الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( قال الأستاذ ) : الصراط المستقيم : هو الطريق الموصل إلى الحق ، ولكنه تعالى ما بينه بذلك كما بينه في نحو سورة العصر وإنما بينه بإضافته إلى من سلك هذا الصراط كما قال في سورة الأنعام : ( فبهداهم اقتده ) وقد قلنا : إن الفاتحة مشتملة على إجمال ما فصل في القرآن حتى من الأخبار ، التي هي مثل الذكرى والاعتبار ، وينبوع العظة والاستبصار ، وأخبار القرآن كلها تنطوي في إجمال هذه الآية .

                          ( قال ) : فسر بعضهم المنعم عليهم بالمسلمين ، والمغضوب عليهم : باليهود ، والضالين بالنصارى ، ونحن نقول إن الفاتحة أول سورة نزلت كما قال الإمام علي رضي الله عنه ، وهو أعلم بهذا من غيره ؛ لأنه تربى في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأول من آمن به ، وإن لم تكن أول سورة على الإطلاق فلا خلاف في أنها من أوائل السور ( كما مر في المقدمة ) [ ص: 56 ] ولم يكن المسلمون في أول نزول الوحي بحيث يطلب الاهتداء بهداهم ، وما هداهم إلا من الوحي ثم هم المأمورون بأن يسألوا الله أن يهديهم هذه السبيل ، سبيل من أنعم الله عليهم من قبلهم ، فأولئك غيرهم ، وإنما المراد بهذا ما جاء في قوله تعالى : " ( فبهداهم اقتده " وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من الأمم السالفة . فقد أحال على معلوم أجمله في الفاتحة وفصله في سائر القرآن بقدر الحاجة ، فثلاثة أرباع القرآن تقريبا قصص . وتوجيه للأنظار إلى الاعتبار بأحوال الأمم ، في كفرهم وإيمانهم ، وشقاوتهم وسعادتهم ، ولا شيء يهدي الإنسان كالمثلات والوقائع . فإذا امتثلنا الأمر والإرشاد ، ونظرنا في أحوال الأمم السالفة ، وأسباب علمهم وجهلهم ، وقوتهم وضعفهم ، وعزهم وذلهم ، وغير ذلك مما يعرض للأمم - كان لهذا النظر أثر في نفوسنا يحملنا على حسن الأسوة والاقتداء بأخبار تلك الأمم فيما كان سبب السعادة والتمكن في الأرض ، واجتناب ما كان سبب الشقاوة أو الهلاك والدمار . ومن هنا ينجلي للعاقل شأن علم التاريخ وما فيه من الفوائد والثمرات ، وتأخذه الدهشة والحيرة إذا سمع أن كثيرا من رجال الدين من أمة هذا كتابها يعادون التاريخ باسم الدين ويرغبون عنه ، ويقولون : إنه لا حاجة إليه ولا فائدة له . وكيف لا يدهش ويحار والقرآن ينادي بأن معرفة أحوال الأمم من أهم ما يدعو إليه هذا الدين ؟ ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات ) ( 13 : 6 ) .

                          وهاهنا سؤال وهو : كيف يأمرنا الله تعالى باتباع صراط من تقدمنا وعندنا أحكام وإرشادات لم تكن عندهم ، وبذلك كانت شريعتنا أكمل من شرائعهم ، وأصلح لزماننا وما بعده ؟ والقرآن يبين لنا الجواب وهو أنه يصرح بأن دين الله في جميع الأمم واحد ، وإنما تختلف الأحكام بالفروع التي تختلف باختلاف الزمان ، وأما الأصول فلا خلاف فيها . قال تعالى : ( قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) ( 3 : 64 ) الآية ، وقال تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) ( 4 : 163 ) الآية . فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر ، وترك الشر وعمل البر ، والتخلق بالأخلاق الفاضلة مستو في الجميع . وقد أمرنا الله بالنظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه : لنقتدي بهم في القيام على أصول الخير . وهو أمر يتضمن الدليل على أن في ذلك الخير والسعادة . على حسب طريقة القرآن في قرن الدليل بالمدلول والعلة بالمعلول ، والجمع بين السبب والمسبب . وتفصيل الأحكام التي هذه كلياتها بالإجمال ، نعرفه من شرعنا وهدي نبينا عليه الصلاة والسلام ا هـ بتفصيل وإيضاح . وأزيد هنا أن في الإسلام من ضروب الهداية ما قد يعد من الأصول الخاصة بالإسلام ، ويرى أنه مما يستدرك على ما قرره الأستاذ الإمام ، كبناء العقائد في القرآن على البراهين العقلية والكونية ، وبناء الأحكام الأدبية والعملية على قواعد المصالح والمنافع ودفع المضار والمفاسد ، وكبيان أن للكون سننا مطردة تجري عليه عوالمه العاقلة وغير العاقلة ، وكالحث [ ص: 57 ] على النظر في الأكوان ، للعلم والمعرفة بما فيها من الحكم والأسرار التي يرتقي بها العقل وتتسع بها أبواب المنافع للإنسان ، وكل ذلك مما امتاز به القرآن . والجواب عن هذا أنه تكميل لأصول الدين الثلاثة التي بعث بها كل نبي مرسل لجعل بنائه رصينا مناسبا لارتقاء الإنسان . وأما تلك الأصول وهي : الإيمان الصحيح ، وعبادة الله تعالى وحده ، وحسن المعاملة مع الناس ، فهي التي لا خلاف فيها .

                          وأما وصفه تعالى الذين أنعم عليهم بأنهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فالمختار فيه أن المغضوب عليهم هم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به ، والذين بلغهم شرع الله ودينه فرفضوه ولم يتقبلوه ، انصرافا عن الدليل ، ورضاء بما ورثوه من القيل ، ووقوفا عند التقليد ، وعكوفا على هوى غير رشيد ، وغضب الله يفسرونه بلازمه : وهو العقاب ، ووافقهم الأستاذ الإمام ، والذي ينطبق على مذهب السلف أن يقال : إنه شأن من شئونه تعالى يترتب عليه عقوبته وانتقامه ، وإن الضالين هم الذين لم يعرفوا الحق ألبتة ، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح الذي يقرن به العمل كما سيأتي تفصيله . وقرن المعطوف في قوله " ( ولا الضالين " بلا لما في " غير " من معنى النفي ، أي وغير الضالين ، ففيه تأكيد للنفي . وهو يدل على أن الطوائف ثلاث : المنعم عليهم ، والمغضوب عليهم ، والضالون . ولا شك أن المغضوب عليهم ضالون أيضا لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا الغاية واستقبلوا غير وجهتها ، فلا يصلون منها إلى المطلوب ، ولا يهتدون فيها إلى مرغوب ، ولكن فرقا بين من عرف الحق فأعرض عنه على علم ، وبين من لم يظهر له الحق فهو تائه بين الطرق ، لا يهتدي إلى الجادة الموصلة منها ، وهم من لم تبلغهم الرسالة ، أو بلغتهم على وجه لم يتبين لهم فيه الحق . فهؤلاء هم أحق باسم الضالين ، فإن الضال حقيقة : هو التائه الواقع في عماية لا يهتدي معها إلى المطلوب ، والعماية في الدين : هي الشبهات التي تلبس الحق بالباطل وتشبه الصواب بالخطأ .

                          الأستاذ الإمام : الضالون على أقسام : -

                          القسم الأول من لم تبلغهم الدعوة إلى الرسالة ، أو بلغتهم على وجه لا يسوق إلى النظر . فهؤلاء لم يتوفر لهم من أنواع الهداية سوى ما يحصل بالحس والعقل ، وحرموا رشد الدين ، فإن لم يضلوا في شئونهم الدنيوية ضلوا لا محالة فيما تطلب به نجاة الأرواح وسعادتها في الحياة الأخرى . على أن من شأن الدين الصحيح أن يفيض على أهله من روح الحياة ما به يسعدون في الدنيا والآخرة معا ، فمن حرم الدين حرم السعادتين ، وظهر أثر التخبط والاضطراب في أعماله المعاشية ، وحل به من الرزايا ما يتبع الضلال والخبط عادة ، سنة الله في هذا العالم ولن تجد لسنته تبديلا . أما أمرهم في الآخرة فعلى أنهم لن يساووا المهتدين في منازلهم ، وقد يعفو الله عنهم وهو الفعال لما يريد .

                          [ ص: 58 ] وأزيد في إيضاح كلام الأستاذ : أن الذين حرموا هداية الدين لا يعقل أن يؤاخذوا في الآخرة على ترك شيء مما لا يعرف إلا بهذه الهداية . وهذا هو معنى كونهم غير مكلفين ، وعليه جمهور المتكلمين لقوله تعالى في سورة الإسراء ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ( 17 : 15 ) ومن قال : إنهم مكلفون بالعقل لا يظهر وجه لقوله إلا إذا أراد أن حالهم في الآخرة تكون على حسب ارتقاء أرواحهم بهداية العقل وسلامة الفطرة ، إذ لا شك أن من لم يبعث فيهم رسول يتفاوتون في إدراكهم وأعمالهم بتفاوت استعدادهم الفطري وما يصادفون من حسن التربية وقبحها . وبهذا يجمع بين القولين في تكليفهم وعدمه أو يفصل بينها . وما يعطيهم الله تعالى إياه في الآخرة على حسب حالهم في الخير والشر والفضيلة والرزيلة - يكون جزاء عادلا على أعمالهم الاختيارية ويزيدهم من فضله إن شاء وسأفصل هذا المعنى في تفسير الآيات المنزلة فيه إن شاء الله تعالى . وأعود الآن إلى إتمام سياق الأستاذ ، قال :

                          ( القسم الثاني ) : من بلغته الدعوة على وجه يبعث على النظر ، فساق همته إليه ، واستفرغ جهده فيه ، ولكن لم يوفق إلى الإيمان بما دعي إليه ، وانقضى عمره وهو في الطلب ، وهذا القسم لا يكون إلا أفرادا متفرقة في الأمم ، ولا يعم حاله شعبا من الشعوب ، فلا يظهر له أثر في أحوالها العامة ، وما يكون لها من سعادة وشقاء في حياتها الدنيا أما صاحب هذه الحالة فقد ذهب بعض الأشاعرة إلى أنه ممن ترجى له رحمة الله تعالى ، وينقل صاحب هذا الرأي مثله عن أبي الحسن الأشعري وأما على رأي الجمهور فلا ريب أن مؤاخذته أخف من مؤاخذة الجاحد الذي أنكر التنزيل ، واستعصى على الدليل ، وكفر بنعمة العقل ، ورضي بحظه من الجهل .

                          ( القسم الثالث ) : من بلغتهم الرسالة وصدقوا بها ، بدون نظر في أدلتها ولا وقوف على أصولها ، فاتبعوا أهواءهم في فهم ما جاءت به من أصول العقائد ، وهؤلاء هم المبتدعة في كل دين ، ومنهم المبتدعون في دين الإسلام ، وهم المنحرفون في اعتقادهم عما تدل عليه جملة القرآن وما كان عليه السلف الصالح وأهل الصدر الأول ، ففرقوا الأمة إلى مشارب ، يغص بمائها الوارد ، ولا يرتوي منها الشارب ، ( قال ) : وإني أشير إلى طرف من آثارهم في الناس : يأتي الرجل إلى دوائر القضاء فيستحلف بالله العلي العظيم ، أو بالمصحف الكريم وهو كلام الله القديم ، - أنه ما فعل كذا ، فيحلف وعلامة الكذب بادية على وجهه ، فيأتيه المستحلف من طريق آخر ويحمله على الحلف بشيخ من المشايخ الذين يعتقد لهم الولاية ، فيتغير لونه ، وتضطرب أركانه ، ثم يرجع في أليته ويقول الحق ، ويقر بأنه فعل ما حلف أولا أنه لم يفعله ، تكريما لاسم ذلك الشيخ ، وخوفا منه أن يسلب عنه نعمة أو يحل به نقمة إذا حلف [ ص: 59 ] باسمه كاذبا . فهذا ضلال في أصول العقيدة ، يرجع إلى الضلال في الإيمان بالله تعالى وما يجب له من الوحدانية في الأفعال ، ولو أردنا أن نسرد ما وقع فيه المسلمون من الضلال في العقائد الأصلية بسبب البدع التي عرضت على دين الإسلام لطال المقال ، واحتيج إلى وضع مجلدات في وجوه الضلال ، ومن أشنعها أثرا ، وأشدها ضررا ، خوض رؤساء الفرق منهم في مسائل القضاء والقدر ، والاختيار والجبر ، وتحقيق الوعد والوعيد ، وتهوين مخالفة الله على نفوس العبيد .

                          إذا وزنا ما في أدمغتنا من الاعتقادات بكتاب الله تعالى من غير أن ندخلها أولا فيه يظهر لنا كوننا مهتدين أو ضالين . وأما إذا أدخلنا ما في أدمغتنا في القرآن وحشرناها فيه أولا فلا يمكننا أن نعرف الهداية من الضلال لاختلاط الموزون بالميزان . فلا يدرى ما هو الموزون من الموزون به - أريد أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين لا أن تكون المذاهب أصلا والقرآن هو الذي يحمل عليها ، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها ، كما جرى عليه المخذولون ، وتاه فيه الضالون .

                          ( القسم الرابع ) : ضلال في الأعمال ، وتحريف للأحكام عما وضعت له ، كالخطأ في فهم معنى الصلاة والصيام وجميع العبادات ، والخطأ في فهم الأحكام التي جاءت في المعاملات ، ولنضرب لذلك مثلا : الاحتيال في الزكاة بتحويل المال إلى ملك الغير قبل حلول الحول ثم استرداده بعد مضي قليل من الحول الثاني ، حتى لا تجب الزكاة فيه ، ويظن المحتال أنه بحيلته قد خلص من أداء الفريضة ، ونجا من غضب من لا تخفى عليه خافية ، ولا يعلم أنه بذلك قد هدم ركنا من أهم أركان دينه ، وجاء بعمل من يعتقد أن الله قد فرض فرضا وشرع بجانب ذلك الفرض ما يذهب به ويمحو أثره ، وهو محال عليه جل شأنه .

                          ثلاثة أقسام من هذا الضلال أولها وثالثها ورابعها يظهر أثرها في الأمم فتختل قوى الإدراك فيها ، وتفسد الأخلاق ، وتضطرب الأعمال ، ويحل بها الشقاء ، عقوبة من الله لا بد من نزولها بهم ، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تحويلا . ويعد حلول الضعف ونزول البلاء بأمة من الأمم من العلامات والدلائل على غضب الله تعالى عليها لما أحدثته في عقائدها وأعمالها مما لا يخالف سننه ، ولا يتبع فيه سننه . لهذا علمنا الله تعالى كيف ندعوه بأن يهدينا طريق الذين ظهرت نعمته عليهم بالوقوف عند حدوده ، وتقويم العقول والأعمال بفهم ما هدانا إليه ، وأن يجنبنا طرق أولئك الذين ظهرت فيهم آثار نقمه بالانحراف عن شرائعه ، سواء كان ذلك عمدا وعنادا ، أو غواية وجهلا .

                          إذا ضلت الأمة سبيل الحق ولعب الباطل بأهوائها ، ففسدت أخلاقها واعتلت أعمالها ، [ ص: 60 ] وقعت في الشقاء لا محالة ، وسلط الله عليها من يستذلها ويستأثر بشئونها ولا يؤخر لها العذاب إلى يوم الحساب ، وإن كانت ستلاقي نصيبها منه أيضا ، فإذا تمادى بها الغي وصل بها إلى الهلاك ، ومحا أثرها من الوجود ، هكذا علمنا الله تعالى كيف ننظر في أحوال من سبقنا ، ومن بقيت آثارهم بين أيدينا من الأمم ، لنعتبر ونميز بين ما به تسعد الأقوام وما به تشقى . أما في الأفراد فلم تجر سنة الله بلزوم العقوبة لكل ضال في هذه الحياة الدنيا ، فقد يستدرج الضال من حيث لا يعلم ، ويدركه الموت قبل أن تزول النعمة عنه ، وإنما يلقى جزاءه ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) ( 82 : 19 ) ا هـ .



                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية