الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 374 ] ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) . لما أسرفت يهود المدينة وما حولها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما فضلهم على مشركي قومه ، وأقرهم على دينهم وما في أيديهم ، بين الله تعالى له مخازيهم التي يشهد بها تاريخهم وكتب دينهم ، وما كان من تأثيرها في أخلاق المعاصرين له وأعمالهم ، ثم عطف على ما تقدم من ذلك هنا قولا فظيعا ، قاله بعضهم ، يدل على الجرأة على الله تعالى فيهم الذي هو أثر ترك التناهي عن المنكر فيما بينهم ، فقال : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) هذا القول الفظيع من شواهد قولهم الإثم ، الذي أثبته فيما قبل هذه الآية . وقد عزي إليهم - وهو قول واحد أو آحاد منهم - لأنه أثر ما فشا فيهم من الجرأة على الله وترك إنكار المنكر ، كما قلنا آنفا ، والمقر للمنكر شريك الفاعل له ، وهذا هو وجه وصل هذه الآية بما قبلها .

                          روى ابن إسحاق والطبراني في الكبير وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رجل [ ص: 375 ] من اليهود يقال له النباش بن قيس : إن ربك بخيل لا ينفق ، فأنزل الله : ( وقالت اليهود ) الآية ، وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس أنها نزلت في فنحاص رأس يهود بني قينقاع ، وروى ابن جرير مثله عن عكرمة ، وروي عن مجاهد أنهم قالوا : لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل حتى جعل يده إلى نحره ، أو حتى إن يده إلى نحره ، فعلى هذا يكون مرادهم أنه ضيق عليهم الرزق كأنهم اعتذروا بهذا عن إنفاق كان يطلب منهم ، أو في حال جدب أصابهم . قيل : كانوا أغنى الناس ، فضاق عليهم الرزق بعد مقاومتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وروي عن السدي في قولهم ومرادهم ، قالوا : إن الله وضع يده على صدره ، فلا يبسطها حتى يرد علينا ملكنا ، وروي عن ابن عباس في معنى عبارتهم أنه قال : ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة ، ولكنهم يقولون إنه بخيل أمسك ما عنده . تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا . فجعل العبارة ابن عباس من باب الكناية لا من باب الحقيقة .

                          وقد جعل بعض أهل الجدل الآية من المشكلات ; لأن يهود عصره ينكرون صدور هذا القول عنهم ; ولأنه يخالف عقائدهم ، ومقتضى دينهم ، ومما قالوه في حل الإشكال : إنهم قالوا ذلك على سبيل الإلزام ، فإنهم لما سمعوا قوله تعالى : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ) ( 2 : 245 ) قالوا : من احتاج إلى القرض كان فقيرا عاجزا مغلول اليدين . بل قالوا ما هو أبعد من هذا في تعليل قولهم ، والخرص في بيان مرادهم منه . وما هذا إلا غفلة عن جرأة أمثالهم في كل عصر على مثل هذا القول البعيد عن الأدب بعد صاحبه عن حقيقة الإيمان ممن ليس لهم من الدين إلا العصبية الجنسية والتقاليد القشرية ، فلا إشكال في صدوره عن بعض المجازفين من اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كان أكثرهم فاسقين فاسدين ، وطالما سمعنا ممن يعدون من المسلمين في عصرنا مثله في الشكوى من الله عز وجل والاعتراض عليه عند الضيق وفي إبان المصائب . وعبارة الآية لا تدل على أن هذا القول يقوله جميع اليهود في كل عصر ، حتى يجعل إنكار بعضهم له في بعض العصور وجها للإشكال في الآية ، وإنما عزاه إلى جنسهم لما ذكرناه آنفا ، على أن الناس في كل زمان يعزون إلى الأمة ما يسمعونه من بعض أفرادها إذا كان مثله لا ينكر فيهم . والقرآن يسند إلى المتأخرين ما قاله وفعله سلفهم منذ قرون ، بناء على قاعدة تكافل الأمة وكونها كالشخص الواحد ، ومثل هذا الأسلوب مألوف في كلام الناس أيضا .

                          واليد تطلق في اللغة على عدة معان . يقول أهل البيان : إن بعضها حقيقة ، وبعضها من المجاز أو الكناية ، فتطلق على الجارحة وعلى النعمة والقدرة والملك والتصرف ، وغير ذلك . رأى أهل التأويل أن هذه الآية يجب تأويلها ; لأن اليد بمعنى الجارحة مما يستحيل نسبته إلى الله [ ص: 376 ] تعالى . ويقول بعض أهل التفويض : بل نثبت له اليد ، وننزهه عن لوازم هذا الإطلاق من مشابهة الناس . وتفسير ابن عباس إمام مفسري السلف والخلف للآية يدل على أنها ليست مما يجري فيه الخلاف بين الخلف والسلف في التأويل والتفويض ; لأن استعمال غل اليد في البخل وبسطها في الجود معروف في اللغة مألوف ، ومنه قوله تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) ( 17 : 29 ) ولا يقول أحد يفهم اللغة : إن هذا من إخراج اللفظ عن ظاهره ، المسمى عندهم بالتأويل .

                          أما قوله تعالى : ( غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) فهو دعاء عليهم ، يناسب جرمهم هذا ، وجزاء لهم بالطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى وعنايته الخاصة بعباده المؤمنين ، قد جاء على طريقة الاستئناف البياني ; لأنه مما تستشرف له النفوس ، وتتساءل عنه بالفعل أو بالقوة ، والمشهور من معنى " غلت أيديهم " : أمسكت أيديهم وانقبضت عن العطاء والإنفاق في سبيل البر والخير ، وهو دعاء عليهم بالبخل ، وما زالوا أبخل الأمم ، فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئا إلا إذا كان يرى أن له من ورائه ربحا ، وقد حسنت أحوالهم في هذا الزمان وارتقت معارفهم وحضارتهم في كثير من البلاد ، وتربوا في أمم من الإفرنج ، صار من تقاليدهم الاجتماعية بذل المال لمعاهد العلم والملاجئ والمستشفيات والجمعيات الخيرية ، وهم على كونهم أغنى هذه الأمم ومضطرون لمجاراتها لا يبذلون إلا دون ما يبذل غيرهم من الإعانات الخيرية ، بل هم على شدة تكافلهم واستمساكهم بالعصبية الملية فيما بينهم ، قلما يساعد أغنياؤهم فقراءهم بالصدقة الخالصة لوجه الله تعالى وحبا في الخير ، بل يتجرون ويرابون بالإعانات ; فيعطون الفقراء مالا على أن يعملوا به في تجارة أو غيرها ، بشرط أن يردوه في مدة معينة ، مع ربا قليل في الغالب .

                          وقيل : إن المراد بغل الأيدي ربطها إلى الأعناق بالأغلال في الدنيا أو في النار أو فيهما . نقل عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذا الغل : يغلون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم ، وقال في تفسير اللعنة : عذبوا في الدنيا بالجزية ، وفي الآخرة بالنار . حكاه عنه نظام الدين النيسابوري في تفسيره ، وأورد واقعة بهذا المعنى حدثت في زمنه ، قال : ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلبا من اليهود مسمى بسعد الدولة ، وهو من أشقى الناس ، كان سمع بهذه الآية ، فاتفق أن وصل إلى بغداد ، فنزل بالمدرسة المستنصرية ، ودعا بمصحف كان مكتوبا بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين ، وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله ، ثم قال : أين هذه الآية ؟ يعني قوله : " غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " فأروه إياه ، فمحاها . فلم يمض إلا أسبوع إلا وقد سخط السلطان عليه ، وبعث في طلبه ، وأمر بغل يديه فغلوه ، وحملوه إليه فأمر بقتله ، اهـ .

                          [ ص: 377 ] والمراد أن السلطان غضب عليه بسبب من أسباب شقاوته التي عرف بها ، لا بسبب اعتدائه وتشويهه للمصحف ; لأن السلطان لم يعلم بذلك ، ولأجل هذا عد المصنف الإيقاع به من معجزات القرآن . وإنما عجبنا نحن في هذه الحكاية من تساهل المسلمين في عهد الحكومة العباسية كيف وصل إلى هذا الحد ; رجل من أشقياء اليهود أهل النفوذ ، يجيء بغداد ، فينزل في مدرسة من أشهر المدارس الإسلامية ، ويكون له من حرية التصرف فيها والعبث بكتبها ما يمكنه من تشويه مصحف أثري ، كان أحسن المصاحف التي حفظها التاريخ في بغداد ؟ ! فليعتبر بهذا التسامح المعتبرون .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية