الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 320 ] النوع الثاني عشر

في كيفية إنزاله

قال تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ( البقرة : 185 ) ، وقال سبحانه : إنا أنزلناه في ليلة القدر ( القدر : 1 ) .

واختلف في كيفية الإنزال على ثلاثة أقوال :

[ ص: 321 ] أحدهما : أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ، ثم نزل بعد ذلك منجما في عشرين سنة ، أو في ثلاث وعشرين ، أو خمس وعشرين على حسب الاختلاف في مدة إقامته بمكة بعد النبوة .

والقول الثاني : أنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدر من عشرين سنة ، وقيل : في ثلاث وعشرين ليلة قدر من ثلاث وعشرين سنة ، وقيل : في خمس وعشرين ليلة قدر من خمس وعشرين سنة ، في كل ليلة ما يقدر الله سبحانه إنزاله في كل السنة ، ثم ينزل بعد ذلك منجما في جميع السنة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

والقول الثالث : أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر ، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات .

والقول الأول أشهر وأصح ، وإليه ذهب الأكثرون ، ويؤيده ما رواه الحاكم في " مستدركه " عن ابن عباس قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة . قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين .

وأخرج النسائي في " التفسير " من جهة حسان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإسناده صحيح ، وحسان هو ابن أبي الأشرس ، وثقه النسائي وغيره .

[ ص: 322 ] وبالثاني قال مقاتل ، والإمام أبو عبد الله الحليمي في " المنهاج " والماوردي في تفسيره .

وبالثالث قال الشعبي وغيره .

واعلم أنه اتفق أهل السنة على أن كلام الله منزل ، واختلفوا في معنى الإنزال ، فقيل : معناه إظهار القرآن ، وقيل : إن الله أفهم كلامه جبريل وهو في السماء ، وهو عال من المكان ، وعلمه قراءته ، ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان .

والتنزيل له طريقان :

أحدهما : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملائكة ، وأخذه من جبريل .

والثاني : أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذ الرسول منه ، والأول أصعب الحالين .

ونقل بعضهم عن السمرقندي حكاية ثلاثة أقوال في المنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو ؟

[ ص: 323 ] أحدها : أنه اللفظ والمعنى ، وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به ، وذكر بعضهم أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ ، كل حرف منها بقدر جبل قاف ، وأن تحت كل حرف معان لا يحيط بها إلا الله - عز وجل - ، وهذا معنى قول الغزالي : " إن هذه الأحرف سترة لمعانيه " .

والثاني : أنه إنما نزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعاني خاصة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - علم تلك المعاني ، وعبر عنها بلغة العرب ، وإنما تمسكوا بقوله تعالى : نزل به الروح الأمين على قلبك ( الشعراء : 193 - 194 ) .

والثالث : أن جبريل - صلى الله عليه وسلم - إنما ألقى عليه المعنى ، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب ، وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية ، ثم إنه أنزل به كذلك بعد ذلك .

فإن قيل : ما السر في إنزاله جملة إلى السماء ؟ قيل فيه تفخيم لأمره ، وأمر من نزل عليه ، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم ، ولقد صرفناه إليهم لينزله عليهم . ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت نزوله منجما بسبب الوقائع لأهبطه إلى الأرض جملة .

فإن قيل : في أي زمان نزل جملة إلى سماء الدنيا ، بعد ظهور نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أم قبلها ؟ قلت : قال الشيخ أبو شامة : الظاهر أنه قبلها ، وكلاهما محتمل ; فإن كان بعدها فوجه التفخيم منه ما ذكرناه ، وإن كان قبلها ففائدته أظهر وأكثر .

فإن قلت : فقوله : إنا أنزلناه في ليلة القدر ( القدر : 1 ) من جملة القرآن الذي نزل جملة أم لا ؟ فإن لم يكن منه فما نزل جملة ؟ وإن كان منه فما وجه صحة هذه العبارة ؟ قلت : ذكر فيه وجهين :

[ ص: 324 ] أحدهما : أن يكون معنى الكلام : ما حكمنا بإنزاله في القدر وقضائه وقدرناه في الأزل ونحو ذلك .

والثاني : أن لفظه لفظ الماضي ، ومعناه الاستقبال ، أي : ينزل جملة في ليلة مباركة هي ليلة القدر ، واختير لفظ الماضي إما لتحققه وكونه لا بد منه ; وإما لأنه حال اتصاله بالمنزل عليه يكون المضي في معناه محققا ; لأن نزوله منجما كان بعد نزوله جملة .

فإن قلت : ما السر في نزوله إلى الأرض منجما ؟ وهلا نزل جملة كسائر الكتب ؟ قلت : هذا سؤال قد تولى الله سبحانه جوابه ; فقال تعالى : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ( الفرقان : 32 ) يعنون : كما أنزل على من قبله من الرسل ، فأجابهم الله سبحانه بقوله : كذلك أي : أنزلناه كذلك مفرقا لنثبت به فؤادك ( الفرقان : 32 ) أي لنقوي به قلبك ; فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه ، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجانب العزيز ، فحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة ، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة نزول جبريل - عليه السلام - .

وقيل : معنى لنثبت به فؤادك لتحفظه ، فإنه - عليه السلام - كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، ففرق عليه لييسر عليه حفظه ; بخلاف غيره من الأنبياء ; فإنه كان كاتبا قارئا ، فيمكنه حفظ الجميع إذا نزل جملة .

" فإن قلت كان في القدرة إذا نزل جملة أن يحفظه النبي - صلى الله عليه وسلم - دفعة . قلت : ليس كل ممكن لازم الوقوع ، وأيضا في القرآن أجوبة عن أسئلة ; فهو سبب من أسباب تفرق النزول ; ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا .

وقال ابن فورك : قيل أنزلت التوراة جملة ; لأنها نزلت على نبي يقرأ ويكتب ، وهو [ ص: 325 ] موسى ، وأنزل القرآن مفرقا ; لأنه أنزل غير مكتوب على نبي أمي ، وقيل : مما لم ينزل لأجله جملة واحدة أن منه الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب لمن يسأل عن أمور ، ومنه ما هو إنكار لما كان . انتهى .

وكان بين أول نزول القرآن وآخره عشرون أو ثلاث وعشرون أو خمس وعشرون سنة ، وهو مبني على الخلاف في مدة إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد النبوة ، فقيل : عشر ، وقيل : ثلاث عشرة ، وقيل : خمس عشرة ، ولم يختلف في مدة إقامته بالمدينة أنها عشر ، وكان كلما أنزل عليه شيء من القرآن أمر بكتابته ، ويقول : في مفترقات الآيات : ضعوا هذه في سورة كذا وكان يعرضه جبريل في شهر رمضان كل عام مرة ، وعام مات مرتين .

وفي " صحيح البخاري " : قال مسروق : عن عائشة عن فاطمة - رضي الله عنهما - : أسر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة ، وأنه عارضني العام مرتين ، ولا أراه إلا حضور أجلي .

وأسنده البخاري في مواضع ، وقد كرر النبي - صلى الله عليه وسلم - الاعتكاف ، فاعتكف عشرين بعد أن كان يعتكف عشرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية