسف الثقفي ، فقدمها الحجاج ، فأقام بها شهرا ، ثم خرج معتمرا ، ثم عاد إلى المدينة في صفر ، فأقام بها ثلاثة أشهر ، وبنى في بني سلمة مسجدا ، وهو الذي ينسب إليه اليوم ، ويقال : إن الحجاج في هذه السنة وهذه المدة ختم جابرا ، و سهل بن سعد ، وقرعهما ; لم لا نصرا عثمان بن عفان ، وخاطبهما خطابا غليظا - قبحه الله وأخزاه - وقد استقضى أبا إدريس الخولاني - أظنه - على اليمن ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الواقدي : إن الحجاج لما قدم المدينة صعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخطب الناس وقال : يا أهل خبيثة - يعني طيبة - أنتم شر أمة وأخس ، ولولا أن أمير المؤمنين أوصاني بكم لجعلتها مثل جوف حمار ، يا أهل خبيثة ، تمنون ، هل تعوذون إلا بأعواد يابسة - يعني المنبر - ورمة بالية ، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل إلى سهل بن سعد الساعدي ، فقال : ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان ؟ فقال : قد فعلت . فقال : كذبت . ثم أمر به فختم في عنقه [ ص: 229 ] برصاص ، وكذلك فعل بجابر بن عبد الله ; ختمه في يده ، وأنس بن مالك في عنقه ، وكان قصده يذلهم بذلك ، فقال أنس : إن أهل الذمة لا يجوز أن يفعل بهم هذا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : وفيها نقض الحجاج بنيان الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه ، وأعادها على بنيانها الأول .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : الحجاج لم ينقض بنيان الكعبة جميعه ؛ بل إنما هدم الحائط الشامي ، حتى أخرج الحجر من البيت ، ثم سده ، وأدخل في جوف الكعبة ما فضل من الأحجار ، وبقيت الحيطان الثلاثة بحالها ; ولهذا بقي البابان الشرقي والغربي وهما ملصقان بالأرض ، كما هو المشاهد إلى يومنا هذا ، ولكن سد الغربي بالكلية ، وردم أسفل الشرقي ، حتى جعله مرتفعا كما كان في الجاهلية ، ولم يبلغ الحجاج ولا عبد الملك ما كان بلغ ابن الزبير من العلم النبوي ، الذي كانت أخبرته به خالته أم المؤمنين عائشة بنت الصديق ، رضي الله عنها ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما تقدم ذلك - من قوله : لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر - وفي رواية : بجاهلية - لنقضت الكعبة ، وأدخلت فيها الحجر ، وجعلت لها بابا شرقيا ، وبابا غربيا ، ولألصقتهما بالأرض ، فإن قومك قصرت بهم النفقة ، فلم يدخلوا فيها الحجر ، ولم يتمموها على قواعد إبراهيم ، ورفعوا بابها ليدخلوا من شاءوا ، [ ص: 230 ] ويمنعوا من شاءوا فلما تمكن ابن الزبير بناها كذلك ، ولما بلغ عبد الملك هذا الحديث بعد ذلك قال : وددنا أنا تركناه وما تولى من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة ولي المهلب بن أبي صفرة حرب الأزارقة عن أمر عبد الملك لأخيه بشر بن مروان أن يجهز المهلب إلى الخوارج الأزارقة في جيوش من أهل البصرة والكوفة ، ووجد بشر على المهلب في نفسه ، حيث عينه عبد الملك في كتابه ; فلم يجد بدا من طاعته في تأميره على الناس في هذه الغزوة ، وما كان له من الأمر شيء ، غير أنه أوصى أمير الكوفيين عبد الرحمن بن مخنف أن يستبد بالأمر دونه ، وأن لا يقبل له رأيا ولا مشورة ، فسار المهلب بأهل البصرة ، وأمراء الأرباع معه على منازلهم ، حتى نزل برامهرمز ، فلم يقم عليها إلا عشرا حتى جاء نعي بشر بن مروان ، وأنه مات بالبصرة ، واستخلف عليها خالد بن عبد الله ، فارفض بعض الجيش ، ورجعوا إلى البصرة ، فبعثوا في آثارهم من يردهم ، وكتب خالد بن عبد الله إلى الفارين يتوعدهم إن لم يرجعوا إلى أميرهم ، ويتوعدهم بسطوة عبد الملك ، فعدلوا يستأذنون عمرو بن حريث في المصير إلى الكوفة ، فكتب إليهم : إنكم تركتم أميركم ، وأقبلتم عاصين مخالفين ، وليس لكم إذن ولا إمام ولا أمان . فلما جاءهم ذلك ، أقبلوا إلى رحالهم فركبوها ، ثم ساروا إلى بعض البلاد ، فلم يزالوا مختفين بها حتى قدم الحجاج واليا على العراق مكان بشر بن مروان ، كما سيأتي بيانه قريبا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 231 ] وفي هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وشاح التميمي عن إمرة خراسان ، وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد القرشي ; ليجتمع عليه الناس ، فإنه قد كادت الفتنة تتفاقم بخراسان بعد عبد الله بن خازم ، فلما قدم أمية بن عبد الله خراسان عرض على بكير بن وشاح أن يكون على شرطته ، فأبى ، وطلب منه أن يوليه طخارستان ، فخوفوه منه أن يخلعه هنالك ، فتركه مقيما عنده .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : وحج بالناس فيها الحجاج ، وهو على إمرة المدينة ومكة واليمن واليمامة . قال ابن جرير : وقد قيل : إن عبد الملك اعتمر في هذه السنة ، ولا نعلم صحة ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية