الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    104 - ( فصل )

                    ومن ذلك : أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة - كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك - فلولي الأمر : أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم ، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك ; ولهذا قالت طائفة من أصحاب أحمد والشافعي : إن تعلم هذه الصناعات فرض على الكفاية ، لحاجة الناس إليها ، وكذلك تجهيز الموتى ودفنهم ، وكذلك أنواع الولايات العامة والخاصة التي لا تقوم مصلحة الأمة إلا بها .

                    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى أمر ما يليه بنفسه ، ويولي فيما بعد عنه ، كما ولى على مكة عتاب بن أسيد ، وعلى الطائف : عثمان بن أبي العاص الثقفي ، وعلى قرى عرينة : خالد بن سعيد بن العاص ، وبعث عليا ومعاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن ، وكذلك كان يؤمر على السرايا ، ويبعث السعاة على الأموال الزكوية ، فيأخذونها ممن هي عليه ، ويدفعونها إلى مستحقيها ، فيرجع الساعي إلى المدينة [ ص: 209 ] وليس معه إلا سوطه ، ولا يأتي بشيء من الأموال إذا وجد لها موضعا يضعها فيه .

                    105 - ( فصل )

                    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على عماله ، يحاسبهم على المستخرج والمصروف ، كما في " الصحيحين " عن أبي حميد الساعدي { أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الأزد ، يقال له : ابن اللتبية ، على الصدقات فلما رجع حاسبه ، فقال : هذا لكم ، وهذا أهدي إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله ، فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي ؟ أفلا قعد في بيت أبيه وأمه ، فنظر : أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفسي بيده ، لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيرا له رغاء ، وإن كانت بقرة لها خوار ، وإن كانت شاة تيعر ، ثم رفع يديه إلى السماء ، وقال : اللهم هل بلغت ؟ قالها مرتين ، أو ثلاثا } " .

                    والمقصود : أن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص واحد صارت فرض عين عليه ، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم ، أو نساجتهم ، أو بنائهم ، صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم ، يجبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل ، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل ، ولا يمكن الناس من ظلمهم ، بأن يعطوهم دون حقهم ، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم وألزم من صناعته الفلاحة أن يقوم بها : ألزم الجند بألا يظلموا الفلاح ، كما يلزم الفلاح بأن يفلح .

                    ولو اعتمد الجند والأمراء مع الفلاحين : ما شرعه الله ورسوله ، وجاءت به السنة ، وفعله الخلفاء الراشدون ، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض ، وكان الذي يحصل لهم من المغل أضعاف ما يحصلونه بالظلم والعدوان ، ولكن يأبى جهلهم وظلمهم إلا أن يرتكبوا الظلم والإثم ، فيمنعوا البركة وسعة الرزق ، فيجتمع لهم عقوبة الآخرة ، ونزع البركة في الدنيا .

                    فإن قيل : وما الذي شرعه الله ورسوله ، وفعله الصحابة ، حتى يفعله من وفقه الله ؟ [ ص: 210 ] قيل : المزارعة العادلة ، التي يكون المقطع والفلاح فيها على حد سواء من العدل ، لا يختص أحدهما عن الآخر بشيء من هذه الرسوم التي ما أنزل الله بها من سلطان ، وهي التي خربت البلاد وأفسدت العباد ، ومنعت الغيث ، وأزالت البركات ، وعرضت أكثر الجند والأمراء لأكل الحرام ، وإذا نبت الجسد على الحرام فالنار أولى به .

                    وهذه المزارعة العادلة : هي عمل المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين ، وهي عمل آل أبي بكر وآل عمر ، وآل عثمان ، وآل علي ، وغيرهم من بيوت المهاجرين ، وهي قول أكابر الصحابة ، كابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت وغيرهم ، وهي مذهب فقهاء الحديث ، كأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ، وداود بن علي ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ، وأبي بكر بن المنذر ، ومحمد بن نصر المروزي ، وهي مذهب عامة أئمة المسلمين ، كالليث بن سعد ، وابن أبي ليلى ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن وغيرهم .

                    وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات ، ولم تزل تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر عن خيبر ، وكان قد شارطهم أن يعمروها من أموالهم ، وكان البذر منهم ، لا من النبي صلى الله عليه وسلم .

                    ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء : أن البذر يجوز أن يكون من العامل كما مضت به السنة ، بل قد قالت طائفة من الصحابة : لا يكون البذر إلا من العامل ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأنهم أجروا البذر مجرى النفع والماء .

                    والصحيح : أنه يجوز أن يكون من رب الأرض ، وأن يكون من العامل ، وأن يكون منهما ، وقد ذكر البخاري كما في صحيحه " : " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عامل الناس على : إن جاء عمر بالبذر من عنده : فله الشطر ، وإن جاءوا بالبذر : فلهم كذا " .

                    والذين منعوا المزارعة منهم من احتج ب { أن النبي صلى الله عليه وسلم : نهى عن المخابرة } ولكن الذي [ ص: 211 ] نهى عنه : هو الظلم : فإنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها ، ويشترطون ما على الماذيانات وأقبال الجداول وشيئا من التبن يختص به صاحب الأرض ، ويقتسمان الباقي .

                    وهذا الشرط باطل بالنص والإجماع ، فإن المعاملة مبناها على العدل من الجانبين ، وهذه المعاملات من جنس المشاركات ، لا من باب المعاوضات ، والمشاركة العادلة : هي أن يكون لكل واحد من الشريكين جزء شائع ، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر كان ظلما .

                    فهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الليث بن سعد : الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك : أمر إذا نظر ذو البصيرة بالحلال والحرام فيه : علم أنه لا يجوز ، وأما ما فعله هو وفعله خلفاؤه الراشدون والصحابة : فهو العدل المحض الذي لا ريب في جوازه .

                    106 - ( فصل )

                    وقد ظن طائفة من الناس : أن هذه المشاركات من باب الإجارة بعوض مجهول ، فقالوا : القياس يقتضي تحريمها .

                    ثم منهم من حرم المساقاة والمزارعة ، وأباح المضاربة ، استحسانا للحاجة ، لأن الدراهم لا تؤجر ، كما يقول أبو حنيفة .

                    ومنهم من أباح المساقاة : إما مطلقا ، كقول مالك والشافعي في القديم ، أو على النخل والعنب خاصة ، كالجديد له ، لأن الشجر لا تمكن إجارته ، بخلاف الأرض ، وأباح ما يحتاج إليه من المزارعة تبعا للمساقاة .

                    ثم منهم من قدر ذلك بالثلث ، كقول مالك . ومنهم من اعتبر كون الأرض أغلب ، كقول الشافعي .

                    وأما جمهور السلف والفقهاء ، فقالوا : ليس ذلك من باب الإجارة في شيء ، بل هو من باب المشاركات ، التي مقصود كل منهما مثل مقصود صاحبه ، بخلاف الإجارة ، فإن هذا مقصوده العمل ، وهذا مقصوده الأجرة ; ولهذا كان الصحيح أن هذه المشاركات إذا فسدت وجب فيها نصيب المثل ، لا أجرة المثل ، فيجب من الربح والنماء في فاسدها نظير ما يجب في صحيحها ، لا أجرة مقدرة ، فإن لم يكن ربح ولا نماء : لم يجب شيء ، فإن أجرة المثل قد تستغرق رأس المال وأضعافه وهذا ممتنع ، فإن قاعدة الشرع : أنه يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح منها ، كما يجب في النكاح الفاسد مهر المثل ، وهو نظير ما يجب في الصحيح ، وفي البيع الفاسد إذا فات : ثمن المثل ، وفي الإجارة الفاسدة أجرة المثل ، فكذلك يجب في المضاربة الفاسدة : ربح المثل ، وفي المساقاة والمزارعة الفاسدة : [ ص: 212 ] نصيب المثل ، فإن الواجب في صحيحها ليس هو أجرة مسماة فتجب في فاسدها أجرة المثل ، بل هو جزء شائع من الربح ، فيجب في الفاسدة نظيره .

                    قال شيخ الإسلام وغيره من الفقهاء : والمزارعة أحل من المؤاجرة ، وأقرب إلى العدل ، فإنهما يشتركان في المغرم والمغنم ، بخلاف المؤاجرة ، فإن صاحب الأرض تسلم له الأجرة ، والمستأجر قد يحصل له زرع ، وقد لا يحصل .

                    والعلماء مختلفون في جواز هذا وهذا ، والصحيح : جوازهما ، سواء كانت الأرض إقطاعا أم غيره .

                    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وما علمت أحدا من علماء الإسلام - الأئمة الأربعة ولا غيرهم - قال : إجارة الإقطاع لا تجوز ، وما زال المسلمون يؤجرون إقطاعاتهم قرنا بعد قرن ، من زمن الصحابة إلى زمننا هذا ، حتى أحدث بعض أهل زماننا فابتدع القول ببطلان إجارة الإقطاع .

                    وشبهته : أن المقطع لا يملك المنفعة ، فيصير كالمستعير ، لا يجوز أن يكري الأرض المعارة ، وهذا القياس خطأ من وجهين : أحدهما : أن المستعير لم تكن المنفعة حقا له ، وإنما تبرع المعير بها ، وأما أراضي المسلمين : فمنفعتها حق للمسلمين ، وولي الأمر قاسم بينهم حقوقهم ، ليس متبرعا لهم كالمعير . والمقطع مستوف المنفعة بحكم الاستحقاق ، كما يستوفي الموقوف عليه منافع الوقف وأولى .

                    وإذا جاز للموقوف عليه أن يؤجر الوقف - وإن أمكن أن يموت فتنفسخ الإجارة بموته على الصحيح - فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر الإقطاع وإن انفسخت الإجارة بموته أولى .

                    الثاني : أن المعير لو أذن في الإجارة جازت الإجارة ، وولي الأمر يأذن للمقطع في الإجارة ، فإنه إنما أقطعهم لينتفعوا بها : إما بالمزارعة وإما بالإجارة ومن منع الانتفاع بها بالإجارة والمزارعة فقد أفسد على المسلمين دينهم ودنياهم ، وألزم الجند والأمراء أن يكونوا هم الفلاحين ، وفي ذلك من الفساد ما فيه .

                    وأيضا : فإن الإقطاع قد يكون دورا وحوانيت ، لا ينتفع بها المقطع إلا بالإجارة ، فإذا لم تصح إجارة الإقطاع تعطلت منافع ذلك بالكلية ، وكون الإقطاع معرضا لرجوع الإمام فيه مثل كون الموهوب للولد معرضا لرجوع الوالد فيه ، وكون الصداق قبل الدخول معرضا لرجوع نصفه أو كله إلى الزوج ، وذلك لا يمنع صحة الإجارة بالاتفاق ، فليس مع المبطل نص ولا قياس ، ولا مصلحة ولا نظير .

                    وإذا أبطلوا المزارعة والإجارة لم يبق بيد الجند إلا أن يستأجروا من أموالهم من يزرع الأرض ويقوم عليها ، وهذا لا يكاد يفعله إلا قليل من الناس ، لأنه قد يخسر ماله ، ولا يحصل له شيء ، بخلاف المشاركة ، فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم ، فهي أقرب إلى العدل . [ ص: 213 ]

                    وهذه المسألة ذكرت استطرادا ، وإلا فالمقصود : أن الناس إذا احتاجوا إلى أرباب الصناعات كالفلاحين وغيرهم - أجبروا على ذلك بأجرة المثل . وهذا من التسعير الواجب ، فهذا تسعير في الأعمال .

                    وأما التسعير في الأموال : فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد وآلات ، فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل ، ولا يمكنوا من حبسه إلا بما يريدونه من الثمن ، والله تعالى قد أوجب الجهاد بالنفس والمال ، فكيف لا يجب على أرباب السلاح بذله بقيمته ؟ ومن أوجب على العاجز ببدنه أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه ولم يوجب على المستطيع بماله أن يخرج ما يجاهد به الغير : فقوله ظاهر التناقض ، وهذا أحد الروايتين عن الإمام أحمد ، وهو الصواب .

                    107 - ( فصل )

                    وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ، ولا من يبيع طحينا وخبزا ، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم ، وكان من قدم بالحب لا يتلقاه أحد ، بل يشتريه الناس من الجالبين ; ولهذا جاء في الحديث : { الجالب مرزوق ، والمحتكر ملعون } .

                    وكذلك لم يكن في المدينة حائك ، بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما ، فيشترونها ويلبسونها .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية